بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

توزيع الثروات... من مقدمة ترأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي

إن توزيع الثروات هو إحدى القضايا الأكثر حيوية ونقاشاً في أيامنا الراهنة. ولكن ماذا نعرف حقيقة عن تطور هذا التوزيع على المدى البعيد؟ وهل يقود تراكم رأس المال الخاص بما لا يمكن تجنبه إلى تركيز أكبر دائماً للثروة والسلطة في بعض الأيدي كما اعتقد ماركس في القرن التاسع عشر؟ أو أن القوى التي توازن النمو والتنافس والتقدم التقني تقود عفوياً إلى خفض التفاوت بين الناس وإلى استقرار متناغم في المراحل المتقدمة من التنمية كما ظن ذلك كوزنيتس في القرن العشرين؟ وما الذي نعرفه فعلاً عن تطور توزيع العوائد والثروات الوطنية منذ القرن الثامن عشر، وما هي الدروس المستقاة للقرن الواحد والعشرين؟

إنها الأسئلة التي أحاول الإجابة عليها في هذا الكتاب. ولنقل من الآن: إن الأجوبة المقدمة ناقصة وغير كاملة. ولكنها مؤسسة على بيانات تاريخية ومقارنة، أكثر اتساعاً من كل الأعمال السابقة، وتمتد على مدى ثلاثة قرون وأكثر من عشرين بلداً، وعلى إطار نظري محدّث يسمح بفهم التوجهات والآليات المساهمة على نحو أفضل. 

سمح النمو المعاصر وانتشار المعارف بتجنب الجهنم الشيوعية، ولكنهما لم يغيرا البنى العميقة لرأس المال والتفاوت بين الناس –أو على الأقل ليس بقدر ما أمكننا تخيله في العقود المتفائلة وما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ أن كانت نسبة مردود رأس المال تتجاوز دائماً نسبة نمو الإنتاج والدخل، وهو ما كان عليه الحال حتى القرن التاسع عشر وما يهدد بقوة أن يصبح الناظم للقرن الواحد والعشرين، وقد أنتجت الرأسمالية آلياً تفاوتات غير محتملة وعشوائية، مسقطة على نحو جذري قيم الجدارة التي بنيت عليها مجتمعاتنا الديموقراطية. ومع هذا فتوجد وسائل بحيث تتمكن الديموقراطية والصالح العام من استعادة التحكم برأس المال والمنافع الخاصة، وكل هذا مع استبعاد للنكوص إلى مذاهب الحمائيات والقوميات. يحاول هذا الكتاب أن يقدم مقترحات بهذا الاتجاه استناداً إلى الدروس والتجارب التاريخية التي تشكل سرديتها النسيج الأساسي للكتاب.
جدل بلا مصدر؟
اعتمد الجدل الفكري والسياسي خلال فترة طويلة حول توزيع الثروات على كثير من الأفكار المسبقة والقليل من الوقائع. ومن المؤكد أنه سيكون من الخطأ التقليل من أهمية المعارف الحدسية التي يطورها كل واحد، في زمنه، بخصوص المداخيل والإرث في غياب تام لإطار نظري وإحصائيات معبّرة. سنرى مثلاً أن السينما والأدب، وعلى نحو خاص الرواية في القرن التاسع عشر، تغص بمعلومات دقيقة للغاية عن مستويات الحياة وعن ثروة الجماعات الاجتماعية المختلفة، وخاصة البنية العميقة للتفاوتات ومبرراتها وآثارها في حياة كل فرد. فروايات جان أوستن وبلزاك، على نحو خاص، تقدم لنا لوحات مؤثرة عن توزع الثروات في المملكة المتحدة وفرنسا في السنوات 1790-1830. وكان لكلا الروائيان معرفة وثيقة بتراتبية الإرث الموجود حولهما. ويعرفان تماماً حدوده الخفية، ويعرفان العواقب الصارمة على الرجال والنساء، وعلى استراتيجياتهم في التحالف وعن آمالهم وبؤسهم. ويعرضان ما يترتب على ذلك بصدق وقوة استدعاء لا يمكن لأي إحصاء أو تحليل دقيق أن يعادلهما. 
وعليه فإن قضية توزيع الثروات هي قضية هامة لا يجوز تركها لعلماء الاقتصاد والاجتماع والمؤرخين والفلاسفة لوحدهم. وهي لحسن الحظ قضية تهم الجميع. والحقيقة الواقعية والجسدية للتفاوت تظهر جلية لهؤلاء الذين يعيشونها، وتستثير على نحو طبيعي أحكاماً سياسية قاطعة ومتناقضة. فكل من الفلاح والمالك والعامل والصناعي والموظف أو صاحب المصرف، ومن موقع المراقبة الذي يشغله، يرون أشياء هامة عن ظروف الحياة لهذا المرء أو ذاك، وعن علاقات السلطة والهيمنة بين المجموعات الاجتماعية، ويشكلون مفهومهم الخاص عما هو عادل وعما هو ظالم. وسيكون دائماً لقضية توزيع الثروة هذه البعد الذاتي والنفسي البارز، وهو بُعدٌ سياسي ومولد للأزمات بما لا يمكن اختزاله، ولا يمكن لأي تحليل يدعي العلمية أن يخفف من وطأته. لحسن الحظ أن الديموقراطية لن يحل محلها أبداً جمهورية الخبراء.
ومع هذا، فإن قضية التوزيع تستحق أيضاً أن تُدرس بطريقة منتظمة ومنهجية. وفي غياب المصادر والمناهج والمفاهيم المعرّفة بدقة، فإنه من الممكن قول أي شيء ونقيضه. والتفاوتات بالنسبة للبعض هي متزايدة دائماً، وأن العالم بالتعريف هو عالم غير عادل. وبالنسبة لآخرين فإن التفاوتات هي متناقصة طبيعياً، أو أنها متناغمة عفوياً، ويجب على وجه الخصوص عدم القيام بأي شيء يؤدي إلى تعكير صفو هذا التوازن السعيد. وفي مواجهة جدل الطرشان هذا، حيث يبرر غالباً كل معسكر كسله الفكري بالكسل الفكري للمعسكر المقابل، يوجد دور لعملية بحث منتظم ومنهجي – إن لم يكن علمياً بالمعنى الكامل للكلمة. ولن يضع التحليل الدقيق أبداً حداً للأزمات السياسية الحادة التي تثيرها التفاوتات. إن البحث في العلوم الاجتماعية هو، وسيكون دائماً، متعثراً وغير كامل. ولا يدعي أنه سيغير الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ لتكون علوماً دقيقة. ولكن بإرساء الوقائع والثوابت بأناة وعبر التحليل الواعي للآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تبرز التفاوتات، يمكن لعلم الاجتماع أن يزود الجدل الديموقراطي بمعلومات على نحو أفضل ليركز على الأسئلة الجيدة. ويمكنه أن يساهم باستمرار بتعريف مصطلحات الجدل، وأن يكشف عن الثوابت الجاهزة والخدع، وأن يعاد اتهام كل شيء ووضعه موضع التساؤل. وبالنسبة لي فإن هذا هو دور يمكن ويجب على المفكرين أن يمارسوه، ومن بينهم الباحثين في العلوم الاجتماعية، والمواطنين وآخرين، من هؤلاء المحظوظين بأن لديهم من الوقت أكثر مما لدى الآخرين لتخصيصه للدراسة (ويمكن أن يُدفع لهم أجور بهذا الخصوص –وهو حظ كبير).
ولكن، وعلى مدى وقت طويل، فمن الواضح أن الأبحاث الدقيقة المخصصة لتوزيع الثروات تقوم نسبياً على قليل من الوقائع الراسخة، وعلى الكثير من التكهنات النظرية البحتة.

بقي أن نقول إن هذا المقال والمقالات الثلاث السابقة (مالتوس، ريكاردو، ماركس) هي جزء من مقدمة كتاب توما بيكتي بعنوان "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" وهو مترجم إلى العربية وإلى نحو 15 لغة أخرى. كتاب جدير بالقراءة لأصحاب الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية. 

 

نظريات في الاقتصاد...ماركس: مبدأ التراكم اللامحدود



من كتاب: رأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي

في عام 1867 نشر ماركس الجزء الأول من كتاب "رأس المال"، أي بعد نصف قرن تماماً من نشر ريكاردو لمبادئه، ولكن كانت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية حينها قد تبدلت كثيراً مع مرور الوقت: فلم يعد القصد معرفة فيما إذا كانت الزراعة قادرة على إطعام السكان المتزايد عددهم أو إذا كان سعر الأرض سيزداد لدرجة كبيرة، ولكن كان القصد بالأحرى فهم دينامية رأس المال الصناعي الذي كان مزدهراً.

كان الأمر الأكثر تأثيراً في ذلك الوقت هو بؤس الطبقة العاملة الصناعية. فقد تجمّع العمال في الأكواخ. وكانت أيام العمل طويلة والرواتب مخفضة جداً. بؤس حضري جديد أخذ في التشكل، أكثر سوءاً من البؤس الريفي للنظام السابق في بعض جوانبه. فروايات ذلك الوقت مثل جرمينال، وأوليفر تويست والبؤساء لم تولد من مجرد خيال الروائيين، فالقوانين كانت فقط تمنع تشغيل الأطفال دون الثامنة في المصانع –في فرنسا عام 1841- أو من هو أقل من عشر سنوات للعمل في المناجم  في المملكة المتحدة عام 1842. وقد نشر الدكتور فيليرمي "جدول الحالة الفيزيائية والمعنوية لعمال المصانع" في فرنسا عام 1841، الذي يصف واقعاً رديئاً مماثلاً لما نشره إنجلز عام 1845 بعنوان "حالة الطبقة العاملة في إنكلترا". 

وفي الواقع فإن كل المعطيات التي نملكها اليوم تشير إلى أنه كان يجب انتظار النصف الثاني -أو حتى الثلث الأخير- من القرن التاسع عشر لبلوغ زيادة معقولة في القدرة الشرائية للأجور. فبين سنوات 1800-1810 إلى 1850-1860 بقيت مستويات الرواتب منخفضة جداً –قريبة من أجور القرن الثامن عشر والقرون السابقة، وحتى أقل في بعض الحالات. وهذه الفترة الطويلة من جمود الرواتب، التي كانت موجودة في المملكة المتحدة وفي فرنسا، مثيرة للاستغراب بقدر النمو الاقتصادي المتسارع في تلك الفترة. وحصة رأس المال –الأرباح الصناعية، وعائدات أجور الممتلكات، وأجور البيوت في المدن- في الدخل القومي، ضمن حدود إمكانية تقديره من المصادر الناقصة التي نمتلكها اليوم، كانت تتزايد بقوة في البلدين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتنخفض قليلاً في العقود الأخيرة من ذلك القرن، عندما ستلحق الرواتب جزئياً تأخرها في الزيادة. والمعطيات التي تمكّنا من جمعها تشير على كل بأنه لم يحصل أي تراجع بنيوي للامساواة قبل الحرب العالمية الأولى. أما بين السنوات 1870-1914، فشهدنا استقراراً في اللامساواة على مستوى مرتفع جداً، وفي بعض الجوانب إلى دوامة من اللامساواة بلا نهاية، مترافقة خصوصاً مع تركز أكثر فأكثر شدة للثروات العامة. ومن الصعب القول إلى أين كان لهذا المسار أن يقود بدون الهزات الاقتصادية والسياسية الرئيسية التي نجمت عن انفجار 1914-1918، التي تظهر على ضوء التحليل التاريخي، ومع إمكانية القراءة المتأنية التي يمكننا أن نقوم بها اليوم، باعتبارها القوى الوحيدة التي قادت إلى خفض اللامساواة منذ الثورة الصناعية.

كان ازدهار رأس المال والأرباح الصناعية، مقارنة مع ركود العائدات الناجمة عن الذهاب إلى العمل، هي حقيقة واضحة لدرجة أنه في السنوات 1840-1850 كان الكل واعياً تماماً لهذه المسألة. وفي هذا السياق نشأت الحركات الشيوعية والاشتراكية الأولى. والتساؤل المركزي هو تساؤل بسيط: ما الفائدة من تطوير الصناعة، وبما تفيد كل التجديدات التكنولوجية، وكل هذا العمل، وكل هذه الهجرات، إذا كان بعد انقضاء أكثر من نصف قرن من النمو الصناعي فإن حالة القوى العاملة هي بائسة دائماً، وكل ما كان بوسعنا عمله هو منع العمل في المصانع للأطفال لمن تقل أعمارهم عن 8 سنوات؟ وهنا يبدو قصور النظام الاقتصادي والسياسي القائم جلياً. والسؤال التالي مماثل بالقدر نفسه: ماذا يمكن أن نقول عن تطور مثل هذا النظام على المدى البعيد؟

يكرس ماركس نفسه لهذه المهمة. وفي عام 1848، قبيل "ربيع الشعوب"، نشر "البيان الشيوعي"، وهو نص قصير ومثير يبدأ بالجملة الشهيرة "شبح يشغل أوروبا، إنه الشبح الشيوعي"، وينتهي بالتنبؤ الثوري الشهير "إن تطوير الصناعة يقوض، تحت أقدام البورجوازية، الأرض نفسها التي أقامت عليها نظامها في الإنتاج والتملك. وقبل كل شيء فإن البورجوازية تنتج حفاري قبورها. وإن سقوطها وانتصار البروليتارية لا يمكن تجنبهما".

وفي العقديين التاليين لذلك، جهد ماركس في كتابة كتاب ضخم كان عليه تبرير هذه الخلاصة وتأسيس التحليل العلمي للرأسمالية وانهيارها. ولكن هذا العمل لم يكتمل: فالجزء الأول لرأس المال نشر عام 1867، ولكن ماركس توفى عام 1883 دون أن ينتهي من الجزأين الآخرين، اللذان نشرهما صديقه أنجلز، انطلاقاً من مقاطع لمخطوطات غامضة أحياناً تركها ماركس.

وكما في حالة ريكاردو، فإن ماركس يريد بناء عمله على تحليل التناقضات المنطقية الداخلية للنظام الرأسمالي. ويريد بهذا أن يميز نفسه عن كل من الاقتصاديين البورجوازيين (الذين يرون في السوق نظاماً يضبط نفسه بنفسه، أي أنه قادر على أن يتوازن بنفسه، أي دون تباعد كبير، على شاكلة "اليد الخفيّة" لآدم سميث و"قانون الأسواق" لساي)، وعن الاشتراكيين الطوباويين الذين بحسبه يرضون بإدانة البؤس العمالي، دون أن يقترحوا دراسة علمية حقيقية عن السيرورات الاقتصادية القائمة. وفي الخلاصة، ينطلق ماركس من نموذج ريكاردوي لسعر رأس المال ومن مبدأ الندرة، ويدفع أكثر باتجاه تحليل دينامية رأس المال، معتبراً عالماً يكون فيه رأس المال صناعياً قبل كل شيء (آلات، وتجهيزات، الخ) وليس رأس مال أراضي، وبإمكانه إذاً أن يتراكم بلا نهاية. وعليه فإن خلاصته الرئيسية هي ما يمكن أن نسميه "مبدأ التراكم اللانهائي"، أي التوجه الحتمي لتراكم رأس المال وتركزه بكميات هائلة، بدون حدود طبيعية –ومنه النتيجة المرعبة التي يتوقعها ماركس: إما أن يحدث خفض مستمر لعائد رأس المال (الذي يقتل محرك التراكم ويقود الرأسماليين إلى التمزق بين بعضهم)، وإما أن تتزايد حصة رأس المال في الناتج الوطني بلا نهاية (الذي يقود العمال خلال فترات قصيرة نوعاً ما إلى الاتحاد والثورة). وفي كل الأحوال، فلن يكون هناك أي توازن اجتماعي واقتصادي أو سياسي مستقر.

وهذا المصير الأسود لم يتحقق بأكثر من ذلك الذي توقعه ريكاردو. فاعتباراً من الجزء الثالث للقرن التاسع عشر، أخذت الرواتب بالازدياد: التحسن في القوة الشرائية بدأ يعم، وهذا ما غيّر الواقع جذرياً، حتى مع البقاء الكبير لللامساواة التي استمرت في بعض جوانبها بالتزايد حتى الحرب العالمية الأولى. حدثت الثورة الشيوعية فعلاً، في أكثر بلدان أوروبا تخلفاً، في بلد بدأت فيه الثورة الصناعية للتو. في الوقت الذي أخذت فيه البلدان الأوربية الأكثر تقدماً في سبر طرق أخرى، اجتماعية ديموقراطية، لحسن طالع شعوبها. يهمل ماركس تماماً، مثل المؤلفين السابقين، إمكانية التقدم التكنولوجي المستديم وتزايد الإنتاجية المستمر، وهي قوة تسمح بموازنة سيرورة التراكم والتراكم المتزايد لرأس المال الخاص –ضمن حدود ما. ومما لا شك فيه أنه كانت تنقصه البيانات الإحصائية لتحسين تنبؤاته. وبلا شك فهو ضحية واقع أنه كان قد ثَبّت نتائجه منذ عام 1848، حتى قبل أن يبدأ بالأبحاث القابلة لتبرير هذه النتائج. ومن الواضح أن ماركس كان يكتب في جو من الإثارة السياسية الكبيرة، الذي يقود أحياناً إلى طرق مختصرة متسرعة يصعب الإفلات منها –ومنه الضرورة المطلقة لربط المقولات النظرية بالمصادر التاريخية المكتملة بقدر الإمكان. وبدون اعتبار أن ماركس لم يطرح أبداً على نفسه السؤال عن التنظيم السياسي والاقتصادي لمجتمع حيث تكون الملكية الخاصة لرأس المال قد اختفت تماماً –مسألة معقدة فيما لو وجدت، كما تظهر الارتجالات الشمولية الدراماتيكية للأنظمة التي سارت بذاك الطريق.

وبالرغم من كل هذه المحدوديات، فإن التحليل الماركسي يحتفظ ببعض الألمعية في العديد من الجوانب. فأولاً ينطلق ماركس من سؤال حقيقي (تركز غير معقول للثروات خلال الثروة الصناعية) ويحاول الإجابة، بالوسائل التي كان يمتلكها: وهذه طريقة يحسن باقتصاديي اليوم أن يحذوا حذوها. ومن ثم خصوصاً، مبدأ التراكم اللامحدود الذي دافع عنه ماركس يتضمن حدساً رئيسياً لتحليل القرن الحادي والعشرين مثلما في تحليل القرن التاسع عشر، وهو حدس أكثر إثارة بطريقة ما من مبدأ الندرة الغالي على ريكاردو. ومن اللحظة التي يكون فيها معدل النمو السكاني وتكون فيها الإنتاجية ضعيفة نسبياً، فإن الثروات العامة المتراكمة في الماضي تأخذ على نحو طبيعي أهمية بالغة. وهي هائلة من حيث القدرة الكامنة فيها وتسبب عدم الاستقرار في المجتمعات ذات الصلة. وبمعنى آخر، فإن نمواً ضعيفاً لا يسمح إلا بموازنة ضعيفة لمبدأ التراكم اللامحدود الماركسي: سينجم عنه توازن ليس مرعباً بالقدر الذي توقعه ماركس، ولكنه ليس أقل تشويشاً. يتوقف التراكم عند نقطة معينة، ولكن هذه النقطة يمكنها أن تكون عالية للغاية ومسببة لعدم الاستقرار. والارتفاع الشديد لقيمة الثروات الخاصة، التي تقاس بسنوات عائد وطني، الذي نشهده منذ سنوات 1970-1980 في مجموعة من البلدان الغنية –خاصة في أوروبا واليابان، ينتج مباشرة عن هذا المنطق.




الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

نظريات الاقتصاد... مبدأ الندرة لريكاردو

من كتاب: رأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي


 كانت رؤية معظم المراقبين الاقتصاديين في القرن الثامن والتايع عشر –وليس فقط مالتوس ويونغ- سوداوية نسبياً، مروعة حتى، بخصوص التطور على المدى البعيد لعملية توزع الثروات وللبنية الاجتماعية. وهذه كانت حال دافيد ريكاردو وكارل ماركس، وهما بلا أدنى شك الاقتصاديين الأكثر تأثيراً في القرن التاسع عشر، اللذان يتخيلان بأن مجموعتين اجتماعيتين صغيرتين – ملاك الأراضي لدى ريكاردو، ورأسماليين صناعيين لدى ماركس- كانت في طريقها حتماً إلى أن تملك جزءاً متزايداً دائماً من الإنتاج والدخل[1].

وبالنسبة لريكاردو، الذي نشر في عام 1817 "مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة"، حيث يتوجه الهم الأساسي نحو زيادة ثمن الأرض ومستوى إيجار الأملاك على المدى البعيد. ومثله مثل مالتوس، لا يملك عملياً أي مصدر إحصائي جدير بهذه التسمية. ولكن هذا لا يمنعه من أن يكون له معارف مقربة من رأسمالية زمانه. وهو سليل عائلة ماليين يهود من أصول برتغالية، ويبدو من طرف آخر أنه كانت له أحكاماً سياسية مسبقة وإن كانت أقل من مالتوس أو يونغ أو سميث. وهو متأثر بنموذج مالتوس ولكن يمضي بالتفكير بعيداً. فقد اهتمّ على وجه الخصوص بالمتناقضة المنطقية الآتية: اعتباراً من اللحظة حيث يكون التزايد السكاني والإنتاجي مستمراً على نحو مستديم، فإن الأرض تنحو لأن تكون نادرة أكثر فأكثر بالنسبة للملكيات الأخرى. ومن الضروري أن يقود قانون العرض والطلب إلى ارتفاع مستمر في ثمن الأرض والإيجارات المدفوعة لملاك الأراضي. ومؤقتاً، فإن هؤلاء ستكون لهم حصة أكثر فأكثر أهمية من العائد الوطني، وبقية السكان سيكون لهم حصة ستتناقص شيئاً فشيئاً، وهذا سيكون مدمراً للتوازن الاجتماعي. وبالنسبة لريكاردو فإن المخرج المنطقي والسياسي المناسب الوحيد هو الضريبة المتزايدة بلا توقف على إيجار الأملاك.

سنرى أن هذه النبوءة المتشائمة ليست محققة: فمن الصحيح أن أجور الأملاك قد بقيت لفترة عند مستويات مرتفعة، لكن في النهاية فإن قيمة الأراضي الزراعية قد تراجعت لا محالة بالنسبة إلى أشكال أخرى من الثروات، وذلك مع التراجع المستمر لوزن الزراعة في العائد الوطني.  لم يكن لريكاردو، الذي كتب في سنوات 1810، بالتأكيد أن يتوقع مسبقاً حجم التقدم التقني والنمو الصناعي الذي كان في طريقه للحدوث في القرن الذي كان في بدايته. والشيء نفسه بالنسبة لمالتوس ويونغ، فلم يتمكنا من تخيل بشرية متخلصة تماماً من القيود الغذائية والزراعية.

ولكن حدسه عن ثمن الأرض لا يزال مثيراً للاهتمام: إن "مبدأ الندرة" الذي يعتمد عليه كان له القدرة على السير ببعض الأسعار لتأخذ قيماً عظمى خلال عقود طويلة. وهذا يمكن أن يكون كافياً إلى حد كبير لزعزعة استقرار مجتمعات بأكملها. يمارس نظام الثمن دوراً لا يمكن الاستعاضة عنه لتنسيق أفعال ملايين الأفراد –وربما مليارات الأفراد في إطار اقتصادالعالم الجديد. المشكلة هي أنه لا يعرف لا حداً ولا أخلاقاً.
سيكون من الخطأ إهمال أهمية هذا المبدأ بالنسبة لتحليل التوزيع العالمي للثروات في القرن الواحد والعشرين –ويكفي للاقتناع بذلك باستبدال نموذج ريكاردو لثمن الأرض الزراعة ووضع السكن الحضري في العواصم الكبيرة مكانه، أو ثمن البترول. وفي الحالتين، فإذا مددنا على الفترة 2010-2050 أو 2010-2100 التوجه الملاحظ  أثناء الفترة 1970-2010، فهذا سيصل بنا إلى لا توازن اقتصادي واجتماعي وسياسي ضخم للغاية، بين البلدان وداخل البلدان نفسها، الذي لا يبتعد كثيراً عن جعلنا نفكر في الجحيم الريكاردوي.

من المؤكد، من حيث المبدأ، وجود آلية اقتصادية بسيطة جداً تسمح بتوازن العملية قوامها العرض والطلب. فإذا كانت بضاعة ما معروضة بما لا يكفي وإذا كان سعرها مرتفع جداً، فسيتراجع الطلب عليها، وهذا ما سيدفع إلى التوازن. بكلام آخر، إذا ارتفعت أسعار العقارات والبترول، فيكفي حينئذ الذهاب للسكن في الريف، أو استعمال الدراجة (أو الاثنين معاً). ولكن شيئاً آخر غير هذا يمكن أن يكون مزعجاً ومعقداً، وأن يحتاج التصويب إلى عدة عقود من السنين، التي أثناءها يمكن لمالكي العقارات والبترول مراكمة ديون على الآخرين كبيرة لدرجة أن هؤلاء المالكين سيجدون أنفسهم ملاكاً دائمين لكل ما يمكن امتلاكه، بما في ذلك الريف والدراجات[2]. وكما هي العادة، فإن الأسوأ ليس بالمؤكد أبداً. إنه لمن المبكر جداً القول للقارئ بأنه سيدفع أجرة بيته لأمير قطر قبل عام 2050: هذا السؤال سنتناوله في حينه، والجواب الذي سنقدمه هو بالتأكيد جواب غير قطعي، ولكنه مطمئن وسطياً. ومن المهم إدراك أن موضوع العرض والطلب لا يمنع إطلاقاً مثل تلك الإمكانية، أي تباعد كبير ودائم لتوزيع الثروة المرتبط بالحركات القصوى لبعض الأسعار النسبية. هذه هي الرسالة الأساسية لمبدأ الندرة الذي قدمه ريكاردو. نحن لسنا مجبرين على اللعب بالنرد.



[1] يوجد بالطبع مدرسة ليبرالية تنحو أكثر نحو التفاؤل: يبدو أن أدم سميث مجبول بها، وفي الواقع لا يسأل نفسه حقيقة السؤال الخاص بإمكانية التمايز بتوزع الثروات على المدى البعيد. وكان هذا هو حال جان باتيست ساي (1767-1832)، الذي يعتقد هو أيضاً بالتناغم الطبيعي.
[2] الاحتمال الآخر هو بالطبع زيادة العرض، باكتشاف مصادر أخرى للنفط (أو لمصادر جديدة لطاقة، أكثر نظافة إن أمكن)، أو بخفض كثافة السكن الحضري (مثل بناء مباني بعدد طوابق أكثر)، والذي سيخلق مشاكل أخرى. وفي كل الأحوال فإن هذا سيستغرق عقوداً.