بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 سبتمبر 2018

حدائق الحيوان البشرية

نعم إنها حدائق حيوان يعرض فيها البشر ليشاهدهم زائرو هذه الحدائق. اشتهرت هذه الحدائق في العالم الغربي بما في ذلك اليابان وإن كان في وقت متأخر. الهدف متغير بحسب الظروف والزمن، لكن الخلفية هي نفسها: الاعتقاد بأن الآخرين (من غير أهل الغرب) دونهم سوية ويثيرون من الفضول ما يستحق عرضهم للفرجة. هذا في أحسن الأحوال، ولم يكن الأمر يخلو من عنصرية فجة وكان في معظم الأحيان لتبرير دول الغرب المستعمر أمام شعوبها بأن استعمارها لباقي العالم هو لنشر الحضارة بين هؤلاء المتخلفين الهمج الذين نعرضهم أمامكم، وليس لاستغلالهم أو استغلال بلادهم ونهبها.

بدأ الأمر عقب أول رحل كولومبوس إلى أمريكا الوسطى إذ جلب معه ستة أشخاص من هنود تلك البلاد إلى البلاط الاسباني ربما بهدف إكساب رحلته بعض المصداقية والحصول على دعم كاف لرحلته الثانية. وتكرر ذلك في أكثر من بلاط في أوروبا، من فرنسا إلى الدانمارك وإنكلترا. كل هذا كان يحدث في أماكن محدودة حتى مطلع القرن التاسع عشر. حيث بدأ جلب أناس، فرادى أو جماعات، يتميزون ببعض الغرابة في أشكالهم كالقصر أو الطول أو البدانة أو البرص أو الشفاه أو الآذان المدلاة أو أشياء أخرى وعرضهم فيما يشبه السيرك وذلك مقابل قطع نقدية. ولكن كانوا كلهم من العالم "غير المتحضر".
سراتجي براتمان (1789-1815)الأفريقية الجنوبية التي أحضرت
إلى أوروبا لاشتهارها بمؤخرتها الضخمة

تطور الأمر ليكون العرض في حدائق خاصة، بما فيها حدائق الحيوانات، أو المشاركة في عروض خاصة في الغرب دائماً. حيث كان يجلب أفراد أو مجموعات كاملة تترك لتتصرف وكأنها تعيش في بلادها أمام أعين الفضوليين. الهدف هنا كان لإظهار مستوى حياة أهل المستعمرات ومعارفهم وإقناع شعوب الغرب "بحكمة" قياداتها في احتلال الغرب لبلاد هؤلاء الناس. ومع هذا فإن في الأمر صناعة وتجارة، فقد كان ذلك يُدرّ على منظمي تلك الأنشطة عائداً مالياً.
محاكاة لقرية نيجيرية سنغالية في المعرض الاستعماري في باريس عام 1907
وأصبحت هذه العروض جزءاً من المعارض الدولية التي كانت تقام في أوروباً سنوياً والتي كان يؤمها ملايين الزوار من مختلف دول الغرب. واستمرت هذه العروض و"حدائق الحيوانات البشرية" حتى منتصف القرن العشرين. وأحصي عدد زوار العروض وحدائق الحيوان البشرية بنحو مليار ونصف زائر بين عامي 1800 و 1958. يمكن مشاهدة بعض الصور على هذا الرابط.
 أوتا بنغا من أقزام أوغندا في حديقة حيوان نيويورك عام 1906

اختفت هذه الحدائق منذ بضعة عقود وإن كانت قد تراجعت كثيراً منذ ثلاثينيات القرن العشرين بسبب مقاومة المجتمع الغربي لهذه العروض التي تتنافى وحقوق الإنسان كما حددها الغرب نفسه... ربما كان هذا بعض من سبب توقف هذه العروض، وربما لتوفر وسائل تسلية ومعرفة أخرى مثل المذياع والتلفاز والسينما. لكن هذا لم يمنع استمرارها عبر وسائل أخرى مثل القصص المرسومة والسينما التي كانت تظهر الهنود الحمر على أنهم متوحشون وكذلك الأفارقة في أفلام طرازان الشهيرة. لكن كل هذا خفت بريقه مع انتهاء فترة الاستعمار ... هل يمكن القول بأننا في حال أحسن اليوم!... هناك من يؤكد بأن الإنسان عموماً، وليس في المطلق، قد أيقن في الخمسين سنة الماضية بأن الحروب لا تجلب إلا المآسي وبأنها أشرّ الشرور. ولكن عند النظر حولنا يغلب علينا عدم تصديق ذلك... لا يزال الطريق طويلاً أمام الإنسان ليكون آدمياً.


كيف بنى قدماء الإنكا جدرانهم؟


لا يزال سر البناء لدى الأقدمين، من فراعنة وسومريين وغيرهم، وخاصة في أمريكا الجنوبية محيراً لم يجد بعد جواباً على الكثير من التساؤلات المحيطة له. فجدران البناء لدى الإنكا، الحضارة التي بدأت مع مطلع الألفية الثانية بعد الميلاد، تميزت عن غيرها بأنها استعملت حجارة غير منتظمة الشكل، مربعات أو مستطيلات، في جانبها الظاهر للعيان. وإنما هي حجارة متعددة الأضلاع ولا تشبه بعضها، لا في الشكل الهندسي ولا في الحجم. ولكنها متراصة بإحكام في الجدران التي تحضنها وبلا ملاط. والسؤال هنا: لماذا هذه العشوائية في أشكال الحجارة علماً بأن من كان له القدرة على بناء جدران بهذه الدقة والإتقان كان بإمكانه أن يستعمل حجارة ذات أشكال منتظمة؟ والبناء باستخدام أشكال منتظمة أسهل وكذلك تحضير الحجارة للبناء. يسود اعتقاد أن مرد ذلك هو أن الإنكا كانوا يعرفون أن مقاومة البناء للهزات الأرضية يكون أفضل بكثير في حال استخدام حجارة غير منتظمة، إذ سيكون تصدع هذه الجدران أصعب بكثير وكذلك انتقال الاهتزاز عبرها. وكما هو معروف فإن منطقة الإنكا الممتدة من كولومبيا حتى التشيلي في الجزء الغربي من أمريكا اللاتينية هي منطقة هزات أرضية متكررة. وهذه المعرفة إنما حصل عليها بناءو الإنكا من حضارات أخرى سابقة في أمريكا الجنوبية. التفسير منطقي ولكن لا يتوفر دليل قاطع على ذلك... وهذا النوع من البناء وجد في أماكن أخرى في العالم وفي فترات سابقة جداً للإنكا!

وهذه الحجارة، كبيرها وصغيرها، من أين كان الإنكا يأتون بها؟ كان البناء أحياناً حيث الحجارة، ولكن لم يكن الحال هكذا دائماً. ففي بعض الأماكن كانت المسافة بين البناء ومكان توفر الحجارة تصل إلى 35 كم. بعض الحجارة كان كبيراً جداً وصل إلى نحو مائة طن! بعض هذه الحجارة كان يتوفر بشكل طبيعي ولا يحتاج إلا نقله إلى مكان البناء. البعض الآخر كان من اللازم اقتلاعه بأدوات بدائية. وهنا كانت تتدخل المعرفة بالصخور والحجارة بالاستفادة مثلاً من التشققات لاستخراج الحجارة اللازمة. إذ كانت تستخدم جذوع الأشجار أحياناً بحشرها في الشقوق الصخرية ثم تروى بالماء مما يؤدي إلى انتفاخ هذه الجذوع التي ستضغط بدورها على الصخر وتفصله عما حوله.

وهنا تأتي مشكلة النقل. فالحجارة الكبيرة تحتاج إلى قوة كبيرة لنقلها. وهذا ما كان يتم بالشد أو الدحرجة على جذوع الأشجار أو الزحلقة على الرمل أو الطين الأملس. وفي كل الأحوال فإن الأمر يحتاج إلى قوة لا بأس بها. ومن المعروف أن بإمكان الإنسان العادي أن يشد على أرض عادية ذات ميول معقولة أحجاراً زنة نحو 25 كيلوغرام لعدة كيلومترات. ومن ثم فلشد حجر من نحو عشرة أطنان فهذا يحتاج إلى نحو 400 شخص. وفي الواقع فإن الأمر يحتاج إلى أضعاف ذلك. فهم لا يعملون بشكل متزامن تماماً بحيث يمكن النظر إليهم وكأنهم شخص واحد ذو قوة جبارة. وهؤلاء يحتاجون للعمل بالتناوب مع غيرهم. وكذلك هم بحاجة إلى من يُمهّد الأرض، وأحياناً إلى عدد كبير آخر للحماية من الانزلاق. وهو انزلاق كان يودي بحياة الكثيرين عند حدوثه.

حجر بإثني عشر ضلعاً
أما نحت الحجارة فلم يكن بالأمر الصعب للمتمرسين على ذلك كما بينت دراسات حديثة وضمن حدود المعقول. أما الأمر المحيّر فهو كيف يمكن تحضير الحجارة اللازمة في حالة الجدران التي لا تستخدم حجارة نظامية الشكل. بعض الحجارة ذات واجهة بعدد أضلاع تزيد عن اثني عشر ضلعاً. فكيف يتم تحضير حجر لوضعه بين مجموعة من الحجارة غير المنتظمة؟ قيلت أشياء كثيرة من أخذ نوع من "الطبعة" عن المكان الذي سينزل فيه الحجر باستخدام مواد طينية وجصية، ولكن لم يُعثر على أي أثر يؤكد مثل هذه الفرضية. وقال آخرون بأن الحجارة كانت تنحت فوق المكان الذي سيوضع فيه الحجر، وهذا أمر متعذر نظراً لكبر حجم بعض الحجارة وفرط وزنها ومن ثم صعوبة التعامل معها فوق الجدار نفسه حيث يحتاج الأمر إلى التجريب.
البعض قال بأن الإنكا كانوا يصنعون نوعاً من الإطار الخشبي المماثل للمكان الذي سيوضع فيه الحجر، وهذه الفرضية، بالرغم من جاذبيتها، تعني أن البعد الثالث (البعد الذي لا يُرى على واجهة الجدار) منتظم، ولكن ما نراه في الواقع هو غير ذلك. ولا من جواب شاف حتى الآن.

ربما أن الجواب هو في القوى الخفية كما يعتقد البعض. وإن كان هناك من يقول بأن الإنكا، والمصريين أيضاً، كانوا يصبون الحجارة بالشكل الذي يريدونه، باستخدام تركيبة خراسانية لا نعرف كنهها، ولكن لا شيء يؤكد ذلك أيضاً. هناك إشارات تحتاج إلى مزيد من البحث بأن أهل أمريكا اللاتينية كانوا يستخدمون سوائل يستخرجونها من بعض أنواع الشجر تجعل الحجارة أقل قسوة لفترة كافية لتشكيل هذه الحجارة كما نريد. وبالرغم من إغراءات هذه الفكرة فلا سند علمي يؤكد إمكانها حتى الآن...ولكن لماذا لا نترك القديم بأسراره، أسرار تمنح سحره الخاص، ولماذا نُشغل بمعرفة ما كان... إنه الفضول الذي لا حد له.... وحتى لا ننسى، فإن العمال الذين كانوا يشاركون في كل هذه الأعمال كانوا "متطوعين" لخدمة الملك أو الفرعون... وهم "متطوعون" لأن لهذه كلمة بُعداً دينياً يتناقض مع كلمة "عبيد"!

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

الأوراق الميتة... جاك بريفير



كم أتمنى لو تتذكرين،
الأيام السعيدة عندما كنّا أصدقاء،
كانت الحياة جميلة في ذاك الوقت،
وكانت الشمس أكثر سخونة من الآن.

تُجْمَعُ الأوراق الميتة بالمجرفة،
كما ترين لم أنسى.
تُجْمَعُ الأوراق الميتة بالمجرفة،
وكذلك الذكريات والندم.

تحملها ريح الشمال،
في ليلة النسيان الباردة.
كما ترين لم أنسى،
الأغنية التي كنت تغنيها لي.

إنها أغنية تشبهنا،
أنت التي كنت تحبينني وأنا الذي كنت أحبك.
كنا نعيش نحن الاثنان معاً،
أنت التي كنت تحبينني وأنا الذي كنت أحبك.

الحياة تفرّق هؤلاء الذين يحبون بعضهم،
بهدوء وبلا صخب.
والبحر يمحو على الرمل،
خطوات المحبين المنفصلين.

كنا نعيش نحن الاثنان معاً،
أنت التي كنت تحبينني وأنا الذي كنت أحبك.
والحياة تباعد المتحابين،
بهدوء وبلا صخب.

الأحد، 23 سبتمبر 2018

الخوارزمي... الخوارزمية

هو محمد بن موسى الخوارزمي، ولد عام 780 ميلادية في منطقة خوارزم، ومنها جاء اسمه، الواقعة اليوم في أوزبكستان، وتوفي في بغداد عام 850 للميلاد. اهتم بالرياضيات والفلك والجغرافيا وكان عضواً في بيت الحكمة في بغداد. هو مؤسس علم الجبر. وضع كتباً عديدة من بينها "المختصر في حساب الجبر والمقابلة". تمحور جل اهتمامه حول حل معادلة الدرجة الثانية الجبرية وانشأ لذلك طريقة الإتمام (الجبر) إلى مربع كامل.

وهذه الطريقة تتألف من خطوات متتالية يسمح اتباعها بالوصول إلى الحل دون عناء، أو تفكير ربما.  وهذه الطريقة نسميها بالخوارزمية نسبة إلى مخترعها. وهي تعتمد على الخطوات التالية التي نوضحها عبر المثال البسيط الآتي. فلو كان لدينا معادلة جبرية كتلك التي قابلناها في الصف التاسع على أبعد تقدير لها الشكل الآتي:
وكان الخوارزمي يقرأها على النحو الآتي: مربع المال مضافاً إليه ستة أضعافه يساوي سبعة، فما هي قيمة المال؟

والخطوات التي قال بها الخوارزمي لإيجاد قيمة المال (x) هي الآتية:

1.    ننشئ مربعاً ضلعه x فتكون مساحته هي:      
وهذا هو الحد اليساري من المعادلة السابقة.

2.    ننشئ مستطيلين على جانبي المربع، ضلعا كل منهما هو  x و3، وبذلك تكون مساحتهما هي الحد الثاني من الطرف اليساري للمعادلة، أي 3x+3x=6x

3.      نتمم الشكل الحاصل إلى مربع، كما هو موضح في الرسم الآتي:

مجموع مساحة المربع والمستطيلين هي 7 بحسب المعادلة، أما مساحة المربع الأبيض (مربع الإتمام) فهي 3*3=9، ومن ثم فإن مساحة المربع الكلي هي 7+9=16

4.    المربع ذو المساحة 16 ضلعه يساوي 4،

5.    ولكن ضلع المربع الكلي يساوي x+3، إذاً: x+3=4، وعليه فإن x تساوي الواحد، وبذلك نكون قد وصلنا إلى الحل ووجدنا قيمة المال.

(البعض سيقول بأن هناك حل آخر سالب، ولكن لم يكن للعدد السالب من معنى لما كان يبحث عنه الخوارزمي، ولم يكن العدد السالب معروفاً أصلاً في أيام الخوارزمي)

الخطوات الخمس السابقة تسمح بحل أي معادلة درجة ثانية لها الشكل العام:
 حيث b,c أعداد موجبة. 

هذه الخطوات تشكل معاً خوارزمية حل معادلة الدرجة الثانية هذه. وهذه الخوارزمية/الخطوات يمكن برمجتها على حاسوب وإيكال مهمة حلها للحاسوب. وبهذا المعنى فإن كل القضايا التي يمكن حلها باتباع خطوات متتالية يمكن برمجة الحاسوب لحلها، الذي سيقوم هذا الأخير بحلها وبسرعة أكبر بكثير من سرعتنا نحن البشر, فمعالجة الصور التي يقوم بها الحاسوب والمتضمنة لعمليات طويلة ومعقدة، توضع على شكل خوارزمية (مجموعة خطوات متتالية) تبرمج في الحاسوب الذي سيستخدمها في جعل الصور تبدو كما نريد. والأمر نفسه في كل ما يقوم به الحاسوب، بما في ذلك تنضيد هذا النص الذي نتمناه أن يكون واضحاً.

الاستقلاب... الأيض!

كلمتان في العربية لأمر واحد هو metaolism في الإنكليزية المشتقة من كلمة يونانية تعني "التغيّر"، التي يُقصد بها مجموعة التفاعلات الكيميائية داخل الجسم العضوي لاستدامة الحياة. وهذه التفاعلات تنحصر في تحويل الغذاء إلى طاقة ضرورية لعملية بناء الخلايا، وكذلك في بناء مكونات البروتين والدهون والأحماض النووية وبعض الكربوهيدرات وكذلك التخلص من البقايا النيتروجينية. أي أننا نتحدث هنا عن عمليات تحول، استهلاك وبناء، لذا يمكن تفضيل كلمة استقلاب على كلمة أيض التي لم نعثر على أصل لها في قواميس اللغة العربية.

وهذا الاستقلاب إنما يتم في الخلية، أية خلية حيّة لأي كائن حيّ. أي أنها مسألة كيمائية تجري في خلايا الكائن الحيّ لذا فإن قسم العلوم الذي يهتم بها هو قسم الكيمياء الحيوية. وعملية الاستقلاب تتألف في الواقع من عمليتين، الأولى: الاستقلاب البنائي Anabolism وهي عمليات البناء التي تجري في العضوي مثل تخزين الدهون أو إنتاج الهرمونات أو بناء العظام إثر كسر. والثانية: هي الاستقلاب الاستهلاكي Catabolism وهي التفاعلات داخل خلايا العضوي التي تنحو إلى استهلاك ما هو موجود من دهون وطاقة. وإذا كانت العملية الأولى تساهم في زيادة الوزن فإن الثانية تساهم في تخفيف الوزن. وإذا كنا في المحصلة ممن يتزايد وزنهم فإن هذا يعني أن الاستقلاب البنائي أكثر من الاستقلاب الاستهلاكي. ومع تراجع الكتلة العضلية لدى البعض فإنما هذا يدل على أن الاستقلاب الاستهلاكي أكبر من الاستقلاب البنائي. وفي الواقع فإن الاستقلاب هو عملية مغلقة متوازنة تماماً، بمعنى أن كل ما لا يستهلك يخزّن وفي خلال فترة ما من الزمن فإن كل المحصلة الاستقلابية لكائن ما ستكون معدومة، بمعنى أن كل ما يدخل إلى هذا الكائن من غذاء وسعات حرارية خارجية سيتحول بالكامل إما إلى كتل من دهون أو عضلات أو غير ذلك، أو سيتحول إلى طاقة عضلية أو حرارية أو نشاط خليوي الخ.


وعلى هذا فإن الاستقلاب هو سلسلة لا تتوقف من عمليات التركيب والتفكيك. فإذا حدث مثلاً ونقص البروتين في الكائن العضوي، فسيقوم بتركيب ذلك بالحصول على الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنتروجين (الآزوت) الموجودة في الدهون، وهذه العناصر ستستخدم في ظروف أخرى لتخزين الكربوهيدرات على شكل دهون. وسبب هذا أن الكائنات لا تتناول الطعام بلا توقف والجهد الذي تبذله ليس منتظم، أي أن على الكائن أن يتكيّف مع الأوضاع كما تكون. أي عليه أن يخزن ما قد يحتاج إلى حين الحاجة... المشكلة أنه قد يخزن بأكثر مما سيحتاج وهذا ما يظهر مع التقدم في العمر.

كل هذه العمليات تجري كما أسلفنا داخل الخلية حيث تستخدم الخلية جزيئة أولية تتحول داخلها إلى جزيئة جديدة بواسطة الأنزيمات. وبفضل هذه الأنزيمات فإن كل خلية ستقوم بمئات العمليات الكيمائية في الآن نفسه. وبعض الجزيئات الجديدة ستحتاج إلى عشرات التفاعلات يشارك في كل منها أنزيم محدد. وهذه التفاعلات تكون إما بهدف التركيب (الاستقلاب البنائي) أو التفكيك (الاستقلاب الاستهلاكي). أما الطاقة اللازمة لهذه العملية فيكون الحصول عليها من الغلوكوز (سكر العنب) الصغير الحجم جداً والذي له أن يتواجد في كل مكان ويتحول إلى طاقة بسهولة، كما يمكن بناؤه بسهولة في كل خلية بدون استثناء. والعملية تحتاج إلى المياه والأملاح المعدنية. فجفاف الخلية الكامل يؤدي إلى موتها، ونقص الأملاح يساهم في الجفاف ووجودها ضروري لدخول وخروج الجزيئات من الخلية وللتفاعلات الكيمائية داخل الخلية. النقص فيها كما الزيادة يؤدي إلى خلل في عمليات الخلايا. فزيادة البوتاسيوم في خلايا القلب تعني توقفه عن العمل. كما تحتاج هذه العمليات إلى الفيتامينات التي يحرّض وجودها عمليات كيميائية معقدة، فالنقص في فيتامين ك سيؤدي إلى تباطؤ في التخثر، وانعدام وجوده سيؤدي إلى النزيف المؤكد. وبما أن الخلايا تختلف فيما بينها فإن لكل منها عمليات استقلاب مختلفة، والفيتامينات هي التي ستقوم بدور الرسول المعرف في كل خلية لعملياتها الاستقلابية الأساسية.... هذا شرح مبسّط، وبعض التبسيط مضلل.


الجمعة، 21 سبتمبر 2018

الذئب والحَمَل... لافونتين

                                              رأي القوي هو الأفضل دائماً

وهذا ما ستبرهنه هذه الحكاية

فقد جاء حمَلٌ يروي عطشه

إلى جدول الماء الصافي.

ومر بالقرب ذئبٌ خاوي البطن باحثاً عن صيد،

شدّه الجوع إلى هذا المكان.

ما الذي يجعلك فظاً تعكّر صفو شرابي؟

قال الذئب مستشيطاً:

ستعاقب على تهورك.

أجاب الحمل: مولاي

لا داع لغضب جلالتكم؛

فكما ترون أنا أشرب من الجدول

على مسافة عشرين خطوة بعد فخامتكم،

ومن ثم فأنا لا أعكّر صفو شرابكم.


نعم تعكّرها أجاب الذئب مستشرساً،

كما أنك تحدثت عني بالسوء في العام الماضي.

وكيف ذلك وأنا لم أكن قد ولدت بعد؟

وتابع الحمل: فأنا لا أزال أرضع من أمي

إن لم تكن أنت فهو أخوك.

ولكن لا أخ لي.

إذاً فهو واحد من أهلك:

فأنتم لا توفروني أبداً،

أنتم ورعيانكم وكلابكم.

أعرف ذلك، وعليّ الانتقام.

 

وإلى عمق الغابات

حملَ الذئبُ الحَملَ ثم أكله،

دون دفاع أو محاكمة.


الأحد، 16 سبتمبر 2018

الميكروب والبكتيريا والفيروس... ما الرابط بينها؟

هذه كلمات نسمعها ونرددها دون تصور دقيق لكل منها ويمكن المبادلة بينها أثناء الحديث عنها وكأنها شيء واحد. لكن الأمر ليس كذلك. فالميكروب هو اسم عام، وليس على شيء خاص بعينه، للدلالة على شيء صغير، يبدأ من الغبار الدقيق جداً إلى أي جسيم صغير لا يرى بالعين المجردة وإنما نحتاج إلى ميكروسكوب لرؤيته. أول استخدام لهذه الكلمة كان عام 1878 على يد طبيب فرنسي للإشارة إلى كائنات صغرية تسبب الأمراض. إذ كان الاعتقاد السابق هو أن الأمراض سببها جسيمات ضارة معلقة في بخار سام لها أن تسبب الأمراض، وأن هذه الجسيمات تتطور في الأوساط غير النظيفة، وأن النظافة كافية لمواجهة تناقل الأمراض. ولكن هذا ليس بالصحيح تماماً، إذ أن الأمراض يتم تناقلها عبر الهواء ولكن أيضاً عبر الملامسة المباشرة حيث تنتقل العضويات الميكروية (أي الصغيرة جداً، ومنها جاءت كلمة "ميكروبات") الضارة. وهذا ما أثبته باستور وغيره في حالات أمراض التفوئيد والسل والسفلس وغيرها. وهذه الجسيمات الصغيرة موجودة في كل مكان، في الماء والهواء والتراب، في الأمعاء وعلى الجلد. وعلى هذا الأخير يزيد عددها عن ألف مليار. وهي ليست خطرة بالضرورة، بل بعضها مفيد للكائن العضوي في تشكيل فيتامين ك وامتصاص المواد الغذائية وهضم السكر والحماية من الكثير من المضار. ولكن بعضها ضار وحامل أو ناقل للأمراض نجدها في ثلاث فئات: الخمائر والفطور، ثم البكتيريا، ثم الفيروسات. وفي الواقع فإن ما نسميه ميكروب لا يمثل طائفة علمية متجانسة، والبعض يقول بأن هذا مصطلح عام لا يحمل معنى محدداً ولا يمكن الحديث عنه على نحو مستقل وتحديد مواصفاته الخاصة به.

أما البكتيريا فهي عضوية حية صغيرة للغاية (1 ميكرومتر، أي يمكن أن يوجد 50 بكتيريا في فراغ بعرض شعرة) على شكل عُصيّات أو كرويات دقيقة. تتألف من خلية واحدة بلا نواة، لها غلاف الخلية الخارجي وتتضمن على مورثات تتناقلها بالتكاثر، وهي تقوم بالوظائف الأساسية للكائن الحي من حيث التكاثر والحصول على المادة والطاقة من الوسط المحيط. ولها درجة من الاستقلالية ولها استقلابها (أيضها) الخاص بها. وهي أولى أشكال الحياة التي ظهرت على الأرض منذ نحو ثلاث مليارات سنة. يعيش في جسم الإنسان من خلايا البكتيريا أكثر من ضعف باقي الخلايا. معظمها الغالب غير ضار لا بل مفيد. ولكن بعضها يقف وراء أمراض معدية خطرة مثل الطاعون والكوليرا والسل ... والتهابات القصبة الهوائية واللوزتين والشهاق. تقاوم البكتيريا بالوقاية أولاً بمنع وصولها إلينا، خاصة عبر التقيد بقواعد النظافة والابتعاد عم الأماكن الموبوءة. وأهم الحمايات هي الجهاز المناعي للإنسان الذي يحاول، وبشراسة، مقاومة البكتيريا الضارة. وفي حال الانتشار السريع والكبير وفشل الجهاز المناعي في مواجهة هذه البكتيريا يمكن اللجوء إلى المضادات الحيوية التي يمكن أن تكون انتقائيةً، بمعنى أنها تهاجم البكتيريا الضارة فقط دون غيرها أو بكتيريا محددة بالذات في حال اكتشاف نوع البكتيريا الضارة. ولكن هذا لا يخلو من مشاكل على المدى البعيد بالرغم من أن معظم مكونات المضاد الحيوي هي مكونات طبيعية.

أما الفيروس (كلمة من أصل لاتيني بمعنى السُمّ) فهو ليس بكائن عضوي مستقل قادر على التكاثر من تلقاء ذاته. أي أنه ليس بخلية وإنما أقل من ذلك. وهو عبارة عن غلاف بروتيني واق يحمل في داخله مورثات. لذا فهو بحاجة إلى خلية يحشر نفسها فيها ليتكاثر، لذا فهو طفيلي. وهو عموماً أصغر بعشرين مرة من البكتيريا وإن كانت الاكتشافات الحديثة تقول بوجود فيروسات كبيرة. ووصول الفيروس إلينا يكون بالعدوى عن طريق اللمس أو المكوث بقرب حامل للفيروس. ومن لحظة دخول فيروس إلى الجسم سيقوم بالتطفل على خلايا الجسم بالالتصاق بها أولاً ثم النفاذ إليها وتحرير مكوناته الوراثية. وسيستفيد من إمكانات الخلية الحيوية للتكاثر إلى أن يصبح عدد الفيروسات بما لا يمكن للخلية أن تحتمل فتنفجر لتتكرر العملية بعد ذلك في خلايا أخرى وهلمجرا. من الأمراض الفيروسية مرض نقص المناعة (الإيدز)، وكذلك الجدري والحمى النازفة والأنفلونزا والزكام... أما مقاومتها فتكون عبر الجهاز المناعي الذي تعرف إلى هذه الفيروسات في لحظة ما وتعلم مقاومتها كما هو الحال في الجدري التي لا نصاب بها إلا مرة واحدة، وكثير من أمراض الزكام لا تحتاج إلى دواء. والوسيلة الأهم في عدم الإصابة بالأمراض الفيروسية، غير النظافة والوقاية، إنما هي في اللقاحات التي يتعلم الجهاز المناعي عبرها كيفية مقاومة هذه الفيروسات... وقاكم الله منها ومن البكتريا وكل ما يسبب السقم.


توما سانكارا... غيفارا أفريقيا


هو مواليد فولتا العليا لعام 1949، أصبح رئيساً لها عام 1983 وأعيد تسميتها بوركينا فاسو. شغل سانكارا منصب وزير دولة للإعلام عام 1981 واستقال بعد عدة أشهر بسبب وقف الحكومة حق الإضراب مصرحاً "شقيُّ من يريد توجيه النصال إلى الناس"، وطُرد جراء ذلك وفصل من الجيش. ولكنه عاد رئيساً للوزراء في نهاية عام 1982 إثر انقلاب قام به ضابط طبيب، وفي عام 1983 أعلن موقفه بالقطيعة مع العلاقة الاستعمارية الجديدة التي تربط بلاده بفرنسا. وبتأثير هذه الأخيرة على الأغلب أقيل من منصبه ووضع قيد الإقامة الجبرية. ولكن أعيدت له حريته نتيجة مظاهرات شعبية ساندتها أحزاب اليسار والنقابات. وفي الرابع من آب عام 1983 وصلت مجموعة عسكرية إلى العاصمة أواغادوغو رافقتها حشود من الناس نصبّت سانكارا رئيساً للمجلس الوطني الثوري.

قام إثر ذلك بتشكيل حكومة بالتعاون مع الحزب الإفريقي للاستقلال والشيوعيين. وأعلن أن أهدافه تتمثل في "رفض حالة الإعاشة، وتخفيف القيود وتحرير الأرياف من التخلف وحياة القرون الوسطى، وإحلال الديمقراطية في المجتمع، والانفتاح على عالم من المسؤولية الجماعية لبناء المستقبل. تحطيم وإعادة بناء إدارة الدولة عبر تشكيل صورة أخرى عن الموظف، وجعل الجيش جزءاً من الشعب عبر العمل المنتج وتذكيره دائماً بأن الجيش بدون خلفية وطنية لن يكون سوى حفنة من المجرمين".

أحاط نفسه بفريق عمل من المؤهلين. دافع عن التغيير في العمل الإداري في الدولة، وعن ضرورة العدالة في توزيع الثروة، وعن تحرير المرأة، ودور الشباب في بناء الوطن. كان من أنصار اللامركزية، وقاوم الفساد بأشكاله المختلفة. مبتدءاً ذلك بجعل وسائل النقل له وللوزراء من أبسط السيارات المتاحة وعلى كل منهم قيادة سيارته. أما سيارات الدولة الفارهة فباعها في مزاد علني وجعل عائداتها في خزينة الدولة. كما حظر على أي مسؤول في الدولة السفر بالدرجة الأولى في الطائرات. أما الرواتب فكانت بما يكفي لحياة عادية. كان يدافع عن فكرة أن الفقر هو نتيجة التقاعس والجهل وأنه بإمكاننا أن نتطور بقوانا الذاتية. لذا كان يطالب في اجتماعاته مع الناس في القرى والمدن أن يجتمعوا ويفكروا معاً في حاجاتهم وأن يتحركوا لتحقيقها. فالقرية التي تحتاج مدرسة يمكن لأهاليها أنفسهم أن يبنوا هذه المدرسة، وعليهم أن يطالبوا الدولة في أن تدفع رواتب المدرسين، وإذا لم يكن بإمكان الدولة أن تساهم فهناك دائماً وسائل لتحقيق ذلك. وكذلك الأمر في حاجاتهم الأخرى التي قد تصل إلى إقامة سد ترابي يحجز ماءاً عزيزاً في أيام الصيف. وبالفعل فقد كانت استجابة مجتمعه جيدة في هذا الخصوص وبدأت عملية تنمية حقيقة في البزوغ. وبدأت تتشكل حياة سياسية في البلاد ومجالس إدارة محلية فاعلة.

لم يكن من أنصار المساعدات الخارجية التي لا تعطى بدون مقابل ولا تؤتي في الأغلب أوكلها. وهو مناهض للقوى الإمبريالية التي تسعى للتحكم في مقدرات بلاده عبر المساعدات أو الحماية أو ما شابه. وفي زيارة للرئيس الفرنسي ميتران لبوركينا فاسو عام 1986، ألقى سانكارا خطاباً اتهم الغرب وفرنسا خاصة بمواقفها الاستعمارية باستقبالها وحمايتها لشخصيات أفريقية وجنوب أفريقية موغلة في دماء الإفريقيين. كما ألحّ في مؤتمر أديس أباب للزعماء الإفريقيين على الرفض الجماعي للدول الإفريقية لدفع ديونها للدول الغربية، وقال "إذا كان هذا موقف بوركينا فاسو لوحدها فلن أكون معكم في الاجتماع المقبل بكل تأكيد"، وهكذا كان لأنه قُتل.

أدان دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ولجنوب أفريقيا. ومن على منصة الأمم المتحدة أدان غزو الولايات المتحدة لغرونادا، التي قامت بدورها بوضع عقوبات تجارية على بوركينا فاسو. كما طالب من على المنصة نفسها بوقف حق الفيتو للدول الخمس. كان مع أهل الصحراء الغربية في مطالبتهم باستقلالهم ومع الفلسطينيين ومع أهل نيغاراغوا وبالطبع مع أهل جنوب أفريقيا.

كل هذا سلط عليه الأضواء وجعله شخصية غير مرغوب بها. ناصبه الكثير من زعماء أفريقيا من أتباع فرنسا العداء، وأعدوا العدة للإطاحة به، وهذا ما كان في مجزرة قتل فيها مع مجموعة من رفاقه أثناء اجتماع للحكومة، ودفنوا في حفرة في الأرض ثم نقلت بقاياهم إلى مقبرة قريبة. حلّ مكانه رفيقه في السلاح بليز كومباوري الذي حكم البلاد حتى عام 2014 عندما استقال إثر انتفاضة شعبية، وهو من قاد الانقلاب والمجزرة على الأغلب ويعيش اليوم في ساحل العاج التي كانت ضالعة في الانقلاب.

طالبت زوجته في التحقيق في قضية مقتله، بدأت المحكمة بجمع المعلومات على تفاصيل الانقلاب والمجزرة، وطالب قاضي التحقيق البوركيني فرنسا بفتح ملفاتها السرية عن تلك الفترة والخاصة ببوركينا فاسو، وافقت هذه بدورها على فتح هذه الملفات أمام قاضي التحقيق في تشرين الثاني لعام 2017... سيكشف قادم الأيام عن تفاصيل مقتل هذا الرجل الذي ينظر إليه الشباب الإفريقي اليوم باعتباره زعيماً سياسياً تحررياً شريفاً صاحب أفكار خلاقة في التنمية منحت سكان بلاده، شباباً ونساء، ثقة بأنفسهم ومستقبلهم وخاصة مواقفه السياسية المستقلة عن الغرب... مستقبل تبحث عنه أفريقيا اليوم بهمة ونشاط، وهي ملاقيته بالتأكيد.


الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

الرحلة إلى المريخ ومشاكلها


جرى لغط كثير في السنوات القليلة الماضية عن السفر إلى المريخ. البعض قال بأن في ذلك إمكانية للحياة على المريخ في حال تعذرها على كوكبنا. ولكن هذا أقرب إلى الخيال المحض منه إلى الحقيقة والفعل. فالحياة على المريخ دونها عقبات وعقبات دون أن تسمح بتقديم إمكانية فعلية لحياة بشرية مثمرة، إلا اللهم للحفاظ على الجنس البشري في حال انتفاء مثل هذه الإمكانية على الأرض والتأكد من إمكانية استدامتها على سطح المريخ حيث لا شيء يؤكد ذلك. البعض تحدث عن أسباب اقتصادية سياحية، ولكن هذا ضرب من الأوهام وضوحاً، إذ أن كلف الرحل بأكبر من أي عائد وبكثير.

ولكن الأمريكيين يؤكدون على مشروعهم بالقيام برحلة مأهولة ويضعون له الخطط، فما سببهم في ذلك؟ هناك سبب علمي تقاني. علمي فيما يخص المريخ والمنظومة الشمسية والفضاء عموماً. وتقاني بكل ما تتطلبه الرحلة من تطوير لتقانات تحتاجها الرحلة ولا يمكن تنفيذها بدون تطوير هذه التقانات. والسبب الثاني هو القول للعالم بأنها رائدة الفضاء ولا لأحد أن ينازعها هذه المكانة مثل الصين التي تبذل جهوداً كبيرة في تطوير إمكاناتها الفضائية. ميزانية وكالة الفضاء الأمريكية السنوية نحو 10 مليار دولار سنوياً. وعدد العاملين في مجال الفضاء من وكالة الفضاء أو الشركات المنفذة لطلبات هذه الوكالة يزيد عن 200 ألف شخص. وعدد العاملين في مجال الفضاء في الصين اليوم هو مثل هذا العدد، أما عن الميزانية فهي غير معلنة. ويخطط الصينيون لرحلة مأهولة باتجاه القمر خلال فترة بأقل من العقدين القادمين. وإنما هم يريدون فعل ذلك لتجريب تقاناتهم الفضائية تمهيداً للمضي لما هو أبعد. أي أن البون بين الصين وأمريكا لا يزال واسعاً ولكن تضيقه يمكن أن يتم بسرعة في حال نجاح الصينيين في رحلتهم المأهولة إلى القمر.

أما عن مشاكل الرحلة إلى المريخ فهي عديدة. أولها الطاقة اللازمة لحمل قمرة بشرية بمستلزماتها حتى المريخ. وبما أن الأرض والمريخ لا يقعان في مستو واحد في الفضاء، لذا فإن خيار المسارات محدود. وهذه المسارات يمكن أن تكون أمثلية من حيث الطاقة اللازمة مرة كل خمس عشرة سنة. والسنة الحالية هي سنة أمثلية والسنة 2033 ستكون كذلك. كما أن المعدات اللازمة للرحلة كثيرة، من بيت وطعام وماء لجماعة من الناس. وهذه كلها لا يمكن أن ترسل دفعة واحدة، بل على دفعات. محطة توليد الطاقة النووية أولاً ثم البيت ثانياً ثم الطعام والماء، ثم المخبر الخ... ثم الفريق البشري.

وهذه العمليات دونها مخاطر ومشاكل كبيرة. إذ من الواجب أن تنزل كلها على سطح المريخ وضمن دائرة أقل من  100 متر وإلا لا فائدة منها. ولكن هذا غير متاح اليوم، وأفضل دقة موجودة اليوم تتحدث عن كيلومتر واحد. وحل هذه المشكلة يحتاج إلى جهد ووقت. مشكلة أخرى هي تأمين المياه. فمهما فعلنا في أمر تدوير المياه التي سيستعملها رواد الفضاء فإن هناك فقداً لا بد منه. وكلف إرسال المياه من الأرض إلى المريخ باهظة للغاية تصل إلى 20 ألف دولار للتر الواحد. أي أن كلفة إرسال صهريج مياه هي 500 مليون دولار. ومن ثم فيجب البحث عن حلول أخرى، من بينها التقاط أجزاء من كوكيبات متجمدة والعود بها إلى المريخ، أو الحفر في الأرض واستخراج الماء من الرطوبة المتبقية في الطبقة الصلصالية. ولكن المناطق التي يتوفر فيها الصلصال لا تتجاوز 5% من سطح المريخ. إذاً يجب اختيار منطقة صلصالية صالحة للهبوط. أو البحث عن الماء المتجمد في قطبي المريخ ولكن هذا صعب للغاية. طبعاً هناك مشاكل تأمين الأوكسجين للتنفس وهذه حلها أسهل من غيرها وكذلك الطعام. فالأوكسجين يمكن الحصول عليه بتفكيك جزيئات ثاني أوكسيد الكربون المتوفر جداً على سطح المريخ، والطاقة اللازمة لهذا التفكيك إنما يمكن الحصول عليها من المفاعل النووي المقام لأغراض الرحلة.

المكوث على المريخ أو الدوران حوله محكوم، لأسباب الأمان وغيرها، بفترة شهر على الأقل وليس قبل ذلك. وإذا لم تنجح رحلة العودة في نهاية الشهر فيجب الانتظار سنة ونصف قبل المحاولة الثانية للعودة. وحول ذلك بُني فيلم بعنوان "وحيداً على المريخ"، يفشل فيه رائد الفضاء في المحاولة الأولى فينتظر سنة ونصف أخرى يأكل فيها البطاطس التي زرعها، ولنا أن نتخيل عذاب الانتظار وحيداً. والعودة كما الذهاب دونهما مشاكل تباطؤ المركبة الفضائية بحيث يكون الهبوط على الأرض أو على المريخ بما يمكن للإنسان احتماله.

ما هي الخيارات الممكنة إذاً؟ أولاً، القيام ربما برحلة مأهولة للتحليق في سماء المريخ والعودة بدون الدوران حوله. وهذه يمكن تحقيقها في غضون بضعة سنوات وسيكون هدفها اختبار وسائل النقل ومشاكلها. ثانياً، الإعداد ربما لرحلة للدوران حول المريخ وهنا ستبرز مشكلة العودة من شهر أو سنة ونصف. هذه المرحلة تحتاج إلى عشرين سنة قادمة. ويمكن التفكير في هذه الرحلة القيام بهبوط على سطح قمر المريخ. ثالثاً، الهبوط على سطح المريخ بقدره وجلاله. لا تقول التقديرات الواقعية بإمكانية تنفيذه قبل خمسين سنة...خمسون سنة يمكن للصينيين خلالها أن يكشفوا عن مواهبهم ويكون التنافس بينهم والأمريكيين في أوجه ... وسيكون باقي العالم متفرجاً، ولما لا!