بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 14 نوفمبر 2018

نيوزلندا... الاكتشاف والخراب

نيوزلندا هي آخر الأراضي التي وطأها الإنسان على سطح الأرض. فأمريكا سكنها الإنسان منذ نحو عشرين ألف سنة، وكذلك أستراليا التي سكنها منذ نحو خمسين ألف سنة. أما نيوزلندا فكان اكتشافها بين القرن الحادي عشر والثالث عشر وليس قبل ذلك. حدث الأمر على دفعات متتالية لم تتوقف تقريباً. فقد وطأها سكان الجزر الواقعة بين شرقي أستراليا وغربي الأمريكيتين التي تسمى جزر البولينيزيا. لذا فإن تاريخ هذا البلد هو من أقصر التواريخ.

يقع هذا البلد إلى جنوب شرق أستراليا على مسافة 2000 كم قريباً. وهو مؤلف من جزيرتين كبيرتين وجزر أخرى عديدة صغيرة. الجزيرة الكبيرة الأولى تسمى جزيرة الشمال والأخرى جزيرة الجنوب. وهذه التسمية أطلقها الأوروبيون. فأهل البلاد قبل الأوربيين كانوا يسمون جزيرة الشمال بـ "سمكة ماوي"، وماوي هو أحد أبطال أساطيرهم. أما الجزيرة الجنوبية فكانت تسمى "مياه الزمرد". أما اسم البلد كلها فلا نعرف كيف سماها سكانها الأول، وربما لم يعطوها أي اسم. واسمها الحالي أطلقه عليها الأوروبيون الهولنديون الذين بدأوا الحلول بها منذ عام 1642 مع غيرهم من الأوروبيين. وهي بمعنى "أرض جديدة في البحار أو للبحار".

رسم خارطتها الفرنسيون أول مرة في القرن السادس عشر، وأعاد ذلك مرة ثانية الكابتن الإنكليزي الشهير جيمس كوك في القرن الثامن عشر. واستفادت من ذلك الحكومة البريطانية التي كانت تريد وضع يدها على هذه الجزر ضمن عملية استعمارها للعالم بالتقاسم مع فرنسا آنذاك. هاجر إليها الأوروبيون، وخاصة البريطانيون، منذ القرن السابع عشر. وفي عام 1841 أُعلنت حكومة استعمارية بريطانية في هذه الجزر، قاومها سكان البلد الأصليين، وفي عام 1852 منحت الجزيرة استقلالاً سياسياً يقوده السكان من ذوي الأصول الأوروبية. وفي عام 1893 كانت نيوزيلندا الدولة الأولى في العالم التي تمنح المرأة حق التصويت. استقلت نيوزلندا تماماً عام 1947 مع بقائها تابعة شكلياً للتاج البريطاني. ونيوزلندا هي من بين الدول المتقدمة في العالم فهي السابعة على سلم التنمية البشرية الخاص بالأمم المتحدة. يمثل الأوروبيون أغلبية السكان في حين أن السكان الأصليين لا يزيدون اليوم عن 15%، وهناك إثنيات مختلفة تسكن هذا البلد، من الآسيويين خاصة.

على ارض هذه الجزيرة عاشت نباتات مختلفة ومتنوعة جداً، وكذلك حيوانات، وخاصة الطيور، متنوعة جداً أيضاً. ومن الحيوانات فهي لم تعرف أي نوع من الثدييات غير البحرية إلا الخفاش، ولم تعرف أي حيوان مفترس. والمفترس فيها كانت الطيور وخاصة النسر الكبير. وهو طائر كبير انقرض في القرن الخامس عشر. ويمكن الاستدلال على حجمه من حجم فرائسه التي وصل وزن بعضها إلى 230 كغ، وفريسته الأهم كانت من الطيور التي لا تطير وانقرضت أيضاً. وهذه ليست بالكائنات الوحيدة التي انقرضت. فقد انقرضت أشجار ونباتات كثيرة كانت تشكل جزءاً من غابات هذا البلد التي أتلفها الإنسان لدوافعه الاقتصادية. كثير من النباتات والأشجار التي انقرضت في هذه الجزيرة وكذلك الكائنات الحية، هي فريدة من نوعها لا شبيه لها في أماكن أخرى. لم تدوّن معلوماتها كلها، واختفت وكأنها لم توجد أبداً.

لم تعرف الأرض مخرباً بقدر الإنسان، حتى الكوارث الطبيعية لم تؤذها بقدره. فحلوله في مكان لا يترافق بالسلام ولا الاطمئنان، لا لنفسه فقط، وإنما للكائنات الأخرى. هكذا كان حاله في أستراليا لأربعين ألف سنة خلت وأكثر عندما أتى على كائناتها الضخمة، ومدغشقر التي عرفت الكائنات الأضخم التي ترافق انقراضها مع وصوله إليها، وكذلك في الأمريكيتين منذ نحو 15 ألف سنة. وآخر ما ألحق من خراب كان في نيوزلندا. ربما أنه لم يكن يعرف في الماضي أثر أفعاله ومقدار تهديدها للحياة على الأرض. ولكن الأمر غير ذلك اليوم، ومع ذلك يبقى متردداً، بل لا مبالياً أمام مصالحه الآنية. آن الأوان لكي يعي أنه إن استمر بذلك فإنما هو ملحق الخراب بنفسه... كل الشواهد اليوم تقول بتغيرات يمكن أن تكون مدمرة للحياة على الأرض. البعض يقول إن التكنولوجيا ستكون قادرة على حل مشاكل الإنسان اليوم على هذه الأرض، ولكن التكنولوجيا كانت السبب في قتل الملايين في الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية بما لم تعرفه كل حروب التاريخ.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر

الأحد، 11 نوفمبر 2018

ملامح من حياة الشمبانزي الاجتماعية


بين الشمبانزي والإنسان تشابهات كثيرة. فمن حيث مراحل الحياة يمر الشمبانزي بمرحلة الطفولة والصبا والبلوغ والنضوج. وسطي حياة الشمبانزي يقع بين 35 إلى 40 عاماً بحسب النوع، ويمكن أن يصل عمره حتى الستين عاماً. ومع أن معظم الشمبانزي يستخدم أطرافه الأربعة في التنقل ولكن يمكنه الوقوف على ساقيه والتعلق بيديه والتنقل بين الأغصان. يتراوح وزن الذكر بين 35 و 70 كيلوغراماً، وطوله بين 90 و 120 سم. أما الأنثى فيتراوح وزنها بين 26 و 50 كيلوغراماً وطولها بين 66 و 100 سم. ومدة الحمل هي بين 8.5 و 9 أشهر. والبلوغ الجنسي يكون بين 12 و 13 سنة. تحمل الأنثى مرة كل خمس سنوات. يبقى صغار الشمبانزي مع آبائهم حتى الخامسة من العمر قبل أن ينفصلوا عن أمهم.


يتغذى الشمبانزي بالفواكه والأوراق والزهور والبراعم ونسغ الشجر وكذلك بالحشرات، خاصة النمل، والعصافير والبيض. بعض أنواع الشمبانزي تأكل لحم الغزلان وغيرها. المساحة التي يتنقل فيها الشمبانزي ويمارس نشاطاته الفردية تبلغ نحو 12.5 كيلومتر مربع. اللعب مكون أساسي من حياة الشمبانزي وله أدوار مختلفة يبدأ باللعب مع الأم ثم ينتقل إلى اللعب مع الآخرين. ويمارس اللعب كبيراً عبر العراك مع الآخرين يتعلم من خلاله السيطرة على عدوانيته واحترام علاقات الهيمنة القائمة وعلى الترابط الاجتماعي. واللعب يسمح له باكتشاف إمكانات الوسط المحيط والتحكم بقدراته الفيزيائية.

يعيش الشمبانزي في مجموعات وعلاقته الاجتماعية هامة جداً ذلك لأن التوازن الفردي لا يعتمد فقط على الفوائد المادية المحققة من العيش معاً ولكن أيضاً على الفوائد المحققة من العلاقات الاجتماعية مع الآخرين التي يؤدي اختلالها إلى اضطرابات نفسية لديه. والتفاعل القريب بين الأفراد يمكن أن يكون لمسياً أو بصرياً، وهذا الأخير يشكل نوعاً من اللغة عن طريق التحديق وحركة الجفون وتحريك الفم وإظهار الأنياب، واليدين أيضاً.

تتألف الجموعة المستقلة من عدد محدود من الأفراد يصل وسطياً إلى الخمسين، ومن النادر أن يزيد عن المائة، وإن زاد فهو أقل من 150 فرداً. وهي تعيش في تراكيب اندماجية مرنة  تتشكل في داخلها مجموعات أصغر لها أيضاً أن تتفكك بسرعة بحسب كمية الطعام المتوفرة أو المخاطر المحدقة والكثافة السكانية الموجودة على أرض الجماعة. وهي تبقى في أراضيها مستقرة على مساحة من نحو 50 كيلومتر مربع.

تغادر الإناث البالغة المجموعة عموماً لتنضم إلى مجموعة أخرى، وهذا ما يمنع التكاثر بين قربى الدم. أما ذكور المجموعات الناضجون فيتحاشون بعضهم. ولكن يمكن أن تكون العلاقة بين مجموعات الشمبانزي عنيفة جداً. فهم لا يحبون  اعتداء الجماعات الأخرى على أراضيهم، ويمكن أن تنشب بينهم معارك طاحنة قد تودي بحياة كامل أفراد جماعة أخرى.

تعرف الشمبانزي التراتبية في المجموعة يكون فيها السيّد والمسود دون أن يشكل ذلك ضيقاً لدى المسود، والمهم أن يكون للفرد مكانة محددة في الجماعة. ولديهم الفرد المسمى ألفا، لنقل الزعيم، وغالباً ما يكون ذكراً. له المكانة الأولى في المجموعة وله ميزات إضافية عن الباقين، له الأولية في الطعام وفي الإخصاب. وعند ظهور أزمة بين أفراد المجموعة يقوم الزعيم بالتصرف كوسيط بين الأطراف بهدف الحفاظ على الوئام الاجتماعي بما في ذلك من مصلحة للجماعة.

تقوم أفراد الشمبانزي بتنظيف بعضها من الحشرات المختبئة في الشعر، وهو نشاط علاقات هام بين أفراد المجموعة. وهو يساهم في نظافة الأفراد ويعرضها في الآن نفسه للمرض. ولكن هذه العملية تزيد من قرب الأفراد من بعضها وتخفف من الأزمات وحدتها بين هؤلاء الأفراد. والعلاقات الاجتماعية الطيبة بين الأفراد تخفف من خطر اعتدائهم على بعضهم البعض. وقد لوحظ أن المعتدي والمعتدى عليه يصابان بالتوتر، وخاصة بين هؤلاء الذين كانت قد نشأت بينهم علاقة ود قوية. يمكن لمن هو من مرتبة أخفض أن يتقرب ممن هو أعلى مرتبة باتخاذ أوضاع إذعان يكون فيها لعملية التنظيف المتبادل أن تخفف من حدتها.

وفاة أو فقدان أحد الأفراد من ذوي الرتب العليا يمكن أن يخل بتوازن العلاقات الاجتماعية القائمة ويقود إلى بعض الشغب في المجموعة. وفقدان الزعيم يقود إلى انتخب زعيم آخر. أو عند وصول المجموع إلى عدد أكبر مما لها أن تحتمل فتنقسم إلى مجموعتين ينتخب للمجموعة الجديدة زعيم أيضاً. وقد يتم استبدال الزعيم بسبب وجود منافس أو أكثر. وفي كل الأحوال فإن على الزعيم الجديد أن يحوز على قبول المجموعة. وهنا تبدأ عمليات تشابه العمليات الانتخابية، حيث يأخذ مدعي الزعامة بالتقرب من الآخرين عن طريق عرض حمايته لهم وإظهار قدراته في حل النزاعات،... وأيضاً تودده إلى الإناث... أما الموافقة فيعرب عنها الشمبانزي بإصدار همهمات ونظرات يفهم منها القبول.

كل هذا يظهر القرابة بين الشمبانزي والإنسان. لما لا إذا كان الاثنان ينحدران من جد بعيد يعود إلى بضعة ملايين السنين... قرابة تركت آثارها في المورثات، فالشمبانزي هو من أقرب الكائنات إلى الإنسان وراثياً  حيث يشترك بنسبة 99.4% من الـ د. إن. إي مع الإنسان، أي أن الفارق بينهما هو 0.6% فقط... وللشمبانزي قدرات عقلية بيّنة لم تحميه من بطش الإنسان، فهو وغيره من القردة على طريق الانقراض ما لم يقم الإنسان بما عليه تجاه أمه الطبيعة.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر


السبت، 10 نوفمبر 2018

الإنسان الحالي هو آخر أنواع البشر

تشير الدراسات المختلفة إلى أن الإنسان الحالي هو النوع الوحيد الباقي من أنواع البشر، أما الأنواع الأخرى فقد اختفت تماماً، وإن تركت بعض من مورثاتها تتناقلها أجيال النوع الحالي. والإنسان الحالي هو ما يسمى بالإنسان العاقل sapiens والبعض يميل لتسميته بالكلمة اللاتينية مكررة للإشارة إلى الإنسان الحالي باعتباره الإنسان العاقل المعاصر. وهذا الإنسان أصبحت له الكلمة الأخيرة على الأرض منذ نحو ثلاثين ألف عام. أما وجوده فيمتد لنحو ثلاثمائة ألف عام أمضى جلّها في أفريقيا قبل أن يبدأ بغزو العالم منذ نحو سبعين ألف عام.

والإنسان الثاني الذي عاصر إنساننا العاقل هو ما يسمى بإنسان نياندرتال، وهي تسمية جاءت من اسم المنطقة الألمانية التي اكتشفت فيها أول آثاره. وهو مشابه للإنسان الحالي مع اختلافات بسيطة. فهو وسطياً أقصر ووزنه أكبر وهو صعب المراس، صنع الأدوات واستخدم النار. ولكن ما عرف عن تجمعاته أنها كانت محدودة العدد ولم تكن له قدرة الإنسان الحالي على تجنيد القوى والعمل الجماعي بأعداد كبيرة. وهذا ما أدى إلى تغلب الإنسان الحالي على إنسان نياندرتال وساهم في انقراضه. وربما ساهمت عوامل أخرى في الانقراض مثل المناعة ونسب التزايد الضعيفة. ولكن الكثير من المؤشرات تضع مهارة الإنسان الحالي كسبب رئيس في انقراض إنسان نياندرتال بالرغم من تفوق هذا الأخير الجسدي والذي استخدمه في هزم الإنسان الحديث مرات عديدة ولكن هذا كان أقدر على حشد قواته والتفوق عددياً على الآخر وإفنائه. طبعاً لم يكونا في قتال مستمر دائم، وتنازعهما استمر لفترات طويلة بآلاف السنين، تزاوجا خلالها وعبر ذلك بقيت بعض مورثات إنسان نياندرتال في الإنسان الحالي.

أما النوع الثالث من البشر فهو إنسان دونيسوفا الذي عثر على بقاياه في مغارة دونيسوفا في روسيا. عاش في منطقة وجد فيها إنسان نياندرتال والإنسان المعاصر. والأرض التي عاش عليها تقع ما بين سيبيريا وشرق جنوب آسيا. ولكنه مختلف من حيث المورثات عن الاثنين الآخرين، ولكن دراسة المورثات الخاصة به وصبغياته تقول بأن له جد مشترك مع إنسان نياندرتال. تزاوج مع إنسان نياندرتال ومع الإنسان المعاصر كما تدل على ذلك آثاره الوراثية لدى سكان أستراليا الأصليين وبعض جزر المحيط الهادئ.

إنسان آخر هو إنسان فلوريس وهو نوع منقرض أيضاً اكتشفت بقاياه عام 2003 في جزيرة فلوريس الاندونيسية. ويعود وجوده على هذه الجزيرة إلى فترة تتراوح بين 20 ألف و 100 ألف عام خلت. تزاوج مع الإنسان المعاصر خلال فترة دامت لعشرات آلاف السنين على جزيرة فلوريس نفسها ولكنه انقرض بسبب المنافسة بينهما التي كانت لصالح الإنسان المعاصر. كان قصير القامة بين متر و 1.1 متر. وكذلك كائنات عديدة معروفة في أماكن أخرى بأحجام أكبر. وعلى هذه الجزيرة عاشت كائنات صغيرة عادة في مناطق أخرى ولكن حجمها تضاعف على هذه الجزيرة. أسباب ذلك تحتاج إلى ورقة أخرى.

خلاصة القول إن الإنسان لم يكن نوعاً واحداً فقط وإنما أنواع مختلفة نعرف بعضها اليوم. البعض سيقول هذا غير معقول. ولكن لماذا توجد أنواع مختلفة من القطط أو الكلاب أو الأحصنة ومئات الأنواع من الأسماك ولا نريد تصديق أن الإنسان الحالي هو واحد من بين عدة أنواع من البشر، وهو عليها الآن لوحده لأنه تغلب على الأنواع الأخرى، وقد يتخلص من نفسه في عملية انتحار غير مدبرة وإنما بسبب إنكاره لنتائج أفعاله.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر


الجمعة، 9 نوفمبر 2018

عند الخروج من المدرسة... جاك بريفير









لدى خروجنا من المدرسة
قابلنا سكة قطار كبيرة
قادتنا حول الأرض
بقاطرة مذهّبة

وحول كل الأرض قابلنا
البحر الذي كان يتنزه
مع قواقعه
وجزره المعطرة
وقواربه الجميلة المحطمة
وسلمونه المدخّن

قابلنا فوق البحر
القمر والنجوم
على قارب شراعي
مغادراً إلى اليابان
والفرسان الثلاثة
بأصابع اليد الخمسة
تدير عنفة غواصة صغيرة
تغوص في الأعماق
تبحث عن قنافذ البحر

عائدين إلى الأرض
قابلنا على سكة القطار
بيت هارب
هارب من كل شيء حول الأرض
هارب من كل شيء حول البحر
هارب أمام الشتاء
الذي كان يريد الإمساك به

ولكن على سكة قطارنا
قمنا بالتدحرج
بالتدحرج خلف الشتاء
ودهسناه
وتوقف البيت
وحيّانا الربيع

كان هو حارس الحاجز
شَكَرَنا
كل زهور الأرض
أخذت بالنمو فجأة
النمو كيفما اتفق
على خط سكة الحديد
الذي لم يعد يريد التقدم
خوفاً من العطب

لذا عدنا سيراً على أقدامنا
على أقدامنا حول الأرض
على أقدامنا حول البحر
وحول القمر والنجوم
على الأقدام والحصان والسيارة
وعلى قارب شراعي

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر

الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

كلمات رنانة تحتاج إلى مساءلة

ظهرت في الخمسين سنة الماضية كلمات رنانة اعتقد مطلقوها ومستخدموها أن فيها الدواء والعلاج للكثير من المشاكل والعثرات التي تعيشها مجتمعات اليوم. وبما أن مجتمعات اليوم تسير وراء الاقتصادي أكثر منها وراء الاجتماعي أو حتى السياسي، فمعظم هذه الكلمات/المصطلحات أتت من خلفية اقتصادية. ولما لا، فالحديث عن التنمية يقصد به النمو الاقتصادي ومعدلاته. والتطور هو اقتصادي وهو هدف المجتمعات كلها، المتقدمة وكذلك النامية. وكلها تتحدث عن معدلات النمو، الصين حققت كذا وتركيا حققت هذا وأمريكا تحقق ذاك. وكأن التطور السياسي والاجتماعي سيكون تحصيل حاصل بمجرد تحقيق النمو الاقتصادي. ولكن لا شيء من هذا والصين خير مثال. والصين اليوم تستثمر في البحوث العلمية جداً، وهي أول المستثمرين اليوم في الذكاء الصنعي مثلاً. وليس سبب الاستثمار لما يعود من الذكاء الصنعي على المجتمع وإنما على الأرباح والاقتصاد. وقد يكون الذكاء الصنعي سبباً لأزمات اجتماعية أو لا، ولكن هذا ليس في أولويات المستثمرين في هذا المجال. والأزمات الاجتماعية ليست من الكلمات الرنانة.

ومن بين الكلمات الرنانة كلمة المرونة flexibility التي يقصد بها ليس فقط القدرة على التكيف مع كل الظروف وإنما أيضاً الاستعداد للقيام بأعمال متعددة ليست بالضرورة من صلب العمل الرئيسي. والسبب في هذه المرونة المطلوبة هو تحقيق أكبر قدر من الإنجاز بأقل الكلف. مثال ذلك موظف أو موظفة (وهي الأكثر) الصندوق في المحلات التجارية الكبيرة. فهؤلاء يطلب منهم العمل في أشياء أخرى في ساعات يقل فيها الزبائن حيث تتوقف بعض الصناديق ويُبقى على العدد الكافي. وهؤلاء الذين توقفت صناديقهم لبرهة يطلب منهم مثلاً الانتقال إلى نقل البضائع من المخزن ووضعها على رفوف المحلات، وبعد فراغهم من ذلك يطلب منهم القيام بتنظيف المتجر أو أشياء أخرى. وهذه المرونة وضوحاً تؤدي في نهاية المطاف إلى اختزال عدد العاملين في المتجر بقصد التوفير في الأجور بغية المنافسة والربح. ولكن من يدفع ثمن هذه المرونة هم هؤلاء العاملون الذين يصابون بالإعياء والإنهاك في آخر النهار. وهذه المرونة لا تترافق مع زيادة في الرواتب، أبداً. ولهذه المرونة أن تمنع بالضرورة إمكانية توقف العاملين للثرثرة قليلاً بكل ما للثرثرة من فائدة خلق صلات اجتماعية، فهؤلاء الموظفون مراقبين جداً.

وهذه المراقبة تجري بطريقة "متوحشة" في مؤسسات كثيرة منها المصارف. فموظف المصرف الذي يستقبل الزبائن مراقب بكاميرات مرتبطة بأنظمة ذكية تراقب حركات وسكنات الموظف وتحصي عليه انضباطه أو عدمه في الالتزام بموضوع مقابلة الموظف للزبائن. وبالرغم من الكلمة الطنانة التي تقول بأن "الزبون ملك"، لكن المصرف يتعامل مع موظفه على أساس عدد العقود التي أنجزها في اليوم أو في الأسبوع. ومحاولة الموظف القيام بتصرفات استلطاف تهدف إلى خلق نوع من المودة بين الموظف والزبون لن تكون مقبولة إذا تجاوزت دقائق محدودة لأن على الموظف أن يحترم الخطة الزمنية التي يضعها المصرف لموظفيه كل يوم. والخروج عن الخطة، إن تكرر، قد يؤدي إلى خروج الموظف من المصرف بلا عودة. والخطة أيضاً من بين الكلمات الرنانة. وهذه العملية تؤسس على كلمات رنانة أيضاً مثل "الفاعلية efficiency" التي ترتبط بمقدار الإنجاز. وهنا يتقوقع الإنساني أمام الاقتصادي.

والإنتاجية productivity هي أيضاً من الكلمات الرنانة. فهذا إنتاجيته عالية وهذا إنتاجيته أقل. والحديث يكون عن أفراد أو فرق عمل سيان. ومن بين عوامل زيادة الإنتاجية عامل "كسب الوقت"، وهو أيضاً من الكلمات الرنانة، أو تلافي إضاعة الوقت باختصار عمليات تسبب إضاعة الوقت في إنجاز عمل ما. التجول مثلاً داخل مخزن مع ورقة دونت عليها أشياء مطلوبة موجودة على رفوف المخزن ويجب إحضارها وإرسالها إلى زبون ما. فتكرار النظر في الورقة والبحث عن الرفوف فيه إضاعة للوقت. لذا قامت إحدى الشركات العالمية بإنتاج السماعات الرقمية. وهذه السماعات يضعها الموظف العامل على أذنيه، وهي متصلة بحاسوب يملي عليه المواد المطلوبة ويحدد له مكان وجود كل منها. والحاسوب
هنا لا يتوقف عن إملاء طلبات الواحد تلو الآخر. الإنتاجية هنا عالية جداً، ولكن العامل يعود إلى بيته يردد صدى الطلبات التي قال بعضهم إنه يسمعها في أحلامه... وفي مصنع رينو الفرنسي للسيارات انتحر أحد عمال إنتاج السيارات، أثناء عمله معلى مرأى من زملائه، لشدة وطأة إيقاع العمل بضغط الإنتاجية. وما حدث أن رفاقه لم يأسفوا جداً على موت صاحبهم لأنه كان يبطئ العمل في خط الإنتاج وكان من الأفضل له ولنا الاختفاء كما قالوا!!...هذه الكلمات أصبحت جزءاً من ثقافة معاصرة يتراجع فيها الإنساني أمام الربحي والاقتصادي بشكل همجي.

كلمات رنانة كثيرة لا يتسع المجال للحديث عنها كلها، وهذه إنما هي عينة. هناك كلمة تستخدم اليوم كثيراً وهي التجديد innovation  والابتكار. والهدف هنا هو الاقتصادي أيضاً، ولكن هذا الهدف يمكن تحقيقه بالتجديد في حياة الناس وسبل جعلها أقل قلقاً وقلاقلاً والأرض أكثر استقراراً... لكن هذا لن يحدث لأن الاقتصادي الاقتصادي طغى على الاجتماعي الاجتماعي، وما لم يعد التوازن فنحن نسير في المجهول...دمتم بخير.


الاثنين، 5 نوفمبر 2018

الحقائق التخيلية

يبدو العنوان غريباً، بل متناقضاً. كيف يمكن للحقائق أن تكون تخيلية، فالحقيقي حقيقي وغير متخيل؟ نعم هذا صحيح كما يبدو لأول وهلة، فهناك حقائق لا يرقى إليها الشك أبداً مثل أني أكتب هذه الورقة أو أنك تقرأها. أو وجودنا جميعاً فهو من الحقائق وليس من التخيل. وأشياء كثيرة نفعلها في حياتنا هي كذلك. وهناك حقائق لا نلمسها لنقص في أدواتنا الحسيّة، العطالية مثلاً في حالة دوران الأرض الذي لا نشعر به لذا نعتقد أنها ثابتة. أو الذرة ومكوناتها بسبب عدم قدرة النظر والقدرة التميزية لأدواتنا التقانية! وأما التخيل فهو بين الأحلام وأضغاثها، أو التوهم، أو الظن، أو التصور لأشياء موجودة أو لا وجود لها. وتصور الأشياء الموجودة هو عمل ذهني يستخدم صوراً مخزّنة في الذهن، كتصور بيت أحدهم من مجرد وصفه لهذا البيت، وهو تصور وليس رؤية حقيقية. أما التنين ذو الرأسين أو طائر الفينيق فهي تصورات لأشياء غير موجودة. وهذه وغيرها هي من الخيال.

ولكن ما هي الحقائق التخيلية؟ هي أشياء "تعيش" بيننا ونحن من يعطيها قيمتها وبدون ذلك فلا قيمة لها. أي أنها أشياء في الأصل لا تمثل شيئاً أو لم تكن موجودة ونحن من أوجدها وأعطاها قيمة وأصبحت من "الحقائق". مثال ذلك الأوراق المالية. نحن من ابتكرها، ونتعامل فيها، ونعطيها من القيم ما نريد، ونتعامل فيها على أساس هذه القيم، ويمكن أن نتخلى عنها وتعود لا قيمة لها. وهي في الحقيقة الحقيقة مجرد ورق ليس إلا، قيمتها تساوي قيمة ورقها فقط لا غير. فالمارك الألماني كان ما كان له من قيمة، وكان من أقوى العملات، تم التخلي عنه مع استعمال اليورو الذي أُعطي ما أعطي من قيمة. ولهذا اليورو أو أية عملة أخرى أن تتحول إلى أوراق لا قيمة لها إن تخلينا عنها أو أنكرنا قيمتها. الأمر نفسه بالنسبة للدولار الذي يستمد قيمته من عوامل شتى أولها قبولنا للقيمة المعلنة له والتي سيفقدها فيما إذا قرر البشر وقف التعامل بالدولار. واليوم لدينا العملة الرقمية، البيتكوين، الذي لا يستند إلى أية قيمة سوى القيمة التي نعطيها له وإن توقفنا عن ذلك سيتحول إلى سراب. سراب قد يتحول إلى خراب، إذ أنه أمر حقيقي من صنع الخيال.

أمر آخر من بين الحقائق التخيلية هو الدول والأوطان والحدود. فهي من اخترع وتصورات أبنائها وليست من الحقائق الدامغة. فالناس اخترعت الحدود والدول والممالك والأوطان، لمصلحة البعض ربما كدافع أولي، أصبحت من الحقائق المتخيلة. والثقافات، بمعنى المعتقدات والعادات والتقاليد والقيم والسلوك، هي بالنسبة لأبنائها حقائق لا يجوز الشك فيها ولكنها في الواقع ليست إلا من صنع أبنائها. ولذا كان الاختلاف بين الثقافات. فالبقر مقدس لدى أبناء الهندوس وهو طعام أساسي لدى شعوب الغرب مثلاً. والثقافة تتغير مع مرور الوقت. فقد كان الفراعنة أنصاف آلهة أو أبناءها، وهذا كان ضمن اعتقاد الناس الذين تمحورت حياتهم حوله. ولم يكن للفراعنة أن يبنوا الأهرامات لولا اعتقاد المصريين بألوهية فراعنتهم وقبولهم المشاركة عن طيب خاطر ببناء أهرامات (قبور) لآلهتم حيث ستقيم في الحياة الثانية! وهذه المعتقدات كانت تمثل حقائق لقدماء المصريين، وهي حقائق تخيلية. يبدو لنا اعتقاد المصريين الفراعنة مضحكاً اليوم، ولكن قد لا نكون بأحسن حال منهم وإن كان بتجليات أخرى.

عاش الإغريق دهراً يبنون حياتهم على أساطيرهم، أساطير اخترعوها وشذبوا فيها، وصنعوا عبرها آلهات بتراتبيات مختلفة. وقدموا لها القرابين تقرباً أو زلفى لتعينهم في حياتهم وأعمالهم ومعاركهم. وهذا هو أغامنون يقدم ابنته إيفجيني قرباناً للآلهة كي ترضى ولا تعيق انتصاره في حرب طروادة. حرب شاركت فيها الآلهة وأنصاف الآلهة مثل أخيل. آلهة سادت على مرّ أكثر من ألف عام، تخيلها الإغريق و"عاشت" بينهم على أنها حقائق لا يرقى لها أدنى شك. فزيوس عاش بين ظهراني الإغريق كأنه فرداً منهم برتبة إله، أو أكبر الآلهة... يمكن لسلسلة الحقائق التخيلية أن تطول بمجرد تذكر القيمة التي تعطى للحلي أو اللوحات الفنية التي تستمد حقيقتها من تخيلاتنا دون غيرها، ولولا اكتراثنا بها لما كان لها أية قيمة. ولو وضعت لوحة الجيوكندا بين أيدي بعض قبائل الأمازون لأوقدوها ناراً يدفئون بها. السند الأهم للحقيقة التخيلية هو الكلام أو ما شابهه، والكلام هو من يصنع حقيقتها. وكثير مما يدور حولنا هو من صنع الكلام، النجومية الفنية والسياسية والاجتماعية مثلاً هي من صنع الكلام أولاً.

بعض التخيل ضروري لتجسيد الحقائق. فلولا تخيلنا أن الآخرين سيساعدوننا لما حدثت أشياء كثيرة. ولو تخيلي بأن البعض سيقرأ هذه الورقة لما كتبتها. وهذا التخيل مهم جداً في التحرك إلى الأمام. وهو تخيل يمتاز به الإنسان عن باقي الكائنات، وربما هو الفارق الأكبر... وبعض التخيل قد يكون ضاراً جداً، أو قاتلاً ربما، كما هو الحال في تخيلنا أن الحياة على الأرض ستستمر بالرغم من كل ما نرتكبه من حماقات نغمض أعيننا عنها بأمل أن يتحقق تخيلنا الذي، كما تشير كل المعطيات الحالية، ليس إلا وهماً دون الحقيقة.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر


الجمهورية ... وجمهوريات الموز


بدأت أول الجمهوريات المعروفة عام 509 قبل الميلاد. المكان روما. الفاعل النزاع على الحكم الذي أدى إلى تخلص روما من حكامها الملوك وإقامة نظام حكم يقوم على مجلس الشيوخ والمستشارين والحكام النواب. بعض هؤلاء الحكام النواب ينتخبهم الشعب ولهم مهمات محددة. أما المستشارون فكان عددهم اثنان ينتخبهم مجلس الشيوخ، وهما قادة الدولة لمدة سنة وقراراتهما بالإجماع ولكل منهم حق الفيتو على الآخر، وفي هذا ضمان لعدم انحرافهما. أما مجلس الشيوخ فهو مجلس الملاك والأثرياء. لهذا المجلس سلطات تشريعية وسياسية ودينية واقتصادية. تغيرت صلاحيات كل من هذه المكونات الثلاث عبر الزمن وانتهى الأمر بالوصول إلى الإمبراطورية مع العام 27 بعد الميلاد.

وكلمة جمهورية في العربية هي ترجمة جميلة لكلمة republic الإنكليزية، التي اشتقت بدورها من اللاتينية من كلمتين منفصلتين هما res و puplica والتي تعني "الشيء العام" كنقيض لـ "الشيء الخاص". وهي تشير بذلك إلى الصالح العام وإلى الحكومة أيضاً والسياسة والدولة. وكل هذا يتحرك من حيث المبدأ على وقع الدستور الذي يرسم ملامح الجمهورية. والجمهورية في العربية مشتقة من الجمهور الذي يعود إليه الصالح العام. وفي الحكم تعني الجمهورية أن رأس الدولة يتغير، وكذلك القائمين على إدارة الدولة، وأن الجمهور هو من له حق التغيير. إذ لو بقي أصحاب السلطة في مواقعهم لأصبحت الجمهورية أقرب للملكية. وما تعيين مجلس الشيوخ الروماني لمستشارين (قنصلين) لفترة سنة إلا لكي لا يستطيب لهما المقام ويبقيا في الحكم معيدين بذلك مآسي روما قبل عام 509 لقبل الميلاد. وكذلك الأمر بالنسبة للحكام النواب ومجلس الشيوخ الذين يجب تغيرهما لمنع تشكل شبكات المصالح ومن ثم فساد الحكم.

وأصل تكوين الجمهورية يشير إلى أنها نقيض للحكم الملكي الوراثي. وهي لا تعني في مضمونها الديمقراطية، فبين جمهورية روما وديمقراطية أثينا فروق كثيرة. وفي الزمن الحاضر، فكثير من الملكيات هي من أعرق الديمقراطيات، مثل بريطانيا والسويد وهولندا وإسبانيا. ولكن الأمر ليس كذلك في كل الدول الملكية التي لا يزال بعضها خارج كل التعاريف السياسية، الحديثة على الأقل. والجمهورية بالمعنى العام تغير مفهومها مع الزمن. وحتى اليوم فهي لا تخضع لناظم واحد. فالكوريتان الجنوبية والشمالية جمهوريتان اسمياً، ولكن لا علاقة لأي منهما بالأخرى. كما أن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة لم تكن تشابه جمهوريات الغرب. واليوم نجد الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي جمهورية تختلف كثيراً عما نعرفه من الجمهوريات من حيث البنية والصلاحيات وتقاطعاتها. ومفهوم الجمهورية في الولايات المتحدة يختلف عن المفهوم الأوروبي أو الفرنسي بالتحديد للجمهورية. من حيث طريقة الانتخاب التي تجيء بالمنتخبين إلى السلطة ومن حيث الصلاحيات لمختلف المؤسسات الحاكمة.

أما جمهوريات الموز فهي جمهوريات من دول العالم الثالث تعتمد صناعاتها على منتج وحيد هو الموز، وتديرها طغمة ثرية متسلطة تدعمها الشركات المتعددة الجنسيات المختصة بالصناعات الغذائية. أول من استخدم هذا التعبير هو الصحافي والكاتب الأمريكي ويليام بورتر الذي كان يعيش في هندوراس حيث كانت تعمل الشركة المتحدة للفواكه الأمريكية في الموز بشكل رئيسي. كان رئيس هذه الشركة يقول "من الأسهل في هندوراس أن تشتري نائباً من تشتري بغلاً". ومنذ ذاك الوقت وعلى مدى خمسين عاماً مولت هذه الشركة انقلابات عدة في أمريكا اللاتينية لتسيير أمورها كما تريد. ولكن يطلق اليوم هذا التعبير على الدول التي تحكمها الديكتاتوريات ويسود فيها الفساد الذي يسمح بتحقيق كل شيء مقابل المال دونما أي رادع. أي لا سلطة فيها للقانون على النقيض من فحوى الجمهوريات التي صاغ ملامحها فلاسفة القرن الثامن عشر في أوروبا، التي أصروا فيها على الدستور أو العقد الاجتماعي المشترك الذي يحدد ضوابط العلاقة بين السياسة والمجتمع والذي عليه تبنى القوانين التي على الجمهورية أن تحترمها.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة ...مع جزيل الشكر

الأحد، 4 نوفمبر 2018

تاريخ الصابون

يعود الصابون فيما تقول بعض المصادر إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وهذا يعني أن العمليات المعروفة التي تقود إلى ما يسمى بالتصبن حدثت في تلك الفترة دون أن يسمى ذلك بالتصبن أو أن يسمى المنتج بالصابون، ودون أن يستعمل هذا المنتج في الاستحمام. فاستخدامه للاستحمام لم يكن قبل القرن الثاني الميلادي، وأما الاسم فهناك من يقول بالأصل الإغريقي للكلمة sapo، وهناك من يقول إن هذه التسمية جاءت من بلاد الغال التي أنتجت الصابون في تاريخ غابر، وهناك من يقول بأن الأصل هو من اللغة اللاتينية والله أعلم!

أما البداية فتعود إلى بلاد سومر التي اكتشف فيها نص في القرن التاسع عشر يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد جاء فيه: "وهكذا، هو ينقي الماء، هكذا، هو ينظف بالبوتاسيوم، وهكذا يصنع المزيج من الزيت الخالص والبوتاسيوم...". وحددت في الوصف كمية الزيت وكمية الرماد الذي يحتوي على البوتاسيوم. ويصف رقم يعود لعام 2200 قبل الميلاد تقريباً الصابون الذي يضاف إليه عناصر طبية للاستخدام في العلاج. وهذا الصابون الذي صنعه السومريون استخدم لتنظيف الصوف من الدهن.

ورقة البردى ووصفة الصابون
أما المصريون الفراعنة فاستخدموا في تنظيف أجسادهم النطرون أو الإطرون وهو كربونات الصوديوم الطبيعي المستخرج من البحيرات المالحة بالتبخر، وليس لهذا علاقة بالصابون الذي نتحدث عنه. ولكن عثر على ورقة بردى تعود لعام 1550 قبل الميلاد ذُكر فيها مادة تشبه الصابون تستعمل في العلاج. وهذا الخليط كان يستخدم فيه دهن الإوز أو الدهن النباتي مع كربونات الصوديوم أو سولفات الرصاص. أما الفينيقيون فقد تاجروا بالصابون وباعوه على ضفاف المتوسط. وأشار المؤرخ الروماني بلين إلى أن الصابون الطري والقاسي أنتج في بلاد الغال وكان يستخدمون في إنتاجه دهن الخنزير ورماد (بوتاسيوم) السنديان. واستخدامه الأكثر كان في صباغ الشعر أو غسله. وأنتج الصابون في مناطق مختلفة من حوض المتوسط. وأقدم أنواع الصابون التي لا تزال تباع في الأسواق هو صابون الغار الحلبي الذي يستخدم في إنتاجه زيت الزيتون والقلي (البوتاسيوم) وزيت الغار الذي يكسبه رائحة منعشة.

لوجة فقاعة الصابون لجان سيمون شاردان
أما الرواية الشائعة عن استخدام الألمان النازيين للدهون البشرية لموتى معسكرات الاعتقال في صناعة الصابون فهي لم تكن سوى قصة اضطرت محكمة نورنبرغ للتحقيق فيها وإعلان أن ذلك لم يكن سوى أسطورة، وهي أسطورة لا تزال تلقى من يصدقها. وقيل أيضاً أن رماد ضحايا هذه المعسكرات كان موضع تجارب ومحاولات لإنتاج الصابون على مستوى صناعي. لكن أحداً لم يعثر على أية شواهد ملموسة لها أن تسند مثل هذه الأقاويل... وما تصديق هذه الإشاعات إلا لأنه لا شيء يمنع من الاعتقاد بإمكانية ارتكاب الإنسان لما يمكن ولما لا يمكن تصديقه.


يمكن مشاركة هذه الورقة لمن يريد...مع جزيل الشكر