بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 24 يوليو 2025

حصاد الماء من الهواء باستخدام الطاقة الشمسية: تقنية واعدة لمواجهة أزمة المياه

 

حصاد الماء من الهواء باستخدام الطاقة الشمسية: تقنية واعدة لمواجهة أزمة المياه

مع تزايد أزمة المياه العذبة في العالم، خصوصًا في المناطق الجافة والصحراوية، برزت تقنيات مبتكرة تهدف إلى استخلاص المياه مباشرة من الهواء. من أبرز هذه التقنيات ما طوّره فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) بقيادة الدكتورة إيفلين وانغ[i]، وهو جهاز يعمل بالطاقة الشمسية بالكامل، يعتمد على مواد ماصّة للرطوبة لاستخلاص مياه صالحة للشرب حتى في البيئات ذات الرطوبة المنخفضة جدًا.

آلية العمل

يعتمد الجهاز على مبدأ امتصاص الرطوبة ثم تكثيفها باستخدام أشعة الشمس:

  1. الامتصاص الليلي: وذلك باستخدام مواد ماصّة للرطوبة عالية الكفاءة مثل الإطارات المعدنية العضوية(MOFs)  أو في الزيوليت النماذج الأحدث. وهي مواد تحتجز بخار الماء الموجود في الهواء، حتى عندما تكون نسبة الرطوبة منخفضة جدًا (10-20%).
  2. التحرير والتكثيف النهاري: يبدأ ذلك مع طلوع الشمس، إذ تعمل الحرارة الطبيعية على تسخين المواد الماصّة، فتطلق بخار الماء المحتجز. يُوجّه البخار نحو مكثّف بارد نسبيًا، حيث يتكاثف ويتحول إلى مياه نقية صالحة للشرب. أي أن النظام يعتمد كليًا على الطاقة الشمسية دون حاجة للكهرباء أو الأجزاء الميكانيكية.

 

كمية المياه الممكن الحصول عليها

تختلف كمية المياه المستخلصة يوميًا حسب نسبة الرطوبة ودرجة حرارة الجو، ويمكن تلخيصها كالتالي:

الاستخدام العملي

كمية الماء/م² سطح نشط/يوم

نسبة الرطوبة النسبية

شرب شخص واحد

0.2-0.8 ليتر

صحارى جافة جدًا

شرب أسرة صغيرة

2-3 ليتر

مناطق سكنية معتدلة

احتياجات شرب وطهي لعائلة كاملة

4-5 ليتر أو أكثر

مناطق ساحلية رطبة

تقديرات تعتمد على النماذج التجريبية الحديثة باستخدام الزيوليت

 

الكلفة الحالية والمتوقعة

  1. الكلفة الحالية (مرحلة النماذج التجريبية): في النماذج الأولى المعتمدة على MOFs  فهي باهظة جدًا (عدة آلاف الدولارات) بسبب ارتفاع سعر المواد (100 – 150 دولار/كغ). أما في النماذج الأحدث باستخدام الزيوليت أقل تكلفة بكثير، مع توقع سعر تجريبي يقارب 500-1000 دولار لجهاز منزلي بحجم نافذة ينتج بين 5 و 6 لترات يوميًا.
  2. الكلفة في حال الإنتاج الواسع: في حالة التصنيع على نطاق صناعي واستخدام مواد متوفرة ورخيصة، يمكن أن تنخفض الكلفة إلى أقل من 300-500 دولار للجهاز المنزلي. أما الكلفة التشغيلية فتكاد تكون صفرية لأنه يعتمد فقط على أشعة الشمس ولا يحتاج إلى كهرباء أو وقود.
  3. كلفة المياه المنتَجة: وفي حال الإنتاج الواسع، فقد تنخفض كلفة إنتاج 10 لترات من الماء إلى أقل من 00.5 إلى 1 دولار، مما يجعله حلاً منافسًا لشراء المياه المعبأة في المناطق النائية.

 

الصيانة وطول العمر

  • لا أجزاء متحركة: لا يحتاج الجهاز إلى صيانة ميكانيكية، وهذا ما يجعله متميزًا مقارنة بأجهزة تكثيف الهواء التقليدية.
  • تنظيف دوري بسيط: في المناطق الصحراوية، يُوصى بمسح الأسطح أو تنظيفها من الغبار كل أسبوعين إلى شهر.
  • عمر المواد الماصّة: يمكن أن تدوم المواد مثل الزيوليت أو MOFs لآلاف الدورات الحرارية (5 – 10 سنوات) قبل الحاجة إلى استبدالها أو تجديدها.
  • إعادة التنشيط: في حال تراجع الأداء، يمكن إعادة تنشيط المواد بتسخينها لفترة محددة، وهي عملية بسيطة يمكن تنفيذها منزليًا.

الخلاصة

هذه التقنية تمثل خطوة ثورية في مواجهة أزمة المياه العالمية، خصوصًا للمناطق القاحلة أو المجتمعات المعزولة التي لا تملك بنية تحتية لتحلية المياه أو نقلها. وعلى الرغم من أنها لا تزال في مرحلة التطوير والتجارب، فإن نتائجها المبكرة مبشّرة، ومع انخفاض التكاليف مستقبلاً يمكن أن تصبح مصدرًا أساسيًا للمياه في القرى النائية أو في حالات الكوارث الإنسانية.

 

الزيوليت (Zeolite) هو اسم يطلق على مجموعة من المعادن البلورية الطبيعية أو الصناعية التي تتميز بقدرتها العالية على امتصاص الجزيئات واحتجازها داخل بنيتها المجهرية الفريدة.

يتكون أساسًا من سيليكات الألومنيوم (Aluminosilicate)  المرتبطة بأيونات الصوديوم أو البوتاسيوم أو الكالسيوم. ويمتلك تركيبًا بلوريًا يشبه الإسفنج، مكون من شبكة ثلاثية الأبعاد من المسام والقنوات الدقيقة جدًا. هذه المسام تسمح له بامتصاص وحجز جزيئات صغيرة مثل الماء والغازات، ثم إطلاقها عند التسخين.

ومنه أنواع: الزيوليت طبيعي: موجود في الطبيعة ويستخرج من الصخور البركانية الرسوبية. والزيوليت الصناعي: يُنتج في المختبرات ويُصمم بخصائص معينة (مسامية وانتقائية عالية).

من خصائصه المميزة: امتصاص وانتقائية عالية: يستطيع امتصاص الماء حتى في الرطوبة المنخفضة؛ ويمكن إعادة استخدامه تسخينه لتحرير الماء أو الغازات المحتجزة وإعادة استخدامه لآلاف المرات؛ ويتمتع باستقرار حراري وكيميائي، فهو يتحمل درجات حرارة عالية ولا يتفكك بسهولة؛ كما أنه رخيص ومتوافر، خصوصًا مقارنة بالإطارات المعدنية العضوية (MOFs) المكلفة.

 

من استخداماته: حصاد المياه من الهواء: كما في الجهاز المطور في MIT. وكذلك في تنقية المياه والهواء، إذ يمتص الملوثات والمعادن الثقيلة. وفي تربية الحيوانات والزراعة بفضل امتصاصه الروائح والأمونيا في الحظائر. ويستخدم في الطب أحيانًا في إزالة السموم من الجسم. وفي تكرير النفط وكمحفز في العمليات الكيميائية.

وسبب استخدامه في حصاد الماء فلأنه يحتجز بخار الماء بكفاءة عالية، ثم يطلقه بسهولة عند التعرض للشمس أو التسخين الخفيف. ولأنه أيضاً رخيص جدًا مقارنة بالمواد المتقدمة الأخرى، ما يجعله مثاليًا للتطبيقات واسعة النطاق في المناطق الفقيرة.

 

ما هي الإطارات المعدنية العضوية (MOFs)؟ هي اختصار لـ Metal–Organic Frameworks وهي مواد مسامية فائقة التطور تتكون من شبكة ثلاثية الأبعاد من أيونات معدنية مرتبطة بجزيئات عضوية تعمل كـ"جسور"، مشكلةً بنية شبيهة بالإسفنج على المستوى النانوي.

غالبًا ما تتألف عقد هذه الشبكة من معادن مثل الزنك (Zn)، أو الألمنيوم (Al)، أو الزركونيوم (Zr)، أو النحاس (Cu). أما الروابط العضوية فهي مركبات كربونية عضوية طويلة تربط العقد المعدنية ببعضها.

تتميز بالمسامية العالية: إذ تمتلك هذه الأطر مساحات سطحية داخلية ضخمة جدًا (قد تصل إلى 7000 م² لكل غرام)، وهي مساحة تعادل تقريبًا ملعب كرة قدم كامل داخل غرام واحد من المادة!

 



[i] https://news.mit.edu/2018/field-tests-device-harvests-water-desert-air-0322

الاثنين، 16 يونيو 2025

التديّن الشكلاني في العالم العربي والمهجر: من أزمة الهوية إلى غياب المشروع الروحي

 

في الوقت الذي تشهد فيه البشرية تطورات غير مسبوقة في مجالات العلوم والسياسة والثقافة، تعيش المجتمعات العربية، سواء في أوطانها الأصلية أو في المهاجر، ما يمكن تسميته بـ"نكوص ديني شكلاني"، يعكس أزمة أعمق في الهوية والمشروع الحضاري.

ففي كثير من الدول العربية التي مرّت باضطرابات سياسية أو شهدت فشلًا تنمويًا وانهيارًا في العقد الاجتماعي، يمكن ملاحظة ازدياد مظاهر التدين الشكلاني: من انتشار الحجاب واللحى والشعارات الدينية، إلى خطاب عام يتمحور حول الهوية الإسلامية، لا بالضرورة كإطار قيمي وأخلاقي، بل كتعويض رمزي عن الشعور بالهزيمة أو الإقصاء.

بين السلطة والاحتجاج: مَن يوظّف الدين؟

هذا النكوص ليس بريئًا أو تلقائيًا، بل يتحرك ضمن ديناميات سياسية واجتماعية مركبة. ففي كثير من الحالات، تتبنى الأنظمة الحاكمة خطابًا دينيًا "معتدلًا" لتأمين شرعيتها، كما حدث في مصر بعد 2013، أو عبر استعمال الدين كأداة تهدئة في خطاب السلطة كما في الجزائر.

وفي المقابل، يظهر الدين كأداة احتجاج عند بعض التيارات الإسلامية التي ورثت فراغ اليسار والحركات المدنية، خصوصًا في العراق وسوريا. لكنه احتجاجٌ يفتقد، في أغلب الأحيان، التأطير الفكري والمشروع المجتمعي البديل، فيكتفي برموز وردود أفعال متشنجة.

انهيار البدائل وصعود الهوية: العودة إلى الدين، أو ما يبدو كذلك، لا تنبع دومًا من إيمان روحاني، بل من غياب بدائل أخرى. فمع فشل القومية والاشتراكية والليبرالية في تقديم حلول واقعية ومستدامة، بقي الدين المرجع الوحيد غير المهزوم في الوعي العام. ويزيد الطين بلة غياب مشاريع فكرية قادرة على تعبئة الجماهير، وافتقار الدولة لمقومات العدالة والكرامة والتوزيع العادل للثروة، مما يدفع الناس إلى الاحتماء بالدين بوصفه مصدرًا للمعنى والعدالة الرمزية. أما على مستوى التنشئة الاجتماعية، فإن المدارس والفضاء الإعلامي والوعظ الديني يعيدون إنتاج فهم شعائري ضيق للدين، يكرّس الطقوس ويهمّش العقل.

من الدين كهوية إلى الدين كتحرّر: لكن السؤال الجوهري يبقى: هل ما نشهده اليوم هو فعلًا "عودة إلى الإسلام"؟ الجواب يقتضي التمييز بين التديّن كهوية والإسلام كرسالة تحرّر وقيم. ما يسود اليوم في كثير من الأوساط هو استخدام للدين كدرع نفسي، لا كمشروع روحي. كوسيلة مقاومة للسلطة، أو امتداد لها، لا كتجربة إيمانية وجودية. والنتيجة المفارِقة أن ارتفاع منسوب الخطاب الديني لا يقابله انخفاض في مستويات الفساد أو تحسّن في التعليم أو صعود في القيم. بل العكس: في أجواء يعلو فيها صوت التدين، نجد أن القيم الإسلامية الأصيلة كالعدل والأمانة والشفافية والمسؤولية، تظل مغيّبة عن الواقع.

الجاليات في الغرب: من الإسلاموفوبيا إلى الهوية المأزومة. الأمر لا يقتصر على الداخل العربي. فحتى في الجاليات العربية والمسلمة في الغرب – أوروبا وأمريكا الشمالية – يلاحظ صعود في التدين الرمزي، خاصة بين الأجيال الشابة. لكنه، مرة أخرى، لا يعكس بالضرورة وعيًا روحانيًا أو عودة إلى جوهر الإسلام، بل غالبًا ما يكون رد فعل على الإقصاء الاجتماعي والإسلاموفوبيا. وفي هذا السياق، تتحول المظاهر الدينية إلى أدوات إثبات وجود، أكثر من كونها انعكاسًا لرحلة إيمانية. وتُستخدم كوسيلة للتمايز أو الانكفاء، مما يعمّق العزلة الثقافية ويحول الدين إلى جدار عازل بدل أن يكون جسرًا نحو الاندماج. وما يعمّق هذا التديّن المأزوم هو غياب خطاب ديني عقلاني، منفتح على التعدد والانتماء المركّب، قادر على نقل الدين من موقع الدفاع إلى أفق التحرر.

ما الحل؟ الحل لا يكمن في إقصاء الدين، بل في تحريره من التوظيف الأيديولوجي والشكلاني. المطلوب هو إعادة فهم الإسلام كمصدر للكرامة والعدالة والرحمة والانفتاح العقلي. ويمكن ذلك عبر أربع خطوات عملية:

  1. إصلاح الخطاب الديني: من خلال دعم قيادات دينية تفهم الواقع الجديد، وتتحدث بلغة الجيل وتربطه بالقيم لا بالمظاهر.
  2. تمكين التعليم النقدي: لإنتاج وعي ديني لا يخاف من الأسئلة، ويُشرك العقل في فهم النص.
  3. تطوير الفضاء الثقافي: لدعم الفنون والأدب والفكر الذي يظهر الدين كرافد إنساني، لا كمؤسسة انغلاق.
  4. الربط بين الدين والمواطنة: تأكيد أن الإسلام، كمنظومة قيم، لا يتناقض مع الانتماء الوطني والاندماج المجتمعي.

يمكن القول ختامًا أننا لسنا أمام صراع بين الدين والحداثة، بل أمام أزمة في فهم الدين ذاته، وفي كيفية توظيفه. المطلوب ليس مزيدًا من التديّن الشعائري، بل نقلة من الدين كهوية دفاعية إلى الدين كقوة تحرّر أخلاقي وفكري. فالدين، كما قال محمد عبده، لا يُعادى العلم ولا الحرية، وإنما يُعادى الجهل والاستبداد. والمجتمعات لا تتقدّم بعمق اللحى أو عدد المحجّبات، بل بعمق الفكرة، ورحابة العقل، واستقامة السلوك.

 

 

الدين والحداثة العربية: قراءة في أزمة الخطاب وسُبل تجاوزه



كثيرًا ما يُطرح سؤال: هل الإسلام هو سبب تخلّف العالم الإسلامي، ولا سيما في الدول العربية؟ وللإجابة عن هذا السؤال في واقعنا الراهن، لا بد من توضيح: عن أي إسلام نتحدث؟ فالإسلام الذي نعيشه اليوم في العالم العربي هو إسلام الممارسين له في أوضاعهم الثقافية والاجتماعية والسياسية. وهو، في الغالب، إسلام هوية، تعبّر عنه الرموز والطقوس أكثر مما يعكس مشروعًا روحيًا متكاملاً. وغالبًا ما يكون هذا الشكل من التدين تعويضًا عن الإحساس بالهزيمة والتهميش، ونتاجًا لفشل الأنظمة السياسية في بلورة مشروع حضاري جامع.

في جوهره، يتضمن الإسلام، كغيره من الأديان، قيماً عليا تدعو إلى العدل والعقل والمعرفة والتكافل والتحرر من مختلف أشكال العبودية والطغيان، كما تؤكد ذلك نصوصه التأسيسية. ومن هذه الزاوية، يمكن أن يشكّل الدين مصدر إلهام حضاري. لكن ما يُمارَس باسم الدين اليوم ليس بالضرورة ما جاء به في بداياته، بل هو فهم بشري وتاريخي تَشكّل عبر قرون، وارتبط بأنظمة السلطة والواقع الاجتماعي والثقافي الذي نشأ فيه.

وعندما يُحتكر تفسير الدين من قِبل سلطات دينية تقليدية ترفض النقد، وتُقدّس التراث بطريقة لا تاريخية، وتقاوم كل تأويل جديد، يتحوّل الدين إلى أداة لضبط السلوك، لا لتحرير العقل؛ وإلى معوّق للتجديد بدل أن يكون باعثًا عليه؛ وإلى مرجعية للجمود، لا دافعًا للإبداع. وبهذا المعنى، يمكن للفكر الديني أن يكون عائقًا للتقدّم، لا بسبب جوهر الدين نفسه، بل بسبب طرائق قراءته وتمثيله.

في قلب هذا النقاش، تبرز تحليلات عدد من المفكرين العرب المعاصرين مثل: مالك بن نبي، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، كأدوات تحليلية لفهم أزمة الوعي العربي المعاصر.
إنها قراءات لا تُؤخذ كمجرد أفكار نظرية، بل تُشكّل تشخيصًا حيًّا لتشابك الدين مع السياسة والثقافة والهوية في الخطاب العربي الراهن.

يرى مالك بن نبي أن الإسلام ليس مجرّد طقوس تُؤدّى، بل هو مشروع حضاري متكامل. وفي كتابه "شروط النهضة"، يؤكّد أن حضارة الإسلام لم تكن ممكنة إلا حين تفاعل الدين مع العقل والعمل. أما حين انفصل الدين عن مشروع الحضارة، تحوّل إلى طقوس شكلية، لا تنتج معرفة ولا تحفّز على الإبداع، وهو ما نعيشه اليوم في مجتمعات تفرط في الممارسات الشعائرية، بينما تغيب عن مشهدها مظاهر التقدّم العلمي والثقافي.

أما محمد أركون، في كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، فيذهب أبعد من بن نبي في دعوته إلى تفكيك البُنى المعرفية التي أنتجت الخطاب الديني التقليدي. فهو لا يرى المشكلة في "الدين" نفسه، بل في تاريخ تأويله. يؤكّد أن ما نمارسه اليوم ليس هو الإسلام في جوهره، بل هو تمثّل تاريخي موروث، بُني في سياقات سلطوية. ويكتب بوضوح: "الدين لا يقول شيئًا بنفسه، بل يُجعل يقول ما يُراد له أن يقول". وهنا يلتقي أركون مع صادق جلال العظم الذي رأى في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" أن الخطابات الدينية تحوّلت إلى إيديولوجيات سلطوية، تُستعمل لتثبيت الهويات ومنع النقد، وتكريس علاقة طاعة لا علاقة فهم. ويكتب العظم: "عندما يُجرَّد الدين من قيمه الروحية، ويُختزل إلى أداة ضبط اجتماعي، يتحول إلى عائق أمام الحرية والتقدم."

لكن عبد الله العروي، نظر إلى الدين من زاوية سياسية اجتماعية، معتبرًا أن المجتمعات المتأخرة تستخدم الدين كـبديل عن الفكر والسياسة. ففي كتابه "من ديوان السياسة"، يكتب: "حين تعجز الدولة عن تقديم حلول واقعية، يُستحضر الدين كأداة رمزية للتبرير، لا كرافعة للتجديد". وهنا تختلف مقاربته عن أركون والعظم من حيث تركيزه على وظيفة الدين داخل بنية الدولة أكثر من التركيز على التأويل نفسه.

من جانبه، ميّز نصر حامد أبو زيد في كتابه "نقد الخطاب الديني" بين الدين كنص مقدس وبين الفكر الديني كمنظومة بشرية تاريخية قابلة للنقد. وهو يرى أن تأزم الخطاب الديني المعاصر ينبع من تقديس التراث ورفض التعددية، مما يعطّل قدرته على مواكبة العصر.

وكان حسن حنفي أكثر اقترابًا من الفكر الإسلامي الإصلاحي من الداخل. فقد دعا في كتاباته المتعددة ضمن مشروع "التراث والتجديد"، إلى تفكيك الموروث الفقهي والكلامي انطلاقًا من أرضيته، مؤكدًا أن تجديد الفكر الديني لا يعني إنكار الدين، بل تحريره من البُنى السلطوية التي علقت به عبر القرون. وهو يلتقي هنا مع أركون من حيث ضرورة تفكيك التراث، ولكن بخطاب أكثر تصالحًا مع المرجعية الإسلامية.

هذا التنوع في المقاربات يكشف غنى المشهد النقدي العربي، ويشير إلى أن أزمة الفكر الديني ليست في جوهر الدين ذاته، بل في كيفية تداوله وإدماجه في الدولة والمجتمع والسياسة.

نحو تفعيل هذه القراءات: خطوات عملية

إن تفعيل هذا الفكر لا يتم بمجرد استحضاره، بل بتحويله إلى أدوات عملية لفهم الواقع وتحريكه. ويمكن ذلك عبر:
إصلاح الخطاب الديني من الداخل: بتطوير مناهج التعليم الديني بإدماج أدوات التأويل النقدي والقراءة التاريخية للنصوص. ودعم جهود تجديد الفقه والكلام بحيث تتفاعل مع قضايا العصر (البيئة، الحريات، الدولة، المواطنة...).
إصلاح التعليم والإعلام: وذلك بتدريس تاريخ العلوم وفلسفة الدين في المدارس والجامعات. وإنتاج محتوى إعلامي (أفلام، مسلسلات، وثائقيات، بودكاست...) يعرض هذه الأفكار بلغة شعبية مبسّطة تُخرجها من نخبويتها.
السياسة والثقافة: عبر تحقيق فصل حقيقي بين الدين والدولة، ليس بإقصاء الدين، بل بتحريره من الاستخدام التبريري السلطوي. وكذلك دعم حرية التأويل وتعدد القراءات، بدلاً من فرض صوت واحد باسم الدين الرسمي.
المثقف والمجتمع المدني: وذلك بدعوة المثقفين إلى المشاركة لا الاكتفاء بالنقد: في السياسات التعليمية، في إعداد البرامج الدينية، وفي تطوير منابر الحوار. وأيضاً اعتبار أن نشر الوعي لا يعني فرض رؤى معينة، بل فتح المجال أمام السؤال الحر: من يملك حق تفسير النص؟ هل الدين أداة تحفيز أم تجميد؟ ما علاقة الإيمان بالعقل؟

وفي الخلاصة علينا أن نطرح على أنفسنا سؤال: أيُّ دين نريد؟ إن العودة إلى قراءات هؤلاء المفكرين ليست تكرارًا نظريًا، بل دعوة لإعمال العقل الجماعي العربي. فالرهان اليوم ليس في معركة بين "دين وحداثة"، بل في صياغة علاقة متوازنة بين الإيمان والعقل، بين النص والتاريخ، بين الروح والحرية. والسؤال المركزي الذي يُفترض أن نحمله معنا دائمًا هو: هل الدين في حياتنا قوة محرِّكة للتجديد؟ أم سلطة تبريرية للجمود؟