بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أبريل 2017

الحيرة... اللخميون، المناذرة

رسم يعود للقرن الخامس عشر عن بناء الحيرة
مدينة أو مملكة الحيرة هي في العراق الحالي بقرب نهر الفرات، تبعد قرابة 6 كم جنوب غربي الكوفة. لا يُعرف الكثير عن بدايتها ومنشئها، وأول ذكر جاء لها كان في كتابات تعود إلى عام 132م باسم حيرتا. وهذا لا يعني أنها بُنيت في ذلك العام، فلربما كانت قرية لقرون قبل أن تصبح مدينة معروفة. البعض يقول بأن عهدها يعود إلى الملك البابلي بختنصر، ولكن لا شيء يؤكد ذلك. سكنتها قبائل من عرب الشمال، إضافة إلى أهل البلاد من الآراميين. هناك من يقول بأن للأنباط شأناً في ظهورها. كان ملوكها من آل لخم أو آل نصر أو آل النعمان ومنهم المناذرة.

كان قرب هذه المدينة من إمبراطورية الفرس سبباً أولاً في جعلها محمية لهم يستخدمونها خط دفاع أول ضد هجمات قبائل البدو على حدودهم الجنوبية، إضافة إلى الاستعانة بها في حروبهم ضد الرومان، وهي حروب لم تتوقف لا قبل الميلاد (مع الإسكندر) ولا بعده، استمر بها العرب المسلمون ضد الرومان حتى القرن الحادي عشر. كما استخدم الرومان الغساسنة ضد الفرس وضد المناذرة أيضاً. 

تعود تبعيتها للفرس لأيام شابور الثاني الساساني (337-358). كان الفرس يسمون مملكة الحيرة "عربستان"، وهي أول مملكة عربية خارج شبه الجزيرة العربية. وبفضل مساندة الملك المنذر وصل برهام الخامس إلى العرش الساساني عام 420 ميلادي. كما أن قورش الأول تمكن من أسر القائد الروماني بليسير بمساعدة الحيرة. وبهذا يمكن القول بأن مجدها ترافق مع أفول تدمر. وفي عام 602م خلع قورش الثاني النعمان الثالث وضم مملكة الحيرة إلى إمبراطوريته.

دانت الحيرة بالديانة المانويّة (نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف الفارسي "ماني". وهي ديانة بدأت منذ القرن الثالث الميلادي واستمرت حتى القرن الحادي عشر، وهي خليط من المسيحية والزرادشتية والهندوسية) وكانت الحيرة مركز انتشار هذه الديانة في الجزيرة العربية. كما كانت الحيرة مسيحية لفترة طويلة، وإن لم يدن بها إلا قلة من ملوكها. وكانت مقراً لأبرشية الكنيسة الشرقية. شارك كبير اساقفتها في مجمع قرطاجة عام 410م. ولكن قلة من ملوك الحيرة اعتنقت المسيحية. وبحلول العام 594 أصبحت كنيسة الحيرة تدين بالعقيدة النسطورية.

يقول البعض بأن لكتابة الحيرة تأثير كبير على الكتابة العربية. توقف تأثير هذه المدينة مع انتفاء الحاجة إليها مع الفتح الإسلامي، إذ قبلت دفع الجزية لخالد بن الوليد عام 633م. وهو تأثير ستمارسه الكوفة مع بداية التوسع الإسلامي.


السبت، 29 أبريل 2017

لافونتين... الموت والحطاب


ملأت بقايا الأغصان حطاب مسكين،
تحت وطأة وزنها ووزن السنين،
يئن محنياً ويمشي متثاقلاً،
يهم بلوغ مسكنه الوضيع،
غير قادر على الجهد والألم،
يضع حمله جانباً ويفكر في عذابه.
أي سعادة جناها مذ جاء الحياة؟
وهل من أتعس منه في هذه الفلاة؟
إدقاع وشقاء دائم،
زوجة وأولاد وجنود وضرائب،
ديون وأعمال سخرة،
يجعلون منه لوحة ناجزة للتعاسة،

يستدعي الموت... فيأتيه في الحال،
يسأله عما يريد،
يتردد الحطاب ... وبدل الموت يطلب العون،
في وضع حمله جيداً على ظهره؛
الموت لا يخلف الميعاد.
الموت يداوي كل شيء؛
علينا أن نرضى بما نحن فيه.
فالشقاء أفضل من الفناء،

الحياة منتهى رغبة الناس أجمعين.


الجمعة، 28 أبريل 2017

أذينة والزباء ... الفعل والصيت

أذينة
بعد انقلاب أردشير وتأسيسه الدولة الساسانية، وتجدد الحروب بين الفرس والرومان، قامت الدويلات المستعمرة أمثال تدمر بالبحث عن حماية نفسها عبر صفقات سياسية. وفي تلك الفترة ظهرت أسرة أذينة، من أصول نبطية، كأسرة حاكمة لتدمر بلغت أوجها مع أذينة الذي تولى الحكم بعد موت أخيه خيران. كان أذينة، المولود عام 220م، فارساً شجاعاً ألِفَ حياة البداوة محباً لصيد الذئاب والفهود والأسود. كانت له قيادة الجيش والقوافل ورئاسة القبائل قبل توليه الحكم، وكانت له ميزات حسن الإدارة والفطنة إضافة إلى الشجاعة مما رفع في قيمته لدى الرومان. وقد حمل رتبة قنصل في أيام فاليريانوس بحسب كتابات تعود لعام 258م.

كان الرومان قد قتلوا أباه، فعمد إلى التقرب إلى الفرس، فأرسل إلى سابور الهدايا، لكن هذا الأخير رفضها وأهان رسول أذينة، فعمد هذا الأخير إلى الانتقام فجهز حملة لملاقاة الفرس ترافقت مع حملة فاليريانوس عام 259م فالتحم بفلولهم المهزومة من جيش الرومان وحقق فوزاً عليهم فأنعم عليه قيصر روما برتبة قائد عام لعساكر المشرق ومارس ضغطاً كبيراً على الفرس في منطقة دورا (الصالحية) مما دفعهم للتخلي عنها وعودة الحامية الرومانية إليها، كما فتح نصيبين وحران وسار إلى طيفسون وحاصر المدائن حيث كان سابور ونصب المجانيق، ولكن تغيراً سياسياً حصل في روما بتغير القيصر مما جعل أذينة يعود مسرعاً إلى عاصمته تدمر لمواجهة الطارئ السياسي. حاصر حمص وفتحها، التي أصبحت مقر قيادته العسكرية لوهلة، وفيها قتله عام 267م المدعو معنى، ابن أخيه، طمعاً في استرداد خلافة أبيه خيران فيما يقال. ومعنى هذا لم يبق على قيد الحياة بعد قتله أذينة لأكثر من أسبوع إذ لم يرق لأهل حمص ما جرى. البعض يقول بأن دافع قتل أذينة ربما كان رغبته باسترداد الحكم، أو أن الروم هم من أرادوا التخلص من أذينة بعد أن قويت شوكته، أم أن الزباء (زنوبيا) أرادت بلوغ الكرسي فاغتالته عبر ابن أخيه الضعيف، أم أنه الحزب الوطني التدمري الذي كان يكره الرومان واليونانيين؟ أسئلة لا أحد يعرف الإجابة عليها. وكل ما نعرفه هو أن أذينة كان إدارياً وسياسياً ناجحاً فضلاً عن أنه كان قائداً عسكرياً فذا، أحاط نفسه بمجموعة من الكبار أمثال قائده العسكري زبدا وكذلك وورود الفذ الذي كان ينوب عن أذينة أيما إنابة.
إمبراطورية تدمر بين عامي 260م و 270م

انتقل الحكم إلى وهب اللات ابن أذينة، كان صغير السن فتولت أمه الزباء الحكم وكان لها من العمر 27 عاماً. واسمها في الكتابات التدمرية "بت زباي"، يُقال إن أباها من تدمر نفسها وأمها مصرية، وكانت تتقن اليونانية والمصرية وتحسن اللاتينية، وتهتم بشؤون المملكة، حرة التفكير متساهلة مع أصحاب العقائد والآراء، مثل زوجها أذينة، خاصة وأن تدمر كانت مدينة لكل الغرباء. كانت تدير مملكتها بقدرة فائقة مما أخاف الرومان فحرّض شيوخ روما قيصرها غالينوس على التخلص منها قبل استفحال أمرها. وجرت معركة بين جيشها وجيش الروم بقيادة هرقليانوس وانتصرت عليه وقتلته. واعتمدت إثر ذلك سياسة التودد إلى القبائل العربية وغيرها القريبة منها، وأخذت جانب الحذر من الفرس، وحاولت التحالف مع الملكة فكتوريا ملكة الغال التي كانت على خلاف مع روما.
الزباء تلقي نظرة الوداع على تدمر (هربرت شمالتز)

وجهت نظرها نحو مصر وسيطرت عليها أثناء انشغال الرومان بمحاربة الألمان الذين هاجموا الإمبراطورية عام 268 م. هذا كله إضافة إلى أن مقتل هرقليانوس زاد في خوف الروم منها. وبالرغم من اتفاقية سلام بينها وبين روما، إلا أن الرومان كان يخشون أطماعها، وحتى لا تتفاجأ في حبهم ضدها، بادرت إلى قتالهم، فلقيت جيشهم عند إنطاكية حيث هُزم جيشها، وتعقبها الجيش الروماني بقيادة أورليانوس حتى حمص التي استولى عليها بعد معركة حامية، وثم تتبعها حتى تدمر حيث قبلت بالأسر دون تدمير مدينتها عام 272م تحت ضغ أهل تدمر كما قيل. أخذت أسيرة إلى روما وانقطعت أخبارها منذ العام 275م ولم يكن لها من العمر إلا 35 عاماً. وعادت تدمر ولاية رومانية، وأفلت تجارتها مع القرن الخامس... التاريخ يذكر الزباء بأكثر مما يذكر أذينة، مع أن الإنصاف يملي بأنه هو من بنى وهي من هدمت، على نحو ما، لأخطاء سياسية قاتلة.

تقول الروايات العربية برواية أخرى عن مقتل الزباء الذي كان على يد عمرو بن عدي، عندما احتال عليها بإدخاله حامية من جنوده في جوالق حملتها الجمال، فلما جنّ الليل خرجوا من جوالقهم فاضطرت الزباء للهرب فلقيها عمرو فلما رأته مصت خاتمها المسموم قائلة "بيدي لا بيدك يا عمرو"... وهذه رواية لا سند لها، وما أكثر الروايات في التاريخ العربي التي لا سند لها.

الخميس، 27 أبريل 2017

تدمر... قبل الزباء

تتضارب الآراء كثيراً حول بداية تاريخ تدمر، فأول وأقدم ذكر لها ورد في كتابات تعود إلى الملك الآشوري تغلت فلاصر الأول (1080-1117) باسم (تدمر أمور). ويقال إن المرة الثانية التي ذكرت فيها هذه المدينة كان في عهد الاسكندر المقدوني الذي حل بها وكانت واحة-قرية أطلق عليها اسم بالميرا Palmyra لكثرة نخلها، وعرفت بهذا الاسم لدى اليونان والرومان ومن جاء بعدهم من أهل الغرب. ولكن هذا رأي لا دلالة قاطعة فيه. البعض يقول بأن كلمة "تدمر" مشتقة من كلمة "تمار"، أي النخلة، وأن ترجمة هذه الكلمة إلى اللاتينية أعطتها تسميتها الغربية، وهذا قول لا سند له. والبعض يقول بأن من بناها هو تدمر بن حسان ابن أذينة بن السميدع بن يزيد بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وهذا لا يتعدى رواية القصاصين ولا شك. فهذا الاسم ينطوي على أسماء لا يُعرف لها أصل أو فصل.
وما هو معروف عن تدمر فهو أنها عقدة من عقد التجارة، نشطت على نحو كبير بعد خروج الأنباط وعاصمتهم البتراء (أو البطراء كما يقول البعض) من طرق التجارة، تمر بها القوافل المتجهة إلى العراق وإيران والهند والشام ومصر والبحر المتوسط وبلغ اتصالها اليمن. ونشاط هذه الطرق هو الذي أدى إلى نموها وأفول هذه الطرق هو الذي أدى إلى أفولها. كان تأمين سلامة هذه الطرق يتطلب تحالفات سياسية مع القوى التي كانت سائدة آنذاك: الفرس والروم. وهذه السلامة كانت تتطلب أيضاً وجود حامية عسكرية مدربة للدفاع عن القوافل كما يظهر ذلك في وجود قبور لجنود تدمريين في مدينة القدس. أهل المدينة كانوا تجاراً ومزارعين، ومحيطها كان من الأعراب والرعاة. وغير مركزها التجاري فقد كانت مركزاً دينياً لعبادة الأصنام يحج إليه أعراب البادية، وعرفت بتسامحها الديني إذ سمحت بممارسة كل المعتقدات الدينية.


كان بعل (الرب) هو الإله الأسمى بين آلهة التدمريين في الفترة الهلنستية وما بعدها مع تغير في اللفظ. إله آخر هو ملاكبعل (أي ملاك الرب). ومع وصول العرب الرحل إلى تدمر ومكوثهم فيها أضيف بعلشامين (رب السماوات) إلى قائمة آلهة تدمر. كما بني معبد للآلهة العربية "اللات" في غرب المدينة، كما بني معبد في جنوبها للإله نيبو، وهو إله من أصل بابلي. كما كانت هناك أصنام مقدسة، وحجر مقدس من أصل نيزكي يحج إليه الناس تبركاً. دخلت المسيحية تدمر وشارك أسقفها في مجمع نيقيا عام 325 ميلادي. كما فتحت تدمر أبوابها لخالد بن الوليد عام 634م. 

كانت تجارة تدمر تجارة مجزية. فغير القوافل التي كانت تمر في تدمر وتدفع ضرائب مرورها ومكوثها، فقد قام أهلها بالمتاجرة ببضائع القوافل أو ما يسمى اليوم بالوساطة. وكان مجلس سادات المدينة يحدد قيمة الضرائب على المرور والأرباح. وهذا جعلها مدينة غنية كما يظهر ذلك في الزخارف المنقوشة في أبنية المدينة. وهذا الغنى جعل القيصر ماركوس يحاول الاستيلاء عليها ونهب ثروتها، فدمرها عام 41 قبل الميلاد، ثم أصبحت من بين الأراضي التابعة إلى روما منذ مطلع القرن الأول الميلادي. أما الإمبراطور هدريانوس (117-138م) فأحاطها بعناية كبيرة لأهميتها التجارية، وأصبحت مستعمرة رومانية، بمعنى أنها لا تدفع الجزية لروما. وتابع ذلك من جاء بعده بما جعل المدينة تعيش فترة استقرار نشطت فيها التجارة، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار تراجع النشاط الحربي بين الروم والفرس في تلك الفترة.

عرفت تدمر نظام حكم مماثل لنظامي الحكم الروماني واليوناني، بمعنى وجود مجلس شيوخ ويشرف على التنفيذ شيخان، إضافة إلى المجالس المحلية. واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن استولت أسرة أذينة على السلطة عقب تغيرات سياسية كبيرة في المنطقة من أهمها ثورة أردشير وقيام الدولة الساسانية عام 226 م التي عاودت الحروب بين الروم والفرس. ومع أسرة أذينة نشأ حكم ملكي في تدمر عرف أيام مجد وتوسع في أيام أذينة نفسه الذي كان محارباً وقائداً متميزاً، وخلفته بعد مقتله زوجته زنوبيا (الزباء)، ولكنه مجد لم يدم طويلاً بسبب أخطاء سياسية قاتلة، وهذه قصة أخرى.

الأربعاء، 26 أبريل 2017

الأنباط... التاريخ والسياسة والدين والمرأة

أصلهم غير معروف بالضبط، قال البعض بأن أصلهم يعود إلى أول أولاد النبي إسماعيل واسمه نبايوط، الذي انحدرت منه قبيلة الأنباط، ولكن هذا مجرد رواية متناقلة لا شيء يؤكدها. تشير آخر المكتشفات إلى أن أصولهم تعود إلى الجزيرة العربية بسبب موجوداتهم العديدة، خاصة المدافن، االممتدة على مساحة تصل حتى الإمارات العربية. كما أن مدائن صالح الموجودة في السعودية اليوم والتي تبعد عن البتراء قرابة 500 كم كانت تابعة لمملكتهم.

سادوا أول عهدهم في المنطقة الواقعة بين شمال السعودية وجنوب الأردن، ومع تفكك الدولة السلوقية امتدت رقعة أرضهم إلى ضفاف الفرات شمالاً. تركوا آثاراً باقية حتى اليوم دليلاً على وجودهم في دمشق ومنطقة حوران السورية والجولان وفلسطين والأردن. ولكن المملكة النبطية أصبحت مملكة تابعة لروما منذ أخضعها بومبي الروماني في العام 64 قبل الميلاد.

كانت البتراء عاصمتهم التي أشادوها في القرن الأول قبل الميلاد، وهي هيلينية الطراز، حفرت مبانيها، من بيوت ومدرجات ومقابر، في الصخر الأحمر. تقع داخل وادٍ يصعب اقتحامه. أمكن استخدام الجيوب الصخرية في المنطقة المحيطة بها خزانات تُجمع فيها مياه الشتاء. مياهٌ تستخدم في الصيف من ساكني هذه المدينة الذين كان عددهم لا يقل عن عشرين ألفاً. والبتراء هي إحدى عجائب العالم السبع.
مدرج البتراء المحفور في الصخر

اشتهر الأنباط بالتجارة منذ أن تم تدجين الجمل، فارتحلوا إلى اليمن السعيد يجلبون منه البخور والمرُّ (صمغ) والتوابل فيبيعونها في موانئ المتوسط ومصر التي كانوا يجلبون منها القار المستخدم في الصباغة. كما امتهنوا الرعي، رعي الأغنام والجمال والخيل.

وبعد أن استقر بهم المقام وأسسوا دولتهم، كان الحاكم فيهم هو الملك. وأول ملوكهم هو الحارث الأول (أريتاس) الذي بدأ حكمه عام 170 قبل الميلاد، وآخر حكامهم هو رب بل الذي استمر حكمه 36 سنة وانتهى عام 106 ميلادية، وهو ابن ماليكو الذي حكم مدة ثلاثين سنة، خلفته في الحكم وصايةً زوجته شكيلات. انتهت مملكة الأنباط مع مطلع القرن الميلادي الثاني في عهد الإمبراطور الروماني تراجان.

كان الحاكم مسؤولاً أمام رعيّته، ولم يكن الناس يخافونه بل كان في كثير من الأحيان رجلاً عادياً في حياته اليومية، يخدم نفسه بنفسه كما يخدم بنفسه ضيوفه. إذ لم يعرف الأنباط الرق إلا نادراً. وكان الصغار يقومون بخدمة الكبار، ديناً مؤجلاً. كما كان للمرأة حقوق الرجل نفسها في الإرث، ولها حق التملّك، تملّك الأرض والبستان والبيت والمدفن، ولها دور اقتصادي في المدينة مثل الرجال كما تشير إلى ذلك الكتابات الباقية، ولها الحق بدخول المعابد وتقديم القرابين. كما أظهرت المنحوتات الباقية المرأة عازفة الموسيقى.

الكتابة النبطية

اللغة النبطية مشتقة من اللغة الآرامية التي كانت سائدة في الشرق الأوسط في تلك الفترة. أول الكتابات النبطية تظهر قرابة مع الآرامية، لكنها تطورت وأنتجت الأبجدية العربية في القرن الرابع قبل الميلاد. كانت ديانتهم وثنية، ومن بين آلهتهم ذو الشرى والعزة واللات، كما كانوا يقدسون أصنامهم المصنوعة من أحجار منشأها بقايا النيازك. وهي أصل الديانة الوثنية التي وجدت في الجزيرة العربية قبل الإسلام. ولكنهم اعتنقوا المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي.

الاثنين، 24 أبريل 2017

لافونتين ... الثعلب والقرد ومجمع الحيوان،

اجتمعت الحيوانات عقب وفاة الأسد،
الذي كان أميراً للبلاد،
لانتخاب ملك عليهم،
فأُخرج التاج من صندوقه
الذي يحميه تنين.
جرَّبه الجميع،
ولكنه لم يناسب أحداً.
فبعضهم كان صغير الرأس،
وبعضهم كان كبير الرأس، وبعضهم كان أقرناً حتى،
جرَّبه القرد ضاحكاً؛
سعيداً بوضع التاج على رأسه؛
يتلفت حوله هازئاً؛
يقفز ويتسعدن؛

يدخل فيه كما لو كان حلقة.
يبدو القرد ظريفاً للحيوانات،
فينتخبونه ويقدمون له الاحترام،
لم يرتح الثعلب لهذا التصويت،
كظم غيظه.
وعندما قدم تهانيه،
قال للملك: أعرفُ يا مولاي مكمناً،
لا أحد غيري يعرفه،
فيه كنز من ذهب هو حقٌ للملك،
إنه لكم يا مولاي.
يطمع الملك الجديد بالمال؛
يركض خلف الثعلب حتى لا يسلبه منه أحد،
كان ذلك شركاً سقط القرد فيه.
قال الثعلب باسم الحضور:
أتدعي أنك حاكمنا،
وأنت لا تحسن السلوك؟
فأقيل من منصبه باتفاق الجميع،

فالتاج إلا لقلة لا يليق.


الأحد، 23 أبريل 2017

الهولندي إيراسموس ... ومديح الحماقة

هو من أشهر مفكري عصر النهضة، لا يُعرف تاريخ ميلاده بالضبط ولكنه بين عامي 1466 و 1469، ولد في مدينة روتردام الهولندية وتوفي في مدينة بازل عام 1536. كان كنسياً وفيلسوفاً وأديباً. أتقن اللغة الإغريقية واللاتينية وكتب بالأخيرة على عكس معاصره مارتن لوثر الذي فضل استخدام العاميّة الألمانية، ولكن كان لكل منهما أسبابه. فلوثر أراد إيصال رسائله وأفكاره إلى مواطنيه الألمان، أما إيراسموس فأراد إيصال أفكاره إلى أوروبا كلها التي كانت تسود فيها اللغة اللاتينية. واستخدم اتقانه للغتين لإعادة ترجمة الأناجيل من الإغريقية إلى اللاتينية لأن النسخ التي كانت موجودة في أيامه كانت تضج بالأخطاء كما كان يراها.

وغير ذلك، فقد عُرف بكتب ودراسات كثيرة منها "مديح الحماقة" الذي كتبه عام 1511، وهو الأهم. وكتاب آخر سابق لهذا بعنوان "أقوال" جمع فيه أربعة آلاف قول إغريقي ولاتيني مأثور، وكتاب ثالث وضعه عام 1522 يتعلق بالتعليم والتربية وأمور أخرى. أعماله كثيرة متنوعة تضمنت مقالات ودراسات حول العديد من المواضيع المعاصرة له تتعلق بالتعليم والفن والدين والحرب والفلسفة. وفي كل أعماله فقد كان إنسانياً يدعو للعودة إلى القيم والممارسات والأخلاقيات الإغريقية مع بُعد عالمي. فقد قال في إحدى كتاباته: "العالم بأكمله هو وطننا جميعاً"... لقد كان سابقاً لعصره. وربما هذا ما حذا بالاتحاد الأوربي لأن يسمي برنامجه في تبادل الطلاب والأساتذة بين الدول الأوربية بالدرجة الأولى ودول العالم بالدرجة الثانية باسم هذا المفكر Erasmus ، وإن كان قد أعطى لكل حرف من حروفه معنى يتطابق مع توجه المشروع European Region Action Scheme for the Mobility of University Students)


وكتابه "مديح الحماقة" هو عبارة عن كتاب هزلي بشخوص تخيلية حاول فيه جعل الآلهة تتكلم عن الحماقة وتنتقد بشدة مختلف المهن والفئات الاجتماعية وخاصة رجال الكهنوت والمعلمين والرهبان والأساقفة والحاشية. تميز الكاتب بإتقانه فن الاستهزاء والسخرية، كما يظهر ذلك المقطع الآتي:
"ليس موضوعي تفحّص حياة البابوات والكهّان، ذلك أن هذا سيبدو كتابة قدح بدلاً من المدح، وسيمكن للمرء الاعتقاد أنه بالإشادة بالأمراء السيئين سيكون همّي التشهير بالأمراء الجيدين".

ولم يكتف بنقد المجتمع الذي كان يعيش فيه وإنما امتد ذلك إلى المجتمع الإنساني لذلك الوقت. وقد تابع في كتابات أخرى نقده اللاذع للعادات والتقاليد مظهراً استقلاله في التفكير، خاصة تقاليد الممارسات التعبدية في الكنيسة الكاثوليكية بعد عودته من روما خائباً مما رآه. الأمر الذي دفعه إلى التفكير في الإصلاح الديني. وصاغ أفكاره في هذا الخصوص التي بنى عليها معاصره مارتن لوثر، ولكن نقطة الخلاف بينهما كانت في نفي لوثر لقيمة إرادة الناس أمام الإرادة الإلهية، كما اختلفا في النهج، إذ كان لوثر يفضل تأليب الناس، في حين كان إيراسموس يفضل توعية الناس، ولكن الاثنين كانا متفقين على رفض الوساطة بين العبد والرب. 

وهذا الانتقاد والتهكم دفع بالكنيسة إلى وضع كتابه هذا على قائمة الكتب المحظورة، ومنع بيعه في المكتبات، ولكن ذلك لم يمنع تداوله، فالتحايل على السلطات قديم قدم الإنسان ... وضع إيراسموس كتابه هذا بصورته الأخيرة أثناء زيارته لصديقه الإصلاحي الإنكليزي توماس مور وإليه كان إهداء هذا الكتاب...كان القرن السادس عشر قرن مفكري الإصلاح في أوروبا.

السبت، 22 أبريل 2017

المئذنة... التاريخ والحاضر

حيدر آباد (الهند)
لم تعرف المئذنة منذ بداية الإسلام، وكان بلال ينادي إلى الصلاة من أعلى منزل بجانب المسجد. والمئذنة من حيث الهندسة والبناء سابقة للإسلام، فقد وجدت فيما كان يعرف بالزقورات، ومن بعد ذلك في الكنائس السريانية، ولم تذكر في القرآن أو الحديث. وأول ما ظهرت كان في القرن الهجري الأول. أقيمت أول المآذن في الإسلام في المسجد الأموي بدمشق، وكانت تسمى صومعة أو مغارة أو مئذنة. ويقول المقدسي المؤرخ إن المآذن الأولى في سورية كانت كلها مربعة، وانتقل هذا الطراز إلى مصر وشمال أفريقية والأندلس. وتطورت أشكال المآذن في الأقاليم الإسلامية وأصبح لكل إقليم مآذنه التي تتميز عن غيرها من المآذن في الأقاليم الأخرى.

الجامع الأزرق
تكون المئذنة بأشكال هندسية مختلفة، فمنها المستديرة والمربعة والحلزونية أو المضلّعة. كما أن عدد المآذن في المسجد الواحد لا تحديد عليه. فقد كان في بادئ الأمر مئذنة واحدة مرافقة لكل مسجد، ومن ثم ظهرت مآذن عدة في المسجد الواحد لأسباب معمارية فنيّة تضفي تناظراً ترغب فيه العين، كما تجعل منظر البناء بين المسجد ومآذنه أكثر استقراراً. كان للمسجد الحرام في مكة ست مآذن، ونافسه في عددها الجامع الأزق في اسطنبول، ولكن أضيفت مئذنة سابعة للمسجد الحرام مما أبقاه المسجد الأكثر مآذناً. أما من حيث الارتفاع فيعود ذلك إلى التناسق الهندسي والفني بين المئذنة وبناء الجامع. أعلى المآذن حتى الآن هي مئذنة جامع الحسن الثاني في الدار البيضاء بارتفاع قدره 210 متراً.
القيروان

وأقدم مئذنة قائمة إلى الآن هي مئذنة مسجد القيروان في تونس التي أنشأها بشر بن صفوان بأمر من الخليفة هشام (724 ـ 728). ولكن أعيد العمل فيها مرات عدة، إلا أنه من شبه المؤكد أنها لا تزال على حالها منذ عام 836 ميلادي. وهي تتألف من ثلاثة مستويات كل منها أضيق مساحة من سابقه، ضخمة الهيئة توحي بالعظمة والجلال.

الخيرالدا
وعبر التاريخ، حل المسلمون في أراضي تدين بالمسيحية فحولوا بعض الكنائس إلى جوامع وأبراج النواقيس إلى مآذن، أشهرها جامع آيا صوفيا في إسطنبول، وقبله بالطبع الجامع الأموي الذي كان في أصله معبداً وثنياً ثم كنيسة ثم جامعاً في عصر الأمويين. وكذلك الأمر عندما حل المسيحيون في بلاد تدين بالإسلام فحولوا الجوامع إلى كنائس، وأكثر ما حدث ذلك كان في الأندلس، من أشهرها كاتدرائية إشبيليا ومئذنتها "الخيرالدا".


فقدت المئذنة مع الزمن وظيفتها، فلم يعد المؤذن بحاجة إلى الصعود إلى مكان عال للتذكير بموعد الصلاة، فقد حل محلها مكبرات الصوت التي أفقدت المئذنة جلالها، دون أن تفقدها نموها العددي في مدن الشرق، وكذلك في الغرب حيث بدأ بالظهور منذ بضعة عقود. 

الجمعة، 21 أبريل 2017

لافونتين، الشاعر السياسي...النسر والخنفساء

جان دو لافونتين شاعر فرنسي من القرن السابع عشر (1621-1695)، معاصر للملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا الأشهر. ولمّا لم يكن من السهل انتقاد الملك الشمس، فقد ابتدع دو لافونتين طريقة حكايات الحيوان، على شاكلة كليلة ودمنة، مضمناً إياها رسائل وإيحاءات وحكمة على القارئ أن يكتشفها. وغير الشعر، وشعر الحكايات والأساطير، كتب مسرحيات وأعمال أدبية كثيرة أجاد فيها استعمال اللغة واستغلال غناها لتقديم أشعاره بنغمة غنائية لا تزال تطرب الفرنسيين.
القصيدة التالية هي بعنوان "النسر والخنفس":

النسر يطارد جان الأرنب،
الذي يهرب مسرعاً باتجاه وكره.
يصدف وكر الخنفس في طريقه.
لن أفكر فيما إذا كان هذا الملجأ آمناً
ولكن هل من أفضل منه؟ فينحشر فيه جان الأرنب.
يهاجمه النسر لا آبه،
يتدخل الخنفس قائلاً:
"أمير الطير، إنه لمن السهل عليك؛
أن تنتزع هذا المسكين؛
ولكن لا تدفعني إلى المواجهة أرجوك؛
وبما أن جان الأرنب يرجوك الحياة؛
فهبها له رحمة أو انزعها منا نحن الاثنان؛
إنه جاري وصديقي".
لم يجب النسر بكلمة واحدة،
يصطدم الخنفس بجناحه،
مذهولاً يصمت الخنفس،
ينتزع النسر جان الأرنب. يسخط الخنفس
فيطير إلى عش النسر ويكسر بيوضه في غيابه،
بيوضه، بيوضه الطرية، غاية آماله:
لم يترك واحدة منها.
يعود النسر ويرى الواقعة،
يملأ السماء صراخاً؛ وما زاده حنقاً،
أنه لا يعرف ممن ينتقم لما أصابه من ضرر.
يرتجف عبثاً: فشكواه ذهبت أدراج الريح؛ كان عليه لهذا العام أن يعيش مفجوعاً.
يجعل عشه في مكان أعلى في السنة التالية.
يستغرق الأمر الخنفس وقتاً أكثر، ويرمي بالبيض من عل:
الآن اكتمل الانتقام لجان الأرنب.
وفي المآتم الثاني، لم تنم الغابات من صداه
أكثر من ستة أشهر.
الطير الذي حمل سليل زيوس
يطلب العون من كبير الآلهة
ويضع بيضه في حضنه معتقداً أنها ستكون بسلام
في هذا المكان: وأن هذا في مصلحته،
وأن كبير الآلهة سيجد نفسه مضطراً للدفاع عنها:
فأحمق من سيذهب لأخذها.
وهكذا، فأحد لم يأخذها.
فقد غيّر عدوها من موقفه.
وعلى ثوب الإله يسقط قذرٌ،
فينفض الإله ثوبه وتسقط البيوض أسفلاً.
حين علم النسر بما حدث سهواً،
هدد النسر كبير الآلهة
بترك حاشيته والذهاب للعيش في الصحراء،
وأشياء غريبة أخرى.
يصمت كبير الآلهة المسكين:
أمام محكمته يقف الخنفس،
يشكو ويروي قصته.
ويقال للنسر أخيراً بما أخطأ.
ولكن العدويين لا يريدان أي اتفاق.
ويرى كبير الآلهة أنه من الأفضل،
جعل فصل وضع البيض عند النسر
في فصل شتاء
يعيش فيه جنس الخنفس مثل جرذ الأرض
يختفي ولا يرى شيئاً من النهار.