بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

مجتمع بلا أب ولا زوج: مجتمع النا الصيني



عرفت المجتمعات الزواج منذ زمن قديم، وقامت الأسرة على هذا الزواج الذي تكون ثمرته الأولاد الذين يرعاهم الأم والأب. وهذه الصيغة ينفرد بها الإنسان من بين الكائنات الحيّة، التي يعرف بعضها نوعاً من الزواج طوال فترة التكاثر ليفترقا من بعدها في الغالب كل في حال سبيله. ولكن الزواج هو ليس النموذج الوحيد في المجتمعات البشرية، حتى المعاصرة منها.

ففي بعض مناطق الصين مثلاً تعيش مجموعات بشرية يطلق عليها اسم مجتمع "النا" NA (وتسمى أحيانا بالموزو Moso). وفي هذا المجتمع لا زواج بالمعنى المعروف لدى الغالبية الساحقة من المجتمعات، بمعنى عيش رجل وامرأة تحت سقف واحد على أساس مشروع حياة مشتركة تتشكل عبره أسرتهما. ففي مجتمع النا يحدث تلاق بين رجل وامرأة، ربما يحبان بعضهما أو يرضيان ببعضهما. وعلى إثر الالتقاء يحدث حمل وولادة. الطفل المولود سيكون تابعاً للأم يحمل اسم عائلتها ويقوم على تربيته أخواله، الذين يحنون عليه كما لو كان ولدهم. والحال هو نفسه بالنسبة للأخوال، إذ لا يعيش أولادهم معهم وإنما مع أخوالهم!
 
تمثيل في متحف لرجل يتسلق الجدار سراً للالتقاء بعشيقته لدى مجتمع النا
يسمى هذا المجتمع بالمجتمع الأخوي لأنه يتكون من أخوة وأخوات من أجيال مختلفة يشكلون أسرة. يرثون بعضهم بشكل طبيعي (ومن ثمّ لا مشاكل وراثة!)، ويعملون معاً متكاتفين بسلام. طبعاً لا علاقة تناسل بينهم على الإطلاق لأنه أمر محرّم، وإنما مع شخص من أخوية أخرى. والعشاق أو المعجبين ببعضهم لا ينتمون إلى الأخوية نفسها، ويعيش كل منهما في عائلة (أخوية) مستقلة. وغالباً ما تكون العلاقة بين رجل وامرأة علاقة سرية لا يعلم بها الآخرون، وليس للرجل أن يعرف أولاده، ولا للأولاد أن يعرفوأ أباهم، فهذا مجتمع بلا آباء!

في هذا المجتمع يقسّم العمل بين الرجال والنساء. فأعمال المنزل وجمع الحطب والنسج هو من اختصاص النساء، أما الرجال فعليهم الأعمال التي تتطلب جهداً فيزيائياً مثل بناء البيوت والصيد. أما أعمال الأرض فيتعاون الطرفان عليها. ولكل أخويّة زعيمان، امرأة ورجل. المرأة الزعيمة هي التي تدير الأخوية داخلياً بما في ذلك الشأن الاقتصادي، أما الزعيم الرجل فيهتم بالشؤون الخارجية من علاقات مع الأخويات الأخرى في الوسط الذي يعيشون فيه.

بقي أن نقول إنه من المهم أن يكون المولود طفلة لأنه يضمن استمرارية الأخوية، فإذا كان المواليد كلهم من الذكور فهذا يعني اندثار الأخوية، ولكن ميلاد الذكور هام أيضاً لأنه يضمن تربية أبناء أخواته.

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

بعض من تاريخ تطور فن اللوحة



تطور فن اللوحة على مر الزمن، من العصور القديمة، الفارسية والإغريقية، حتى يومنا هذا بلا انقطاع. ولكن التطور الأكبر في فن اللوحة حدث في عصر النهضة الأوروبية مع التخلي عن الترميز البصري الذي كان مستعملاً وذلك لصالح لغة صورية جديدة استمرت حتى القرن العشرين مع دخول الفن التجريدي والتشكيلي. ومن صفات تلك اللغة الجديدة، التي بدأت في عصر النهضة، هي سعيها إلى خلق صور بأقرب ما تكون مما تراه العين. إذ بدأ استخدام المنظور الحسابي والمنظر الجوي والخداع البصري، والتزين الجمالي، وتصويرها للأشخاص والقصص أو المواضيع الدنيوية. لتنتقل بذلك اللوحة من الشرح إلى التصوير.

ولفهم هذا التغير العميق في طريقة التعبير فيجب النظر إلى السياق الاجتماعي والتاريخي. ففن اللوحة لم يكن بقادر على إيصال الرسالة من محررها إلى متلقيها. فقد مهّد الانتقال من القرون الوسطى إلى النهضة إلى بروز الفردية وإعطاء أهمية للشخص بحد ذاته، بعد أن وضعت حرب المائة عام في أوروبا نهاية للنظام الاقطاعي الذي حكم الاستقرار الاجتماعي على مدى قرون. وأصبحت الدول دولاً وطنية لها جهاز إداري معقد أصبح فيه الناس أفراداً بالمعنى العام للكلمة، أي أصبح كل فرد كياناً مستقلاً تجاه الدولة له سجلاته الخاصة به. وتمكنت الأسر الحاكمة من مجابهة السلطة الروحية للكنيسة، وانتشرت المعرفة بفضل الجامعات والمطابع لاحقاً التي سمحت بوصول التيار الفكري إلى مآلاته.

هذا التحول الاجتماعي لم يجر بالتأكيد بين ليلة وضحاها، وكذلك الانتقال من فن لوحات القرون الوسطي إلى فن لوحة عصر النهضة. فقد استغرق هذا التحول قرابة قرن من الزمان لترسيخ أقدام النمط الجديد ومقاومة أنصار الفن السابق. ففي القرون الوسطى كان الهدف من اللوحة هو التوضيح أو التعليم. حيث تظهر الرسالة المراد إيصالها بأوضح ما يمكن. ولم يكن للواقعية أية أهمية، فعلى ما هو الأهم في اللوحة أن يكون الأكبر فيها مقارنة بما هو ثانوي، وتمثيل الشخصيات الكبيرة أهم من تمثيل الناس. والأبنية أو الأشكال المعمارية هي مجرد أشكال لا تتطابق بالضرورة مع مدينة ما. وهذا يتماشى مع عقلية ذلك الزمن الذي يخاطب الناس عموماً حيث لم يكن بعد للفرد مكاناً بيّناً بحد ذاته في المجتمع. كانت الرسالة التي تحملها اللوحات في الغالب رسالة دينية تذكر الناس بالطريق الذي يجب اتباعه إذا أرادوا خلاص نفوسهم يوم القيامة. وتظهر أمثلة عن حياة القديسين، وجهنم وعذاباتها، وآثار هذا السلوك أو ذاك كأدوات توضيحية في كتب ذاك الزمان. وعندما تكون هناك حكاية فتقسم إلى مستطيلات تتضمن كل منها جزءاً من الحكاية، حيث يمكن للشخصية نفسها أن تظهر مرات عديدة في اللوحة نفسها في لحظات مختلفة من حياتها وفي أماكن مختلفة.

بقي أن نقول إن هذا التحول بدأ في إيطاليا أولاً، وكان من أشهر علاماته لوحة الجيوكاندا التي لا تحمل رسالة ولا تمثل قديساً ولا إمبراطوراً، وهي غاية في الجمال التصويري بخلفية جوية لم يعرف استخدامها في القرون الوسطى. كما أن البعض يعزي جزءاً كبيراً من التغير إلى وصول الفنانين البيزنطيين بمعارفهم المتقدمة على أقرانهم الأوروبيين إلى أوروبا نتيجة للتهديد العثماني الذي انتهى بسقوط القسطنطينية عام 1453 بيد الأتراك.


الاثنين، 28 نوفمبر 2016

السجن ... والسجون والسويد



لم يُعرف السِجن إلا منذ القرن الثالث عشر باعتباره عقوبة. كان التوقيف قبل ذلك هو الشائع، وهو توقيف بانتظار حكم القاضي الذي كان حكمه مبرماً دون أن يكون السجن عقوبة بحد ذاته. فالعقوبة كانت القتل، أو دفع تعويض، أو الأعمال الشاقة أو ما شابه. أما اليوم فالسجن هو عقوبة لكل من ارتكب جنحة تخالف أنظمة المجتمع. وإضافة إلى كونه عقوبة فينظر إليه باعتباره حماية للمجتمع من أشخاص يمثلون خطراً، وكذلك لردع من تسوّل له نفسه ارتكاب حماقات، حتى لو كانت صغيرة، بحق المجتمع. سيسجل ذلك في سجله العدلي الذي يمثل إلى حد ما شهادة عن سلوك صاحب السجل.

يرتبط ارتكاب الجنح بأمور عديدة، لعل أهمها درجة تعلم أفراد المجتمع عموماً، وكذلك تطور العدالة في مجتمع ما. العدالة التي تقدم حماية لحقوق الناس تجعلهم يلجؤون إليها دونما حاجة للمنازعات. وكذلك الإنصاف في المعاملة التي يحوز عليه أفراد مجتمع ما من حيث تساويهم في الفرص المتاحة من تعليم أو عمل أو طبابة وغير ذلك. أو الأنظمة السائدة في بلد ما حيث يسهل رفع الدعاوى لأتفه الأسباب باعتبارها حقوقاً للفرد يجب احترامها، كما هو الحال في أمريكا (وهو بلد يسمح فيه باقتناء السلاح بدون رخصة!)، أو دول أخرى على النقيض تحل فيها المسائل بواسطة أصحاب النفوذ دون اللجوء إلى المحاكم، كما هو الحال في العديد من الدول الحديثة العهد. كما أن الحالة الاقتصادية لمجتمع ما تقلل حكماً من حوادث الاعتداء والسرقة عموماً، إذا كما يقال بأن الفقر كافر.

يمكن اعتبار أن نسبة المساجين في بلد ما صورة عن استقرار المجتمع وانخفاض الجريمة أو الجنح فيه. وهذه النسبة تعطى على شكل عدد يمثل عدد المساجين لكل مائة ألف نسمة. تتصدر قائمة الدول جمهورية السيشل، وهي جزر في شمالي غرب المحيط الهندي، بواقع 799 سجيناً، يليها الولايات المتحدة بواقع 693 (يجب أن نعرف أن 43 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر!) ثم تركمنستان والسلفادور وجزر الفرجين التابعة للولايات المتحدة ثم كوبا ثم روسيا بواقع 443 سجيناً. تأتي السويد بين أقل الدول في عدد المساجين بواقع 53 سجيناً، وتتساوى بذلك مع اليمن وقطر. يمكن الوصول إلى تفاصيل هذه المعلومات عبر هذا الرابط. على أن نعرف أن الأرقام المذكورة هي أرقام رسمية بحق من صدرت فيهم أحكام، ولا تظهر عدد الموقوفين كما أنها لا تظهر أعداد الموقوفين لأسباب سياسية مثلاً، وإنما فقط بسبب الجنح المدنية.

بقي أن نقول إن السويد أغلقت في هذا العام ثلاثة سجون لخلوها من المساجين. فعدد المساجين في هذا البلد هو قرابة 4852 سجيناً، وهذا الإغلاق يعني تراجعاً للجنح في هذا البلد. لا عجب في ذلك، إذ إن هذا البلد يصنّف من بين أكثر دول العالم تقدماً في مختلف المجالات، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية.