بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 ديسمبر 2017

الخصيان في التاريخ

الخَصيّ هو الذي سلَّت خُصيتاه أو نزعتا، وهو في العموم من أزيلت أعضاؤه التناسلية من نبات أو حيوان أو إنسان، وهو أمر محرّم اليوم في كل دول العالم. ولكن المقصود تاريخياً بالخصي هي الرجل الذي انتزعت منه أعضاؤه التناسلية لغايات تختلف بحسب العصر والمجتمع.

مورس ذلك في أوروبا الغربية على الأطفال للحفاظ على قدرة المخصيين على الغناء بصوت حاد كصوت الأطفال ولكن له قوة صوت الرجال بعد تجاوزهم سن البلوغ. ذلك أنه لم يكن مسموحاً للنساء بالغناء في الكنائس. ومن بين الملحنين الذين كانوا يبنون مسرحياتهم الغنائية (أوبرا) على مشاركة أصوت المخصيين هو الموسيقي الأشهر موزارت (1756-1791)، وبعضها يصعب اليوم توفير مغنين قادرين على أداء هذه الألحان التي تتطلب مثل تلك الأصوات. ولكن بابا روما كليمنت الرابع عشر منع ممارسة الخصاء منذ نهاية القرن الثامن عشر. إلا أن ذلك استمر في القرن التاسع عشر لتميّز أصوات هؤلاء عن أصوات النساء. ومن أشهر الخصيان المغني الإيطالي أليساندرو موريستشي الذي توفي في روما عام 1922.

وفي بلاد فارس الأخمنيدية وكذلك في الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية العثمانية والصين وفيتنام والهند والعالم الإسلامي مورس الخصاء، وكان للخصيان هؤلاء إمكانية الوصول إلى وظائف إدارية عالية في الدولة، خاصة في الصين وبيزنطة. فليس لهؤلاء إمكانية تكوين عائلة، ومن ثم فإن طموحاتهم الشخصية تكون شبه معدومة، ولا خوف منهم. ففي نهاية حكم عائلة سوي كان عدد موظفي المدينة المحرمة في بكين نحو 70 ألف خصي. منعت هذه العملية في نهاية القرن التاسع عشر، وقدر عدد الخصيان في الصين بنحو 470 خصيّاً عام 1912، توفي آخرهم عام 1996. وصل بعضهم إلى مناصب عالية في الدولة وكانت صلاحيات بعضهم تعادل صلاحيات كبير الوزراء. وفي بيزنطة وصل بعضهم إلى رتبة بطريرك أو قائد جيش. وأشهرهم في العالم الإسلامي كافور الأخشيدي الذي كان حاكماً لمصر في القرن العاشر. وفي الدولة العثمانية كان لبعضهم مسؤولية حراسة قصور حريم السلطان وإدارتها لكونهم بلا رغبة جنسية كما كان يعتقد، ولكن الجاحظ يقول بغير ذلك فيما يبدو وكذلك الفيلسوف الفرنسي فولتير!

ولكن لم يكن الأمر كذلك دائماً. ففي الصين كان الخصاء إحدى خمس عقوبات يمكن إنزالها بحق المجرمين. كما مارسها العرب على الكثير من العبيد الأفارقة ضمن تجارة الرقيق لدرجة أنه لم يبق من ذريتهم سوى القليل. وعملية الخصاء بحد ذاتها كانت تودي بحياة معظم من تمارس عليهم هذه العملية وخاصة في حالة البالغين. وفي اليونان القديمة مورس الخصاء الذاتي من قبل رجال اشتد بهم الهوس الصوفي من الراغبين في أن يكونوا رهباناً في معابد الإلهة الكبيرة "سيبل"، وكان لهذا الأمر يوم خاص سميَّ بيوم الدم. كما أن طائفة سكوبتزي الروسية كانت تمارس ذلك في القرن الثامن عشر لاعتقادها أن هذا طريق للابتعاد عن الخطيئة. وفي القرن العشرين مارس ذلك بعض من أبناء جماعة "باب الجنة" الأمريكية.

يمارس ذلك اليوم كيمائياً على بعض الحيوانات الأليفة كالقطط، وربما أيضاً على بعض البشر... وسواء كان هذا أو ذاك فإن الأمر مناقض للطبيعة والحياة!

الجمعة، 29 ديسمبر 2017

المحاضرة السابعة في تاريخ الحكم العثماني في الأقطار العربية... عبد الكريم رافق

فيما يلي تسجيل للمحاضرة السابعة من محاضرات الدكتور عبد الكريم رافق الصوتية الخاصة بتاريخ الحكم العثماني في الأقطار العربية بعنوان: "الفتح العثماني للبلاد العربية-فتح العراق واليمن وشمالي السودان



يمكن الاستماع إلى المحاضرات السابقة على هذا الرابط.

الأربعاء، 27 ديسمبر 2017

أرسطو... الفيلسوف المعلم

أرسطو وأفلاطون
ولد أرسطو في مقدونيا في عام 384 قبل الميلاد، وتوفي عام 322. كان والده طبيب الملك. كبر أرسطو ليكون من أكثر الفلاسفة تأثيراً في التاريخ، وأطلق عليه لقب "المعلم" أو "الفيلسوف".  ومن أكبر المهام التي وليّ أمرها كانت الإشراف على تعليم الإسكندر المقدوني الذي غزا العالم المعروف في تلك الأيام. توجه أرسطو بعد ذلك إلى أثينا حيث عمل مع أفلاطون وتعلم منه لفترة ثم استقل بنفسه وأسس مدرسة أطلق عليها "ليسيوم"، وهي كلمة لا تزال موجودة في الفرنسية للإشارة إلى المدرسة الثانوية. كان يحب المشي أثناء مناقشته للأفكار، وسمي أتباعه "المشاؤون". وما كتبه ليس إلا مذكرات عن محاضراته. كان أرسطو معجباً بكيفية عمل الأشياء، مثل كيف للدجاجة أن تكبر انطلاقاً من البيضة، وكيف تتكاثر الغضروفيات، وكيف للنبتة أن تنمو جيداً في مكان ما دون آخر. وأكثر من ذلك، ما الذي يجعل حياة الإنسان والمجتمع يسيران على نحو حسن؟ أي أن الفلسفة بالنسبة لأرسطو كانت تخص الحكمة العملية. وفيما يلي أربع أسئلة كانت موضع اهتمامه الخاص.

1.      ما الذي يجعل الناس سعداء؟ ففي الأخلاق النيكوماخوسية (نسبة إلى ابنه نيكوماخوس الذي حرر الرسائل الذي أرسلها والده إليه) أعطى أرسطو لنفسه مهمة تحديد العوامل التي تقود الناس إلى الحياة السعيدة أو لا. وافترض أن الناس الجيدين والناجحين يمتلكون "فضائل" مميزة، لذا فهو يقترح بأن أمورنا ستتحسن بتحديد هذه الفضائل التي يمكننا أن نرعاها بأنفسنا. وركز أرسطو على إحدى عشرة فضيلة هي: الشجاعة، الاعتدال، الأريحية، المروءة، الترفع، الفخر، الصبر، الثقة، الفطنة، الصداقة، التواضع. ولاحظ أرسطو أيضاً أن كل فضيلة هي الوسط بين عيبين. ووضع القاعدة الذهبية: خير الأمور أوسطها.  ويسوق أرسطو مثال "فضائل المحادثة". وهنا يبحث أرسطو عن الطرق التي يجري فيها الناس محادثة حسنة أو سيئة. (فمعرفة كيفية إجراء محادثة جيدة  بحسبه هي أحد جوانب الحياة الجيدة) فبعض الناس يخطئون بسبب سوء مزاجهم، وهم مملون، وبعضهم عديمي الفائدة في أي نوع من التفاعل الاجتماعي، لأنهم لا يقدمون أية مساهمة ويعادون كل شيء. ولكن البعض يفرطون بطيب المزاج، مثل المهرج الذي لا يستطيع مقاومة النكتة، ولا يوفر لا نفسه ولا الآخرين طالما أنه سيثير الضحك والقول بأشياء لا يمكن لأي شخص من أصحاب الذوق أن يقولها. لذا فإن الشخص "الفاضل" بحسب القاعدة الذهبية سيكون الشخص اللماح والحريص على عدم إزعاج الآخرين فيما يقول. ويضع أرسطو جدولاً يظهر فيه كل فضيلة من الفضائل التي أشار إليها وعلى يمينها ويسارها العيبين المقابلين. مثل الكرم الذي هو بين التبذير والبخل. والشجاعة التي هي بين التهور والجبن. وقال بأنه لا يمكننا أن نغير سلوكنا في هذه المجالات ببساطة. ولكن التغيير ممكن. و"الطيبة الأخلاقية" بحسب أرسطو هي نتيجة "للعادة"، وهي تتطلب الوقت والممارسة والتشجيع. لذا فإن أرسطو يظن بأنه يجب فهم  الناس الذين تعوزهم الفضيلة على أنهم عاثرو حظ بدلاً من أنهم آثمون. وما يحتاجون هو ليس التخلص منهم أو حجزهم في سجن وإنما تعليمهم وتوجيههم.
2.      لما الفنّ؟ الفن الذي كان سائداً في ذلك الوقت هو التراجيديا. فقد كان الأثينيون يشاهدون مسرحيات  مثيرة في احتفالات جماعية على مسارح في الهواء الطلق لأكبر مسرحيي اليونان مثل سوفكليس وأسخيلوس وغيرهم. ولكن لما التراجيديا؟ ولماذا يأتي الجميع لمشاهدة أشياء بشعة تحدث للشخصية الرئيسية؟ مثل مسرحية أوديب (سوفكليس) الذي يقتل والده بالخطأ ويتزوج من أمه دون علمه بذلك، ثم يكتشف أنه قام بهذه الأشياء البغيضة فينتقم من نفسه بفقء عينيه نتيجة التأنيب والخيبة. يجيب أرسطو على ذلك بأنه التطهير، بمعنى محاولة التخلص من المكنونات السيئة، وخاصة التشويشات الشعورية المرافقة للخوف. فنحن هنا إزاء مشاكل طبيعية: نحن قساة القلوب: ولا نظهر الشفقة عندما يجب أن نفعل ذلك. ونحن مقادون إما بالخوف الشديد أو بعدم الاكتراث بما فيه الكفاية، لذا فإن التراجيديا تذكرنا بأن الأشياء الفظيعة يمكن أن تصيب الناس العاديين مثلنا، وأن لحادث بسيط أن يقود إلى حياة غير مألوفة. لذا فإن علينا أن نكون أكثر تعاطفاً أو إشفاقاً على هؤلاء الذين تكون تصرفاتهم خاطئة على نحو كارثي. ونحن نحتاج أن نعيد جماعياً تعلم تلك الحقائق الأساسية على أساس منتظم. لذا فإن مهمة الفن بحسب أرسطو هي تقديم حقائق عميقة عن جوهر الحياة في أذهاننا.
3.      من هم الأصدقاء؟ يحدد أرسطو ثلاثة أنواع مختلفة من الصداقات. صداقة تحدث عندما يبحث كل شخص عن التسلية ويكون مبتغى كل منهم المتعة الخاصة باللحظة الراهنة التي يقدمها الآخرون. فنحن هنا بحاجة للآخرين لتمضية وقت بهيج وإلى رفاق ممتعين. وهناك الصداقة بين المعارف من أصحاب المصالح الذين يجدون متعة في رفقة بعضهم البعض طالما أن لديهم آمال بالاستفادة من تلك الصداقة. ثم الصداقة الحقيقية، ليس فقط مع شخص يشبهك، ولكنها مع شخص مختلف عنك ويهتم بك بقدر ما تهتم أنت نفسك بنفسك. فأحزان الصديق الحقيقي هي أحزانك وكذلك أراحه هي أفراحك. إنها تجعلك أكثر هشاشة لجزعك من أن يصيبه مكروه. ولكنها تزيد من القوة لأنها ترفعك من عالم أفكارك ومخاوفك الخاص والمحدود وتجعلك تتسع لحياة شخص آخر، ومعاً ستكونان أقوى وأذكى وأكثر تسامحاً وأكثر إنصافاً. فأنت تشاطر الفضائل وتبتعد عن ثغراتها. تعلمنا الصداقة ما يجب علينا أن نكون. وهي أجمل ما في الحياة تماماً.
4.      كيف يمكن للأفكار أن تنتقل في عالم منشغل؟ صُدم أرسطو مثل كثيرين غيره من الناس بحقيقة أن أفضل حجة لا تنهي دائماً الجدل أو المعركة وأراد أن يعرف لما يحدث هذا وما بإمكاننا أن نفعل بخصوصه. توفرت له العديد من فرص المراقبة والرصد في أثينا التي كانت تتخذ فيها الكثير من القرارات في الاجتماعات العامة حيث كان على الخطباء محاولة إقناع الرأي العام. حدد أرسطو العوامل التي يتأثر فيها الأفراد والمستمعون التي لا تلتزم تماماً بالمنطق أو وقائع الحالة التي تناقش. وأنه حتى الأشخاص الجديين مثل أفلاطون لا يدركوها. لذا فهم يتحاشون الساحة العامة والنقاش الشعبي. كان أرسطو أكثر طموحاً. واخترع ما نسميه حتى اليوم بالبلاغة أو البيان، أي الفن الذي بموجبه نجعل الناس يتفقون معنا.  كان يريد أناساً مفكرين وجديين وحسني النوايا كي يتعلموا كيف يكونوا مقنعين وذلك للوصول إلى هؤلاء الذين لا يتفقون معهم حالياً. وذكر بعض النقاط الهامة الصالحة لكل زمان مثل: عليك أن تعترف وتقر وتتبصر بمخاوف الناس. وعليك أن ترى الجانب العاطفي لهذه المسائل، بحيث لا تكون عزة أي منهم موضع شك، أو أن يشعروا بالضيق أو الحرج، وعليك أن تجعل ذلك في جو مرح، ذلك أن فترة الانتباه قصيرة وعليك أن تقدم الإيضاحات والأمثلة لجعل فكرتك حيّة.

وبذلك فإن أرسطو هو فيلسوف عملي. فقد بدأ حياته المهنية بالاهتمام بكل ما هو حيّ ويمكن القول بأنه الأب الحقيقي لعلوم الطبيعة (الفيزيقا كما كانت تسمى). ولم يكن اهتمامه بالعلوم الفكرية (التي لا تستند إلى التجارب وإنما إلى النظريات البحتة) إلا بعد فراغه من علوم الطبيعة ومن ثم الانتقال إلى الميتافيزيقا (أي ما بعد الطبيعة بالمعنى الزمني). وهذه العلوم بحسبه هي أفضل ما يمكن للمر أن يقوم به في أوقات فراغه. فرع ثالث من العلوم هو العلوم المنتجة، مثل تلك المتعلقة بالأخلاق والسياسة والتقانة. وفي غير هذا فهو صاحب المنطق الاستقرائي (كل إنسان فان، سقراط إنسان، إذن سقراط فان)  وطرائق البرهنة، وهذه تفيض عن سعة هذه الورقة.

بقي أن نقول إن أفكاره لم تكن كلها صحيحة، فهو من أكثر المدافعين عن ثبات الأرض وعدم حركتها، وهو أيضاً من أكثر المدافعين عن مركزية الأرض، وغيرها من الأفكار التي اعتنقتها الكنيسة واعتبرت الخروج عنها هرطقة راح ضحيتها من بين من راح الإيطالي جيوردانو. وغير ذلك من الأفكار التي يمكن أن تثير الضحك اليوم، ولكن عذره أنه لم يكن يتوفر على المعلومات التي بدأنا بحيازتها منذ القرن الخامس عشر.

وقبل الانتهاء من هذه الورقة نشير إلى أن أرسطو يعتبر ن أهم الفلاسفة في الغرب وأن من كان سبب تعرف الغرب إليه هم أهل الأندلس ممثلين بابن رشد الذي ناقش أفكار أرسطو وفندها وشرحها، وقبلهم العباسيون الذين قاموا برعاية ترجمته إلى العربية مما ساعد على حفظ كتاباته وأفكاره.

جزء كبير مما ورد في هذه الورقة يمكن الاستماع إليه بالإنكليزية على هذا الرابط.



الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

لافونتين ...جنازة اللبوة


توفيت زوجة الأسد
هرع الجميع في الحال
وفاءً للأمير ببعض مجاملات العزاء،
وهي أسى فوق أسى.
أخطرَ مملكته بزمان ومكان الجنازة
وبأن أعيانه سيكونون في المقدمة
لضبط المسيرة وتحديد أماكن المشاركين
وتدقيق أسماء الحضور والغائبين.
ثم أسلم الأمير نفسه للعويل،
تردد الصدى في العرين.
فليس للأسود معبد ودين.
وحذا حذوه الحضور،
كل بلهجته يخور.

الحاشية الملكية لبلد هي
الناس، حزانى أو مسرورين
جاهزين لكل شيء على السواء،
وهم بما يُرضي الأمير،
وما ليس بإمكانهم، فليكن في الظاهر،
الناس كالحرباء، قرود للآمر؛
بما يشبه روح تحرك الألوف؛
والناس هنا كما الحيوانات الآلية.
لنعد إلى قصتنا

لم يبك الوعل، فكيف كان له ذلك؟
فهذا الموت له ثأر،
فاللبوة كانت قد قتلت زوجته وابنه.
ولكن منافق ذهب للوشاية،
وادعى أنه رأى الوعل ضاحكاً نكاية.
قال سليمان بأن غضب الملك مرعب
وخاصة الملك الأسد:
ولكن هذا الوعل لم يعتد القراءة.
فقال له العاهل: هزيل أيها الضيف ذو القرون
تضحك، ولا تساير تلك الأصوات الشجون
لن نطبق أبداً على أعضائك البائسة
مخالبنا المقدسة؛ تعالوا أيها الذئاب
انتقموا للملكة، ومزقوا جميعكم
هذا الخائن ولا تبقوا منه أثراً.

أجاب الوعل في الحال: مولاي،
لقد انقضى زمن البكاء،
ولا لزوم للألم والعناء.
فنصفكم الكريم بين الزهور مستلقية،
وهي تبدو لي منا هنا قريبة،
ولقد تعرفت إليها منذ البداية،
وقالت لي: أيها الصديق،
احرص على هذه القافلة،
عندما أذهب إلى السماء، لا تجبر نفسك على البكاء.
ففي بساتين الملك تذوّقتُ السحر والجمال،
وتحدثت إلى القديسات أمثالي.
اترك الملك يائساً بعض الوقت.
فهذا يسعدني.
وبالكاد سُمع هذا،
حتى علا الصراخ: معجزة، يا للسماء!
ونجا الوعل من العقاب والشقاء.

تسلية الملوك بالأحلام،
مداهنتهم وتملقهم بلذيذ الأوهام،
وإن امتلأت قلوبهم ببعض الضغينة،
فسيبتلعون الطعم، وتفوزون بالسكينة.

الاثنين، 25 ديسمبر 2017

المحاضرة الخامسة في التاريخ العربي الحديث للدكتورة خيرية قاسمية


فيما يلي المحاضرة الخامسة للمرحومة الدكتورة خيرية قاسمية في التاريخ العربي الحديث وهي بعنوان: الصعوبات التي أحاطت بحكومة دمشق العربية
 أما محاضرتها الرابعة فكانت بعنوان:

حكومة دمشق العربية 1918-1920.







الأحد، 24 ديسمبر 2017

برونو جيوردانو... شهيد الفكر

إنه الفيلسوف ورجل الدين والفلكي الإيطالي المولد لعام 1548 والذي أحرق بسبب أفكاره عام 1600 بعد محاكمة طويلة استمرت لسبع سنوات. تفاصيل هذه المحاكمة فقدت عندما احتل نابليون بونابرت إيطاليا وأمر بنقل أرشيف الفاتيكان إلى فرنسا حيث ضاع. ولكن كتابات تاريخية تعود إلى تلك الفترة وموجز عن محاكمته كان بين وثائق البابا بيوس التاسع سمحت بمعرفة تفاصيل عن هذه المحاكمة التي كانت هيئتها تطلب منه التراجع عن أفكاره الواحدة بعد الأخرى، ولكنه كان يناقش الاعتراضات ويرفض مقترحات المحكمة إلى أن اتخذت حكمها المبرم مخلداً بذلك سيرة هذا العالم باعتباره شهيداً للفكر.

درس اللاهوت والفلسفة وانتسب إلى كنيسة القديس دومينيك ورسّم راهباً عام 1573. تعلم فنّ التذكر وتمكن بذلك من تعلم أشياء كثيرة، وحضّر أطروحة حول فكر توماس الأكويني. اعتنق التيار الفكري المسمى بالتيار الإنساني الذي كان يدعو إلى العودة إلى السلوك اليوناني وطرائق التفكير والحياة اليونانية القديمة، وأصبح أحد أتباع الهولندي إيراسموس. ولكن تفكيره الديني كان مختلفاً جداً عن الفكر السائد، فلم يكن من أنصار الثالوث، وخاصة الروح القدس التي كان يسميها روح الكون، وكذلك لم يكن المسيح بالنسبة له سوى حكيم رسول. وفي غرفته في الدير الذي كان يقيم فيه نزع صور مريم المعلقة على جدرانها. كل هذا أدى إلى اعتباره مهرطقاً واضطر لترك الرهبنة عام 1576 وبدأت رحلته الطويلة في التجوال.

تمثال جيوردانو في المكان الذي أحرق فيه في روما
أول جولاته كانت في المدن الإيطالية يجري أبحاثه ويخبئ أفكاره على مدى سنتين قاسيتين ليغادرها بعد ذلك إلى شرق وجنوب فرنسا، وانتمى إلى الكنيسة الكلفانية التي تركها بعد فترة قصيرة إثر جدل مع رئيسها. درّس الرياضيات والفيزياء في مدينة تولوز الفرنسية وضمه الملك هنري الثالث إلى حاشيته. وفي عام 1583 رحل إلى إنكلترا حيث قوبل بعداوة في أوكسفورد بسبب أفكاره التي لم تكن تثير إعجاب الكنيسة الإنكلجيكية. قام بالرد على الانتقادات الموجهة إليه ووضع عدة كتب يدافع فيها عن أفكاره. وفي عام 1585 عاد إلى باريس حيث دوّن أفكاره المناهضة لأفكار أرسطو المعتمدة من الكنيسة، مما شدد من سخط الكنيسة عليه، التي ضغطت على هنري الثالث الذي اضطر إلى التوقف عن الدفاع عنه. نفى نفسه إثر ذلك إلى ألمانيا حيث استقبلته جامعتا ماربورغ ووتنبيرغ. انتسب إلى الكنيسة اللوثرية التي اصطدم مع رئاستها عام 1988 ففصل منها. عاد في النهاية إلى البندقية بدعوة من شخص معروف في تلك المدينة، ولكن كانت لكل منهما أسبابه في اللقاء، فافترقا مختلفين، ووشى به الداعي لتبدأ محاكمته الطويلة. محاكمة أولى على مدى سنتين حصل إثرها على البراءة، ولكن كنيسة مدينة روما أعادته إلى قفص محاكمها لتستمر القضية سبع سنوات، انتهت بطلب من البابا كليمنت الثامن، ليصدر الحكم القطعي بالحرق.

أيد جيوردانو أفكار كوبرنيكوس القائلة بعدم مركزية الأرض، والتي لم يجرؤ كوبرنيكوس على المجاهرة بها، وقال جيوردانو بمركزية الشمس، وأن الأرض كوكب يدور مثله مثل باقي الكواكب حول الشمس. وقال بأكثر من ذلك. الأرض ليست مركز الكون ولا الشمس، ففي السماء نجوم كثيرة مثلها مثل الشمس، تدور حولها كواكب، وليس من سبب لأن تكون شمسنا هي مركز النجوم. وسفّه أفكار أرسطو التي تقول بثبات الأرض وعدم حركتها. وبحسب زعم أرسطو فإنه ليكفي أن نتذكر أن كل الأشياء تيسقط شاقولياً على الأرض، ولو كانت الأرض تتحرك لسقطت هذه الأشياء بعيداً عن الشاقول! ولكن جيوردانو رد عليه بالقول: ما عليك يا سيدي سوى أن تراقب مركبا يتحرك على سطح ماء النهر، ولو أسقطت حجراً من أعلى رأس الصارية لوجدت أن الحجر سيقع عند أسفل عمود الصارية تماماً دونما ابتعاد، وعليه فإن الحركة لن تغير في مكان السقوط لأن للإثنين الحركة نفسها. كما قال جيوردانو بأن المادة مؤلفة من ذرات، مستعيداً بذلك أفكار ديموقريطيس التي رفضها أرسطو رفضاً قاطعاً. وأضاف جيوردانو بأن كل شيء في الكون مؤلف من ذرات... هذه بعض من أفكاره التي لم يقبل التراجع عنه بالرغم من إغراءات الكنيسة بالعفو عنه، فقد كان صلباً في دفاعه عن آرائه القاطعة، ولم تجد الكنيسة جواباً إلا بحرقه حيّاً... ولا تزال الكنيسة مصرة على موقفها تجاه آراء جيوردانو بعد مراجعتها لحيثيات المحاكمة في نهاية القرن العشرين... ولكنها عفت عن غاليليو!


الجمعة، 22 ديسمبر 2017

الصعاليك ... قطاع طرق وفرسان أحياناً

الصعلوك هو الذي لا مال له ولا اعتماد بحسب معاجم اللغة العربية. وصعاليك العرب هم فقراؤها وفتاكها. وهم قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وقبائلهم وعشائرهم لأسباب عديدة تجعلهم ينفرون حياتهم ويعيشون عيشة الذؤبان معتمدين على أنفسهم في الدفاع وتحصيل قوتهم عن طريق الإغارة على الطرق والمسالك. وهم في خوف دائم من متعقب ومتربص. وكانوا يجتمعون فيما بينهم للدفاع والحماية خاصة وأن دم معظمهم كان مهدوراً. وصعاليك العرب لم يكونوا فقراء بالضرورة، فمنهم من كان من أسر ميسورة ولكنه فضل التصعلك لغاية في نفسه، ومنهم من كان رافضاً لحياة قبيلته ففضل الخروج عليها، ومنهم من أجبرته حياته على التصعلك أو أسباب أخرى. تكشف أشعارهم عموماً عن حقد تجاه مجتمعهم، وهو حقد لم يكن له إلا أن يزداد بسبب إهدار دمهم وملاحقتهم.

كان الصعاليك يشنّون غارات، فرادى أو جماعات، على الأغنياء، يفضلون البخلاء منهم لأن أموالهم زائدة عليهم وهم في حاجة إليها. وإذا امتنع الغني على الصعلوك فهو لا يبالي في قتله، والقتل عند الصعلوك مألوف، فهو نفسه مهدور الدم ولا يعرف متى يًقتل. كما كانوا يستهدفون أياً كان عند حاجتهم للطعام. وكانوا يغيرون على الضعفاء والشيوخ دون أي رادع ويقتلونهم طمعاً في ماشيتهم. كما كانوا يقتلون بعضهم. وفي بيت شعر يُنسب لتأبط شراً يقول فيه:
ولست أبيت الدهر إلا على فتى    أسلبه أو أذعر السرب أجمعا
بمعنى أنه كان يغير على كل من يراه يسلبه ولا يبالي بشيء إلا بالغنيمة أو بدب الذعر على الأقل. واسمه نفسه يثير الخوف، وقيل إنه سمي كذلك لأنه خرج يوماً بسهامه وقوسه فسألوا أمه عما به، فقالت "تأبط شراً". وأمه كانت زنجية، وربما كان هذا سبب أو أحد أسباب تصعلكه.

وكانوا يغيرون بسرعة ويهربون بالسرعة نفسها، فهمهم الغنيمة لا القتال. وبما أنهم يعرفون أنّ لا سند لهم فكانوا يستبسلون إن احتاج ذلك قتالهم وإلا فالسلامة والغنيمة، وهم يجيدون الفرار والاختباء لمعرفتهم الجيدة بمسالك المناطق التي يعيشون فيها.  فالصعلوك الهذلي يقول:
فإن تزعمي أني جبنتُ فإنني    أفرُّ وأرمي مرة كل ذلك
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً    وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك

وهم الخلعاء، أي الذين تبرأ أهلهم وقبيلتهم منهم. كما عرفوا بالرجليين لاستعمالهم أرجلهم في الإقدام والهرب، فمعظهم لا مال لديهم يمكنهم من شراء فرس وإطعامه. وهم على ذلك سريعو العدو، ومن أشهرهم في العدو السليك، ويقال "أعدى من سليك". ومن المشهورين في عدو الرجلين والعينين تأبط شراً الذي كان إذا جاع هاجم الظباء منتقياً أسمنها. ولكن هذا لم يمنع أن بعضهم كان من أكثر الناس مهارة في ركوب الخيل. وهم جوعى معظم وقتهم. أشهرهم عروة بن الورد صعلكة وشعراً وفروسية، وهو يظهر في شعره أن الجوع كان ينزل به حتى يهلكه، لذا كان يغير هرباً من الموت. وهو إن مات لن يجد من يبكي عليه كما يعبّر عن ذلك صعلوك شهير هو الشنفري المشهور بسرعة عدوه:
إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها    ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي

وبالرغم من أنهم كانوا يبررون أحياناً غاراتهم لإطعام أنفسهم أو إطعام فقراء لا قوت لديهم، وبهذا يظهرون نبلهم، كما يعبّر عن ذلك أشهرهم عروة بن الورد (عروة الصعاليك):
إني امرؤٌ عافى إنائي شركة    وأنت امرؤٌ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني وإن سمنت وأن ترى    بجسمي شحوب الحق، والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة   وأحسو قراح الماء، والماء بارد


استخدمهم البعض في القتال (مرتزقة) إلى جانبهم كما فعل امرؤ القيس في قتاله مع القبائل التي تمردت على أبيه. وكانت مكة مدينة يلجأون إليها ويجيرهم تجارها وأهلها لأنهم بذلك يمنعونهم من الإغارة على القوافل. وفيما يبدو أن انتشارهم كان الأكبر بين القرنين الخامس والسادس الميلادي، أتاح الإسلام انخراطهم في المجتمع لتنتهي سيرتهم كصعاليك، ولكن دون أن تنتهي إمكانية وجود الشذاذ، ذلك أن الفقر وراء الكثير من المشاكل الاجتماعية كما يصفه عروة بن الورد نفسه في شعر يُنسب له بالقول:
ذريني للغنى أسعى فإني       رأيت الناس شرهم الفقيرُ
وأدناهم، وأهونهم عليهم       وإن أمسى له حسب وخير
يباعده القريب، وتزدريه       حليلته، ويقهره الصغير

هذا بعض حال الصعاليك بحسب الروايات، وكالعادة لا يمكن معرفة الحقيقة، فبعض المؤرخين اللاحقين ينسبون شعراً ما لهذا الصعلوك ومؤرخ آخر ينسبه لغيره، وتتعدد الروايات في هذا وذاك، فتأبط شراً تدور حول اسمه أربع روايات على الأقل! وإن كان من شيء نستنتجه فهو أن الدراسات الخاصة بالتاريخ العربي القديم بحاجة إلى البحث والتمحيص. بعض ما كتب عنهم يجعل منهم أصحاب حركة سياسية-اجتماعية لما ذكر من شعر جميل ينسب لهم، ولكن التاريخ وقائع وليس كلمات نُطرب لها.

هذه الورقة مستقاة من كتاب الدكتور جواد علي بعنوان "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".


الأربعاء، 20 ديسمبر 2017

المحاضرة السادسة في تاريخ الحكم العثماني... عبد الكريم رافق

فيما يلي تسجيل للمحاضرة السادسة من محاضرات الدكتور عبد الكريم رافق الصوتية الخاصة بتاريخ الحكم العثماني في الأقطار العربية بعنوان: "الفتح العثماني لبلاد العربية-فتح بلاد الشام ومصر

يمكن الاستماع إلى المحاضرات السابقة على هذا الرابط.


الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

اللغة العربية... يومها، وأثرها في الفرنسية


الثامن عشر من كانون الأول لكل عام هو يوم اللغة العربية في الأمم المتحدة، إذ لكل لغة من لغات الأمم المتحدة الست يوماً خاصاً بها. فاللغة الفرنسية يومها هو في العشرين من آذار، والصينية في العشرين من نيسان، والثالث والعشرون من نيسان هو يوم الإنكليزية، والروسية في السادس من حزيران والإسبانية في الثاني عشر من تشرين الأول. ويوم العربية هذا هو يوم اعتمادها لغة رسمية في الأمم المتحدة.

كان ذلك في عام 1973 بناء على طلب الجزائر والعراق وليبيا والكويت والسعودية واليمن وتونس ومصر ولبنان لاعتماد اللغة العربية لغة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأدرج ذلك على جدول أعمال الجمعية العمومية لجلستها رقم 28، وأقر الطلب وصدر ذلك بالقرار رقم 3190 ليوم 18 كانون الأول وتم تطبيقه بدءاً من عام 1974. أما يوم اللغة العربية فصدر قراره عن المجلس التنفيذي لليونسكو عام 2012.

وكانت اليونسكو قد اعتمدت اللغة العربية في مؤتمراتها التي تعقد في المنطقة العربية منذ عام 1960 وترجمة النصوص الصادرة عنها إلى العربية. وفي عام 1966 اعتمدت اليونسكو اللغة العربية في مقرها وقامت بالترجمة الفورية إلى العربية ومنها إلى اللغات المعتمدة فيها.

يزيد عدد المتحدثين في اللغة العربية اليوم عن 400 مليون وهي من بين أقدم اللغات المتداولة حتى الآن. تأثرت بلغات العالم، وخاصة المجاورة للمنطقة العربية مثل الفارسية، وباللغات اللاتينية في العصور الحديثة بسبب الاستعمار أو بسبب تداول المصطلحات العلمية والقرب الجغرافي. كما أن اللغة العربية أثرت في هذه اللغات، بسبب الجوار والاستعمار (للدول التي فتحها العرب في صدر الإسلام، خاصة إيران والأندلس) والنقل من العربية أيام حضارتها، وكذلك من العرب الذين سكنوا أمصاراً مختلفة واستقروا فيها كحال اللبنانيين والسوريين منذ مطلع القرن العشرين وربما قبل في الأمريكيتين، وكذلك المغاربة الذين انتقلوا للعيش في دول أوروبا المجاورة للمغرب العربي.

وهذا التأثير واضح في لغة مثل الفرنسية  بحسب عالم اللغة الفرنسي جان بريفو jean Pruvost الذي يقول بأن نحو 500 كلمة متداولة في الفرنسية هي عربية الأصل. وتأثيرها في الفرنسية هو في المرتبة الثالثة بعد الإنكليزية والإيطالية. وهو يقول بأنه لا يمضي يوم بدون أن يستعمل أي فرنسي كلمة من أصل عربي. ففي الصباح نطلب فنجاناً من القهوة tasse de café، وكلمة tasse  التي تعني "فنجان" هي من أصل عربي (طاس) وكلمة  café هي القهوة التي انتقلت إلى كل اللغات. ويتابع أمثلة كثيرة في الخضار والثمار، وهو يقول أنك تبحث ربما في الصباح عن كأس من عصير البرتقال  orange  وهي انتقلت إلى الفرنسية من العربية (نارنج)، وهكذا. وهو لا ينسى أن يذكّر بأن الطلاب في المدارس يستعملون كلمات مثل الجبر والكيمياء العربية الأصل والفصل. وكلمة مخزن حيث نجد حاجاتنا اليومية وكلمة "شيء" chose التي تستعمل مرات عديدة من قبل أي شخص، وكذلك من لا يبحث عن قميصه chemise في الصباح.

ولكن هذا لا ينفي أن العرب يواجهون مشكلة مع لغتهم، فمن النادر أن يستطيعوا الكتابة بدون أخطاء، والأصعب إلقاء كلمة بلا لحن. وهذه مسألة تحتاج إلى حل، فنقل الأفكار، كتابة أو تلاوة، بجزالة وبلا أخطاء له وقع آخر، يثير الاحترام والانتباه إلى المكتوب أو المسموع.

الاثنين، 18 ديسمبر 2017

العنف العائلي... القتل

وهو العنف الذي يمارسه أحد طرفي العلاقة الزوجية على الآخر. وقد يكون هذا العنف شفهي أو نفسي أو فيزيائي أو جنسي أو تهديد أو قهر يمكن أن يصل إلى القتل. ويمكن للعنف أن يكون ظرفياً أو منتظماً يتكرر ويتطور ليصل إلى حد إرهاب أحدهم للآخر. وهو عنف يكون داخل الأسرة وله أن يمتد ليطال الأولاد، ويبقى في حدود البيت العائلي حتى لو علم به البعض من جيران أو أقرباء.

أسباب هذا العنف تختلف من بيئة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. تشير معظم الدراسات إلى معامل ترابط عال مع انخفاض مستوى التعليم بالدرجة الأولى. ولكن الحياة الحالية بمصاعبها الكثيرة تمثل أهم الأسباب الحالية. فعندما يكون الزوج باطلاً عن العمل ولا موارد اقتصادية لديه أو لدى زوجته فهذا يصبح في بعض الأحيان سبباً كبيراً. وكذلك تعاطي المخدرات والكحول تجعل متناولها في حالة غير واعية يمكن أن تدفع به إلى العنف وتفقده القدرة في السيطرة على نفسه. وكذلك وجود شريك آخر لأحدى الطرفين يدفع غالباً إلى مواقف متشنجة ترى في العنف مخرجاً لها. كما أن تعرض الطفل إلى العنف المباشر بأي شكل أو العيش في بيت كان العنف فيه سيد الموقف سيجعل من هذا الطفل مستقبلاً شخصاً مستعداً لممارسة العنف العائلي. وبالطبع فإن سوء التفاهم بين الطرفين يترجم في مواقف متنافرة تترجم بالعنف أحياناً لفرض موقف على آخر. ولبعض المجتمعات تصورات ثقافية يمكن أن تدفع إلى العنف مثل مفهوم الشرف أو الذكورية الطاغية التي تعتبر أن للذكر حقوق ليست للأنثى.

وهذا العنف يصل إلى حد القتل، وبعض البلدان يكون القتل لأحد الطرفين قصة يومية. ففي فرنسا مثلاً يحدث أن تشهد حالة قتل لأحد الزوجين مرة كل يومين، وإن كان قتل الزوج لزوجته أكثر بخمس مرات من العكس. وفي أمريكا فهناك ثلاث حالات قتل لزوجات كل يوم. ولا تخلو دولة غربية من هذا النوع من الحوادث اليومية المسجلة. أما في روسيا فيكثر فيها اعتداء الزوج على الزوجة بالقتل، ومعدل ذلك يصل إلى أكثر من عشرة آلاف حالة قتل سنوياً. أي بمعدل حالة قتل لزوجة في كل ساعة. والسبب هنا على الأغلب هو الكحول والبطالة، وكذلك ضعف القوانين الخاصة بالعنف الزوجي الذي لا تناقش أحداثه أمام القضاء إلا في الحالات الجرمية. أما الضرب، ضرب أحد الطرفين للآخر، فيمكن للشرطة أن تفصل فيه دون أن يكون ذلك مادة لدعوى قضائية.

وضعف هذه القوانين هي أحد الأسباب الهامة في الاندفاع نحو العنف بلا حدود. فقد شهدت أوروبا الغربية تطوير قوانين للمحاسبة على العنف الزوجي، وهي قوانين تشهد تعديلات مستمرة لكبح هذه الظاهرة تصل إلى أنه على الأشخاص (الحضور أو الجيران أو المارة) الذين يسمعون بأي شجار زوجي إبلاغ الشرطة في الحال وامتناعهم عن ذلك يرتب عليهم مسؤوليات قانونية. كما أن المجتمع المدني، في الدول المتاح فيها، ينشط في هذا الخصوص. فقد أسست في بريطانيا دور استقبال منذ سبعينيات القرن الماضي لمن يعانون من العنف الزوجي لتقديم المأوى والدعم النفسي والمادي والمشورة القانونية. وفي بعض الدول يقتصر الأمر على تقديم الدعم النفسي والمشورة القانونية ولو عبر الهاتف، وهو أمر يمكن أن يكون مفيداً جداً في المجتمعات المحافظة والتي تعتبر مثل هذه الأمور بمرتبة "الفضائح".

وجرائم القتل هذه يمكن أن تكون في كل الأوساط والمجتمعات. فلو أخذنا سويسرا، البلد الراقي، مثالاً لوجدنا أنه في عام 1936 قتلت بيرت دولابير زوجها المؤرخ وعالم الآثار ألبرت نايف. كما قُتل المصرفي الفرنسي إدوارد ستيرن على يد خليلته السويسرية في جنيف عام 2005. وكذلك قتل المصرفي السويسري جيرولد ستادلر زوجته الرياضية كورين ري-بلت في عام 2006. وفي عام 2016 قتل المعلوماتي البريطاني إيان ستيوارت زوجته الكاتبة هيلين بيلي. وأشهر حالات القتل تلك التي قَتل فيها فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي لويس ألتوسير زوجته الباحثة الاجتماعية هيلين في عام 1980، الذي عزيّ إلى لوث في عقله يداهمه بين الفترة والأخرى. وذكر ألتوسير فيما بعد، في ما ترك من كتابات بأنه لم يكن يطق فكرة أن تتركه هيلين...ومن الحب ما قتل!!!

ومع هذا، فإن المجتمعات الحالية تعيش تغيرات كبيرة وبلا توقف، تتغير فيها الاعتبارات ونمط العلاقات والأولويات. وفي أطوار التغيرات هذه تتراجع أو تتراخى منظومات القيم مؤدية إلى تصرفات غير مألوفة... إذ يمكن لنمط الحياة أن يتغير بسرعة دون أن يجاريه التغير الاجتماعي المقابل، فيكون ذلك مصدراً لأزمات جديدة.

الأحد، 17 ديسمبر 2017

لافونتين... المنجّم الذي سقط في البئر


سقط منجم في قعر بئر
فقيل له: يا للمسكين البائس،
فأنت بالكاد ترى أمام أقدامك.
وتفكر في قراءة ما فوق رأسك؟
هذه المغامرة بحد ذاتها، دون الذهاب إلى ما هو أبعد،
يمكن أن تكون درساً لمعظم البشر.

ومن بين الناس الذي نكون على الأرض،
فقلة لا تسعد بسماع قول
بأنه يمكن للبشر أن يقرءوا في كتاب القدر.
ومن هذا الكتاب غنى هوميروس ورفاقه،
ماذا كانت الصدفة بالنسبة للأقدمين،
والعناية الإلهية لنا نحن الحاضرين؟
ولكن الصدفة ليست من العلم:
ولو كانت كذلك فسنكون مخطئين
في تسمية صدفة أو حظ أو مصير،
أي شيء بعيد عن اليقين.

أما الإرادات السامية
لهذا الذي يفعل كل شيء، ولا شيء إلا عن قصد،
فمن يعرفها غيره؟ وكيف يمكن قراءة ما يضمره؟
فهل خطّ على جبهة النجوم
ما تخفيه ليالي الأزمان في أشرعتها؟
ولأي غاية؟ ألتمرين روح هؤلاء
الذين على الكرة كتبوا؟
لتجنيبنا سوءات لا يمكن تحاشيها؟
ولمنعنا من التمتع بالمسرات؟
مسببين القرف من تلك المسرات المحرّمة
وتحويلها إلى آلام قبل حدوثها؟
هذا الخطأ، أو بالأحرى الاعتقاد فيها جريمة.

تصمت القبة السماوية؛ والأفلاك تجري إلى مقرها،
والشمس تبهرنا بنورها كل يوم،
وفي كل يوم يجلو نورها الظل الأسود،
بدون أن نتمكن من استدلال شيء آخر
إلا ضرورة الإبهار والإضاءة،
وجلب الفصول وإنضاج البذور،
وأن تترك على الأجساد بعض الأثر،
وفي غير ذلك، فكيف تستجيب لطوالع متباينة
بهذا القطار المتكرر الذي يشد الكون؟

أيها المشعوذون صنّاع الأبراج،
غادروا بلاط أمراء أوروبا؛
واصطحبوا معكم المخبرين.
فأنتم وهم لا تستحقون التقدير.

ربما قد جاوزت قدري؛ فلنعد إلى قصتنا
عن هذا الراصد المرغم على الشراب.
فغير تفاهة فنه الكذاب،
فإنه صورة عن المندهشين من السراب
مع أنهم في خطر،

على أنفسهم وعلى أعمالهم والبشر.