بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 31 أغسطس 2017

بيت العنكبوت ... الطبيعة المهندسة

ينسج العنكبوت بيوته للسكن والتكاثر والتخزين، وهي شرك للكائنات الصغيرة التي يلتهمها العنكبوت عند وقوعها في حبائله. وهذه البيوت تبنيها أنثى العنكبوت(!) بواسطة خيوط حريرية تخرج من مغازل في أسفل بطنها. للعنكبوت ثمانية أرجل وعدد من العيون البسيطة أو المركبة يصل عددها إلى ثمانية أيضاً وذلك بحسب نوع العنكبوت الذي أحصى منه حتى الآن نحو 47 ألفاً من الأنواع!

والعنكبوت يبني بيته بقذف خيط من مكان ما، فإن علق بشيء شده العنكبوت، وكرر المحاولة ثلاث مرات مشكلاً هيكلاً على شكل Y يكون هو في مركزه، ثم ينسج حوله لولباً مشكلاً بذلك الهيكل الأولي للبيت، الذي سيستخدمه لبناء البيت النهائي، ناشراً عبره خيوطاً قطرية ثم خيوطاً لولبية. يصل قطر البيت لدى بعض أنواع العنكبوت أكثر من مترين الذي له أن يكون مصيدة لصغار الطير والخفاش أيضاً حيث يقوم العنكبوت بقتلهما بواسطة نوع من السم السائل. وفي العموم فإن العنكبوت يعرف بوقوع فريسة في مصائده من الاهتزاز الذي تنقله الخيوط الذي سيفيده في تحديد إحداثيات الفريسة، وكذلك في معرفة أن ذكر عنكبوت قد أتاها زائراً باهتزازاته الخاصة المختلفة عن اهتزازات الفريسة. وزائرها الذكر يأتيها ليلاً حاملاً معه بعض الطعام ليكون ضيفاً مقبولاً. تلتهم الأنثى الحيوانات المنوية التي يضعها الذكر أحياناً على بيت عنكبوتي ينسجه هو، وفي أنواع من العنكبوت تلتهم الأنثى الحيوانات المنوية والذكر معاً لأن ذلك قد يزيد من خصوبتها!

من المعروف أن خيوط العنكبوت هي من أكثر من المواد مقاومة للانقطاع عن طريق الشد. وهي المقاومة التي يعبر عنها بمقدار القوة المستعملة في شد الخيط منسوبة إلى قطر (مقطع) الخيط. وهذه النسبة هي أعلى منها من النسبة الخاصة بالفولاذ مثلاً وتزيد عنه بين مرتين وثلاث مرات بحسب نوع العنكبوت. كما أن للخيوط عامة (وليس خيط العنكبوت فقط) خواص ميكانيكية مثل التمطط Elasticity التي تعني إمكانية شد خيط واستطالته نتيجة الشد مع عودته إلى وضعه الطبيعي عند تركه حراً، مثال ذلك خيوط المطاط. خاصية أخرى تتمثل فيما يسمى "اللدونة Plasticity" التي تتمثل في شد الخيط وتناسب الاستطالة مع الشد ولكن دون أن يعود إلى وضعه الطبيعي عند تركه حراً، مثال ذلك خيوط البلاستيك. ولخيوط معظم المواد خاصية تتمثل في جمع خاصتي التمطط واللدونة. حيث يكون لها في البداية التمطط، ومع ازدياد قوة الشد تتصرف بحسب خاصية اللدونة إلى أن تنهار وتنقطع. مثال ذلك النابض الذي يتمطط عند شده بلطف وسيكون له سلوك لدونة إذا زادة قوة الشد (ولن يعود إلى وضعه الطبيعي) وعند الاستمرار في الشد يصبح النابض مجرد سلك!

وفي دراسة* نشرتها مجلة "ناتشر Nature" عن بيوت العنكبوت وهندستها. ومن بين نتائج هذه الدراسة أن خيوط العنكبوت لها خاصية فريدة هي التمطط أولاً ثم اللدونة ثانياً ثم التمطط من جديد قبل الانهيار والانقطاع. وهذه الخاصية عند دمجها بهندسة البيت القطرية واللولبية، تؤدي إلى بيت يقاوم الانهيار على نحو لافت. قام الدارسون بإنشاء (حاسوبياً) بيت عنكبوتي من خيوط مطاطية وبيتاً من خيوط مطاطية-لدنة وثالثاً من خيوط لها خواص الخيوط العنكبوتية (مطاطية-لدنة-مطاطية). وتم تعريض البيوت الثلاثة لعوارض خارجية. تحملت البيوت الثلاثة رياحاً حتى سرعة 60 متراً في الثانية. ولكن بيت الخيوط العنكبوتية كان تحمله ست مرات أفضل من البيتين الآخرين عند اصطدام حشرات به. وعند تعرض البيت العنكبوتي لتمزق خيط قطري فيه نتيجة الاصطدام، فإن هذا التمزق يكون قابلاً للإصلاح على نحو أفضل بكثير من البيوت الأخرى أو دون أن يكون أثر ذلك كبيراً كما تبين الأشكال الآتية:
لا تزال الطبيعة المهندسة الأكثر مهارة!


* S. Cranford et al., Nonlinear material behaviour of spider silk yields robust webs, Nature 482 (2012) p72


الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

كيف يعمل الحاسوب... وصف مبسّط جداً

الحاسوب موجود اليوم في كل مكان تقريباً. فغير حاسوب المكتب والحاسوب اللوحي والهاتف المحمول، فهو موجود في كثير من التجهيزات من المصعد إلى السيارة إلى أجهزة التحليل والتصوير الطبية، ومن السفينة إلى الطيارة وأشياء كثير أخرى لا يمكن عدها، وهي إلى تزايد. وهذا الحاسوب في تطور مستمر بسبب الحاجة المتزايدة على القدرة في الحساب التي تتطلبها بعض التطبيقات مثل التوقعات الجوية. كما يجري العمل الآن على تطوير حواسيب كمومية تعد بسرعات حساب هائلة. ولكن كيف يمكن تصور الحاسوب وعمله؟ 

يمكن تصور الحاسوب على شكل دفتر بصفحات ذات مربعات. لكل صفحة رقم. ولكل مربع في كل صفحة إحداثيات. ومن ثم لكل مربع في صفحات الدفتر عنوان هو: رقم الصفحة وإحداثيات هذا المربع. ويمكن الكتابة في كل مربع بعينه. والمربعات معزولة عن بعضها. والكتابة في كل مربع محدودة برقمي الصفر والواحد

لماذا الصفر والواحد؟ لأنه يمكن تجسيدهما إلكترونياً. فوجود شحنة في المربع يكافئ الواحد وعدم وجود شحنة يكافئ الصفر. وهذا الصفر أو هذا الواحد يمكن تدوينهما في أي مربع من مربعات الدفتر الذي يمكن الوصول إليه عن طريق عنوانه. والمربع يقابل ما يسميه المهندسون بلغة الحاسوب :بت BIT. لذا نسمع بعض الناس يتحدثون عن البت والبتات بالجمع.

وفي الحاسوب تُجرى عمليات حسابية أساسية على موجودات أي مربع من هذه المربعات. وهما عمليتان أساسيتان يمكن انطلاقاً منهما إجراء أية عملية حسابية أخرى مهما كانت (جمع، طرح، ضرب، قسمة، جذر....)، كما تبرهن على ذلك الرياضيات، فصدقوها. هاتان العمليتان هما:
- عكس محتوى مربع ما. إن كان صفراً فعكسه واحد وإن كان واحداً فعكسه صفراً.
- ضرب محتوى مربعين الذي سيكون ناتجه واحداً إذا كان محتوى المربعين واحداً وإلا صفراً في غير ذلك.

الآن، كيف نخزن النصوص والصور وغيرها في الحاسوب؟ جعل المهندسون لكل حرف تركيبة (ترميز) من المربعات المتجاورة من الوحدان والأصفار*. فعند النقر على حرف من لوحة المفاتيح سيذهب إلى صفحة محددة من دفترنا تركيبة مقابلة (ترميز) من الوحدان والأصفار، وبجوارها أو على السطر التالي من الصفحة نفسها سيوضع ترميز الحرف الثاني الذي نقرناه على لوحة المفاتيح وهلمجرا. ومكان وجود النص يحدده عنوان أول مربع شارك في أول حرف من حروف النص وحتى عنوان آخر مربع شارك في آخر حرف في النص.

أما الصور فتُقطّع إلى مربعات صغيرة، وكل مربع من هذه الصورة يخصص له مثلاً سطر (أو أسطر) من أسطر دفترنا. وهذا السطر موجود في صفحة أو صفحات محددة من الدفتر مخصصة لهذه الصورة. وعن كل مربع من الصورة سنضع رموز اللون الخاص بهذا المربع وشدته. وقراءة النص المخزون في دفترنا أو مشاهدة الصورة على الشاشة يجريان بعملية معاكسة للتخزين. أي من رمز الحرف سنعرف من هو الحرف المقصود ونرسمه على الشاشة وهكذا. والأمر نفسه للصورة.

مَنْ يضع الوحدان والأصفار في المربعات ويجري عليها حسابات العكس والضرب وغير ذلك؟ إنه معالج الحاسوب، الذي هو دارة إلكترونية بالغة التعقيد تقوم بعملها وفق خطوات (برنامج التشغيل) حددها مصممو الحواسيب. وهذا البرنامج يدير المعالج لاستقبال حروف أي نص نكتبه عبر لوحة المفاتيح وتخزينها في الدفتر مثلاً، أو إعادة وضعها على الشاشة عند الرغبة في قراءتها. والمعالج هو من يقوم بتخزين مربعات الصورة (آلة التصوير هي من يقوم بتقطيع الصورة إلى مربعات صغيرة). وهذا التخزين في أماكن محددة تقوم بها البرامج. المعالج هو المحرك وبرامج التشغيل هي السائق إذا أخذنا تشبيه السيارة.

تتطور هذه المعالجات مع الزمن، وتطورها يكون في سرعة عملياتها وتعقيدها. وهذه السرعة يحددها إيقاع ساعة الحاسوب التي تساوي اليوم بعضاً من الغيغا هرتز (أي أن أصغر فترة يمكن تميزها في هذه الساعة هي فترة واحد من مليار من الثانية!!)، أي أن هذه المعالجات تقوم بنحو مائة مليون عملية عكس أو ضرب في الثانية الواحدة. وكذلك الحواسيب تتطور من حيث المعالج الذي تستخدمه وعدد صفحات الدفتر (الذاكرة/الذواكر) التي تتضمنها. وفي الحاسوب الواحد أكثر من معالج مختلفة عن بعضها في الدور والأداء. فهناك معالج خاص بالشاشة وهناك معالج خاص بلوحة المفاتيح وهناك المعالج المركزي الذي يقوم بعالجة البيانات وخزنها وهو حجر الرحى في الحاسوب، وهناك معالج موجود في الطابعة، الخ.

أما الدفتر فهو غير موجود طبعاً، ولكن مقابله موجود على هيئة مصفوفات من خلايا إلكترونية تحاكي مربعات الدفتر تماماً وتسمى "الذواكر".... هذا تبسيط نرجو أنه مفيد.

* ترميز الحرف مثلاً هو:
1
0
0
0
0
1
0

الاثنين، 28 أغسطس 2017

الحروب المجنونة ... الحرب العالمية الأولى/الجبهة الإيطالية

بالرغم من أن إيطاليا وقفت بادئ الأمر في صف ألمانيا والإمبراطورية الهنغارية النمساوية دون أن تشارك في القتال معهما، ولكنها قررت دخول الحرب عام 2015 في الجبهة المعاكسة، أي مع فرنسا-بريطانيا-روسيا. السبب في ذلك ظنها أنها ستكون قادرة على استعادة بعض المناطق الشمالية من إيطاليا التي كانت خاضعة للسلطة النمساوية، وربما بعض مناطق النمسا والصرب الاستراتيجية بالنسبة لإيطاليا.

دخلت إيطاليا الحرب دون أن تكون مستعدة لها فعلاً من حيث العتاد والقيادات العسكرية الخبيرة، كان في مواجهتها الجيش النمساوي الهنغاري بالدرجة الأولى. وحتى سياسياً لم تكن أحزابها متفقة على هذه الحرب وضرورة خوضها، كما أن البابا بنوا الخامس عشر والكرادلة حاولوا إقناع الحكومة الإيطالية بالامتناع عن شن هذه الحرب بين دولتين كاثوليكيتين. ولكن القيادة السياسية قررت الانخراط فيها في ايار عام 1915التي شجعها عليها المعسكر الآخر وموافقته المبدئية على احتلال أراض من النمسا صربيا وألبانيا وبعض المناطق الخاضعة للسلطة التركية وإتباعها بإيطاليا وكذلك مستعمرات ألمانيا في أفريقيا، بموجب اتفاق وقعه وزير خارجية إيطاليا في لندن، بالرغم من أن محادثات كانت تجري مع النمسا وهنغاريا لاسترجاع بعض المناطق سلمياً ودفع تعويضات لإيطاليا مقابل بقائها على الحياد

تمكن الجيش الإيطالي في البداية من السيطرة على بضعة كيلومترات ولكنه تلقى بعدها خسارات متتالية. خاض الطرفان معارك متتالية تمثلت باثنتيعشرة معركة انتهت بخسارة مذلة لإيطاليا أمام النمسا (بمساعدة ألمانيا وخروج روسيا من الحرب) في خريف عام 1917 ناقلة جبهة المواجهة إلى الداخل الإيطالي، حيث جرت ثلاث معارك طاحنة عام 1918 أصيب فيها الجيشان بالإنهاك. ولم يتمكن الإيطاليون من الصمود إلا بدعم من الجيشين البريطاني والفرنسي. الأمر الذي أدى إلى توقيع وقف إطلاق النار بين الإيطاليين والنمساويين في الثالث من تشرين الثاني عام 1918، وبموجبه تمكنت إيطاليا من استعادة بعض الأراضي التي احتلتها النمسا أثناء الحرب!

جرت حركة إضرابات في عموم إيطاليا والشمال الإيطالي خصوصاً، عقب هزائم عام 1917، نتيجة نقص المواد الغذائية وارتفاع أسعارها. ولكن الجيش الإيطالي قمعها بالدم بدءاً من شهر آب عام 1917، وهو العام الذي شهد هزيمة كبرى لإيطاليا في كابوريتو، هزيمة كشفت عن الأزمة الأخلاقية والسياسية التي حاقت بمملكة إيطاليا. فقد جندت إيطاليا لهذه الحرب قرابة 5.6 مليون شخص قتل منهم في هذه المعركة نحو 650 ألفاً وجرح قرابة المليون ونحو 600 ألف بين أسير ومفقود. ومات أكثر من مليون مدني، نحو 600 ألف منهم بسبب سوء التغذية، والباقي نتيجة الأمراض. وارتفعت الأسعار بمقدار 450%، وانهار الاقتصاد الإيطالي الذي أثقلته الديون التي لم يتم الوفاء بها حتى عام 1970!


كان لهذه الحرب ألا تكون، فقد كان النمساويون والهنغاريون على استعداد لتقديم تنازلات مقابل حياد إيطاليا عام 1915، إلا أن القيادة السياسية (والعسكرية) لم تقرأ ذلك بطريقة صحيحة، الأمر الذي جعل إيطاليا تدفع أثماناً غالية لم تنته ذيولها حتى الآن... إنها الحرب المجنونة بامتياز.



السبت، 26 أغسطس 2017

مي زيادة... يا حنيّنة

عرفت باسم "مي" الذي اتخذته اسماً نهائياً بعد أن كانت توقع مقالاتها باسم باحثة البادية أو إيزيس كوبيا، و"مي" هو الأقرب إلى اسمها الحقيقي "ماري". وهي صحفيّة أديبة باحثة من مواليد الناصرة لعام 1886، أمضت الجزء الأول من شبابها في لبنان ثم ارتحلت مع أهلها عام 1907 إلى القاهرة حيث عمل والدها في الصحافة وكان صاحب جريدة "المحروسة" لفترة من الزمن. كتبت مي في هذه الجريدة وفي الأهرام وغيرها من جرائد ومجلات مصر ولبنان. كتبت في شؤون مجتمعها الذي كانت تحلم برؤيته متقدماً. كانت تجيد عدة لغات من بينها الفرنسية والإنكليزية وتلم بعدد آخر مثل الإسبانية والألمانية والإيطالية واللاتينية وغيرها. وغير الأدب والصحافة فقد كانت تحب الموسيقى والغناء واشترت عوداً من دمشق رافقها في حياتها.

أنشأت في القاهرة صالوناً أدبياً دعت إليه شباب تلك الفترة المفكرين والأدباء من أمثال أحمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس العقاد وغيرهم كثير. وهذا الصالون لم يكن سوى صالون بيتها الذي كانت تعيش فيه مع والدها ووالدتها، وكان يخصص كل ثلاثاء لمدعوي مي يناقشون أفكارهم وهمومهم في فترة كانت أول الطلق في المخاض العربي الطويل. لم يكن المدعوون دائماً من اتجاه فكري وحيد، فمنهم الليبرالي ومنهم التقليدي الذي يطالب بالمحافظة على الأصول. ولكنها كانت تعرف كيف تجعل صالونها مكاناً للحوار والاحترام. وفي بعض الأحيان كان طه حسين يبقى بمفرده معها لتقرأ له بالعربية ما لم يكن بإمكان زوجته الفرنسية أن تفعله وكانت سهراتهما تنتهي بالموسيقى وبأغنية "ياحنيّنة" التي كان طه حين يحب سماعها بصوت مي.

أحبت مي جبران خليل جبران على مدى عشرين عاماً، منذ عام 1911 وحتى وفاته عام 1931. لم يتقابلا أبداً ولكنهما كانا يتكاتبان. رسائلهما تكشف عن حب عميق، حب إنساني وشغفي، لم يخلو من اختلاف، ولكنه اختلاف الأحبة، اختلاف حبيبان يعيشان مع بعضهما حب فريد في تاريخ البشرية، كانت رسائلهما تجعلهما يشعران أنهم سيلتقيان غداً. كثيراً ما كانت مي تعود إلى رسائل جبران بعد وفاته تستمد منها عزيمة في محنتها التي عاشتها بسبب طمع أقاربها بمقاسمتها إرث أبويها اللذان توفيا قبل فترة من وفاة جبران وكان حزنها بذلك عظيماً.

حاول أبناء عمومتها في بيروت السطو على كامل إرثها واصطنعوا لذلك قصة إصابتها بخلل عقلي نتيجة أحزانها وأدخلوها المصحة العقلية في بيروت بعد أن وضعوها تحت الوصاية في القاهرة، إلى أن اكتشف وضعها أحد أصدقاء أبيها من سكان حيفا فساعدها على الخروج من محنتها، كما قامت الصحافة اللبنانية بكشف تفاصيل القصة ووقف بجانبها صديقها القديم أمين الريحاني إلى أن تمكنوا من إنقاذها من أولاد عمومتها وأعيدت حقوقها إليها وعادت إلى مصر لتقف على أوضاع تركتها حيث توفيت عام 1941.

هجرها أصدقاؤها أثناء محنتها، فقد استنجدت بعباس العقاد وهي في القاهرة فلم يفعل إلا القليل القليل وهما اللذان أشيع يوماً أنها كانا عاشقين، وكذلك لم يستجب أحد من أصدقائها لرسائلها عندما أدخلت المصحة العقلية في بيروت من لطفي السيد أو طه حسين وغيرهما تطلب مساعدتهم، ولكن أحداً منهم لم يتحرك حتى ولو بكلمة... اتصل طه حسين بها بعد عودتها الأخيرة إلى القاهرة معرباً عن رغبته برؤيتها ولكنها رفضت بالرغم من أنها كانت “حنيّنة” جداً... إذ ليس المثقفون بالضرورة هم أكثرأبناء مجتمعهم شجاعة وشهامة!

* معظم مادة هذا المقال مأخوذة من كتاب صدر بالفرنسية لمؤلفته دارينا الجندي بعنوان "سجينة المشرق"

الخميس، 24 أغسطس 2017

التبغ...أرقام وحقائق

عرف كريستوف كولمبوس الدخان (التبغ tobaco) في أمريكا الوسطى في رحلة اكتشافها وحمله معه عندما عاد إلى أوروبا واستخدم للزينة والعلاج ثم سجائر. ولم تنشط صناعة السجائر على حد كبير إلا بعد عام 1830 عقب اختراع أعواد الثقاب في بريطانيا قبل ذلك ببضع سنوات. وهي صناعة ازدهرت، ولا تزال، بالرغم من اكتشاف الآثار السلبية للدخان منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، وبالرغم من طلب معظم دول العالم وضع علامات كبيرة تشير إلى ضرر الدخان بالصحة وكذلك من وقف الكثير من الدول الإعلانات الخاصة بالسجائر، وكذلك منع التدخين في الأماكن العامة، المغلقة خاصة، من الدوائر الرسمية إلى المطاعم والمقاهي ووسائل النقل.

عدد السجائر التي تدخن في الثانية الواحدة في العالم يفوق 127 ألف سيجارة، أي أن ما يحرق سنوياً من السجائر يزيد عن 4000 مليار سيجارة، أي أكثر من 200 مليار علبة سجائر، وبافتراض أن ثمن علبة السجائر هو دولاراً واحداً (وفي بعض الدول يصل إلى أضعاف ذلك) فسيكون إنفاق العالم على السجائر نحو 200 مليار دولار. والأرقام الفعلية أكثر من ذلك!

وهذا بالرغم من تراجع نسبة المدخنين في بعض دول العالم التي وعت حقائق الدخان مثل الولايات المتحدة التي تراجعت فيها نسبة المدخنين من 42% عام 1965 إلى 19% عام 2000 إلى 16.1% عام 2009 وكذلك اليابان من 32.9% عام 2000 إلى 24.9% عام 2009، ومثل ذلك النرويج من 32% عام 2000 إلى 21% عام 2009.
والدخان مسؤول عن موت عشرة أشخاص في العالم في كل دقيقة ليصل عددهم إلى أكثر من ستة ملايين سنوياً. وعدد من ماتوا بسبب الدخان في القرن العشرين كان أكثر من 100 مليون، أي أكثر ممن ماتوا في الحربين العالميتين، ومن المتوقع أن يفوق قتلاه مليار شخص في القرن الواحد والعشرين إن لم يصح العالم من سكرته. وفي غير هذا فإن نحو 3% من الناتج الإجمالي لمعظم دول العالم يذهب في الدخان وآثاره المجتمعية. فبالرغم من أن كثير من الدول تضع رسوماً وضرائب عالية على الدخان، كما هو الحال في أوروبا مثلاً، وأن الدول تجني من وراء ذلك عائدات كبيرة فإن الكلفة الصحية أكبر من ذلك بكثير. ففرنسا مثلاً تجبي نحو 14 مليار يورو من رسوم الدخان ولكن كلفة ذلك الإجمالية على المجتمع الفرنسي تصل إلى 47 مليار يورو.

أكثر الدول المنتجة للتبغ هي الصين بنسبة 42% من الإنتاج العالمي تليها البرازيل بنسبة 11.4% ثم الهند بنسبة 11.2% ثم الولايات المتحدة بنسبة 4.7% . وأكثر الدول استهلاكاً للدخان منسوباً إلى الفرد لمن تزيد أعمارهم عن 15 سنة بحسب إحصاءات تعود لعام 2014 فهي منتينغرو (4125) ثم بيلاروسيا (3831) ثم لبنان (3023) ثم ماسدونيا ثم روسيا. وأقل الدول استهلاكاً معظمها في أفريقيا مثل غينيا (15) وأوغندا (41) ورواندا (53) والحبشة (76) بالرغم من أن أول نرجيلة بدائية اكتشفت حتى الآن كانت في هذا البلد. ومن بين الدول التي تنتج الكثير من التبغ ولكنها لا تستهلك إلا القليل منه نجد الهند (111 سيجارة وسطياً سنوياً لمن تزيد أعمارهم عن 15 سنة).

أما شركات الدخان الكبرى في العالم فهي فيليب موريس (التي تنتج مارلبورو من بين ما تنتج) ولها نحو 19% من سوق السجائر في العالم يليها شركة التبغ الأمريكية البريطانية بنسبة 17% (لوكي ودنهيل وغيرها)، ثم شركة التبغ اليابانية بنسبة نحو 11% (كامل ووينستون وغيرها) ثم الأمبريال توباكو البريطانية بنسبة 5.6% (دايفدوف والغولواز والجيتان وغيرها).


وغير الآثار الصحية والاقتصادية للسجائر على الأفراد، فإن لها أثراً كبيراً على البيئة، فالتبغ مسؤول عن 5% من الغابات المقطوعة في العالم التي تستهلك في تجفيفه. والسجائر تحتاج بين سنة إلى ثلاث لتحللها إن كانت بمرشح أو أربعة أشهر إن كانت بغير ذلك، وأن ولاّعة السجائر البلاستيكية تحتاج إلى مائة سنة لتتفكك!!.. هل يبلغ الإنسان الرشد يوماً!!