بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 28 فبراير 2017

ابن رشد...الفيلسوف البرهاني

هو فيلسوف وفقيه وقاض أندلسي، ولد في قرطبة عام 1126 وتوفي في مراكش عام 1198. كان كبير قضاة إشبيليا وقرطبة، وكان طبيب السلطان الخاص في فترة انتقال السلطة من المرابطين إلى الموحدين. وإنما أصبح طبيباً خاصاً ليس عن معرفة عميقة بالطب وإنما عن دراسة بقصد المعرفة، وهي معرفة من بين معارف كثيرة سعى ابن رشد للوصول إليها بالجد والاجتهاد. فأول عهده بالطب كان إبان وجوده في حاشية الخليفة أبي يعقوب يوسف مؤسس الدولة الموحدية إلى جانب الطبيب الفيلسوف ابن طفيل الذي كان يكبر ابن رشد بعديد السنين.

كان الخليفة أبي يعقوب شغوفاً بالفلسفة، ومن دارسي أرسطو. كان قد طلب من ابن طفيل أن يلخص كتب أرسطو ويقرب أغراضها للناس، إلا أن ابن طفيل اعتذر عن الأمر لتقدمه في العمر وأحاله إلى ابن رشد. عكف ابن رشد على مهمته التي أنجزها على نحو جيد للغاية. فقد تعلم ابن رشد الفلسفة، وخاصة فلسفة أرسطو على يد ابن باجة، الذي ترجم وشرح رسائل أرسطو في الأخلاق في كتاب موجه إلى ابنه نيكوماكوس.

وبعد أن عهد إليه ابن يعقوب بمهمة توضيح أفكار أرسطو. قرأ ابن رشد مختلف الترجمات، وصححها بالتفكير والنقد وإعمال العقل والتحقق من الأصول. فقدم في عمله هذا أكبر الفائدة في الحفاظ على إرث أرسطو. وأكثر من ذلك أنه شرح كتب أرسطو وجعلها في متناول الجميع. اقترن اسم ابن رشد في القرون الوسطى بصفة "المفسر"، أي المفسر والشارح لأرسطو.

لم يتوقف عمل ابن رشد عند شرح أرسطو وإنما تصدى للكثير من المسائل التي كانت مطروحة سابقاً وفي عصره، في الفلسفة والسياسة والمجتمع. ألف كتباً عديدة. من أكثر العناوين التي لا تزال قيد التداول عنوان: "تهافت التهافت"، رد فيه على من قال قبله ببطلان الفلسفة وتهافت الفلاسفة والفلسفة كما قال بذلك ابن الغزالي في القرن الحادي عشر. وغير ذلك فقد لخّص كتب جالينوس في الطب، ودرس وكتب عن كتب أفلاطون في السياسة.
مدرسة أثينا لرفائيل... السادس تصوير لابن رشد 

يذكر الغرب ابن رشد وكأنه أحد مفكريه أو فلاسفته، وأعطاه اسماً لاتينياً (مشتق من العربية) هو أفيرويس. وإنما يعتبرونه كذلك لفضل باق له هو: ضرورة إعمال العقل، وأن لا شيء يمكن قبوله إلا بالعقل، العقل وسيلة الوصول إلى الحقيقة. وكان يطالب بالبرهان للتيقن، ولهذا خطوات محددة يجب الالتزام بها، وهو ما كان يسميه بـ "الخطاب البرهاني".... فهو أول من قال فعلاً بأن الأشياء تؤتى بالعقل وليس بالنقل.


لم تكن السنوات الأخيرة من حياته بالسهلة، فقد نفاه الخليفة المنصور، ابن أبي يعقوب، وأبعده عن القضاء حيناً وأحرق كتبه. لكنه عاد فصفح عنه، واستدعاه إلى مراكش لاستلام القضاء مرة ثانية حيث وافته المنية. يناقش المفكر محمد عابد الجابري نكبة ابن رشد في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" ويقدم الكثير عن ملابسات سني ابن رشد الأخيرة... وهو كتاب جدير بالقراءة لأسباب عدة.

الاثنين، 27 فبراير 2017

الكاميكاز... والحروب المجنونة

الكاميكاز أو الكاميكازي هو الاسم الياباني الذي أطلق على فرق من الطيارين اليابانيين الذين كانوا يغورون بأنفسهم وطائراتهم بقنابلها على سفينة أمريكية معادية في المحيط الهادئ إبان الحرب العالمية الثانية لتدميرها أو إلحاق ضرر بها يمنعها من متابعة مهمتها. كانوا يذهبون إلى أداء مهماتهم بدون مظلة تسمح لهم بالقفز من طائراتهم، وهم لا يعودون إلى قواعدهم إلا إذا تعذر عليهم أداء مهمتهم، بسبب عدم العثور على صيد ثمين أو الظروف الجوية السيئة.

الاسم في الواقع مؤلف من كلمتين: كامي وكازي، ومعناهما معاً هو: "الريح الإلهية". يعود أصل هذا التعبير إلى القرن الثالث عشر عندم هاجم أسطول منغولي اليابان بقصد احتلالها، إلا أن إعصاراً (أسطورياً) هب وشتت هذا الأسطول وأنقذ اليابان. أُطلق على هذا الإعصار اسم "كامي كازي". بقيت هذه الأسطورة في الثقافة اليابانية، بمعنى الافتداء.

لم تكن مهاجمة سفن الأعداء في المحيط الهادئ هي المرة الأولى التي يقوم فيها طيارون يابانيون بعمليات انتحارية، فقد سبق ذلك قيام جنود يابانيين مشاة في معركة شنغهاي عام 1932 بالقذف بأنفسهم في خنادق الجيش الصيني مرتدين أحزمة متفجرات ناسفة. يبدو أن هذا النمط من العمليات كان الأول في التاريخ الإنساني. وهي صممت بالدرجة الأولى نتيجة النقص في عدد الجنود اليابانيين في مواجهة الطرف الآخر.

كان المشاركون في فرق الكاميكاز في الأغلب من الطلاب المتطوعين الذين انخرطوا حديثاً في الجيش. كما كان دخولهم في هذه الوحدات بالنسبة لهم شرفاً كبيراً يعكس إيماناً عميقاً بحتمية الموت، لكنه موت باعتقادهم ضمن سلسلة حيوات. ولكن في الواقع فقد ازدادت جداً حاجة الجيش الياباني إليهم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لذا كان تدريبهم سريعاً، لا يستغرق أكثر من أسبوع: يومان للطيران، ويومان للملاحة وثلاثة أيام للتدريب على الهجوم. ولم يكن هجومهم ليقتصر على السفن وحدها وإنما كان أيضاً ضد الطائرات عبر الاصطدام المباشر بها، وخاصة القاذفات.
يوكو سيكي مع حزامه الناسف وله من العمر 23 عاماً

كان أول هجوم للكاميكاز في الخامس والعشرين من تشرين الأول عام 1944 بسرب من خمس طائرات قاده الملازم أول والطيار البارع يوكيو سيكي، تحمل كل منها قنبلة زنة 250 كيلوغرام، نجح خمسة منهم بالاصطدام المباشر بسفن أمريكية من بينها حاملة الطائرات "سانت لو" التي غرقت وقتل 126 من طاقمها، وعلى ما يبدو فإن طائرة سيكي هي التي أصابت حاملة الطائرات هذه. نُقل عن سيكي تصريحه قبل انطلاقه، قائلاً: "إن تاريخ اليابان محزن إذا كان مجبراً على قتل واحد من خيرة طياريه. لا أقوم بهذا من أجل الإمبراطور أو الإمبراطورية ... أقوم بذلك لأني تلقيت أمراً عسكرياً". الشباب الكاميكازيون الصغار كانوا أكثر حماساً واندفاعاً، مع اعتراف الكثيرين منهم بخوفهم من الموت الذي كانوا يتغلبون عليه باعتبارهم الحياة الحالية مرحلة من حيوات أخرى!!...

أغرقت هذه العمليات الانتحارية أكثر من أربعين سفينة أمريكية وأعطبت أكثر من مئة أخرى... لكن دون أو يمنع هذا خسارة اليابان للحرب، أو ربح أمريكا للحرب باستعمالها السلاح النووي الشنيع... إنها الحروب المجنونة كعادتها، التي تلتهم الشباب وتترك للزمن مهمة كفكفة دموع الآخرين!

الأحد، 26 فبراير 2017

رسم خريطة العقل

أطلقت الإدارة الأمريكية منذ عدة سنوات مبادرة على مدى عشر سنوات خصصت لها ميزانية بقيمة ثلاثة مليارات دولار لتوضيح النشاط المعقد للدماغ الإنساني، أي رسم خارطة الدماغ البشري. كما أن الاتحاد الأوروبي أعلن منذ نحو ثلاث سنوات عن تمويل بمقدار 1.5 مليار دولار لمبادرة مماثلة على مدى عشر سنوات تطمح لبناء أداة محاكاة للدماغ البشري قائمة على آليات العمل الداخلية لجزيئات الدماغ وعصبوناته وداراته. إضافة إلى مبادرات خاصة مثل مبادرة بول ألن Paul Alen (المؤسس المشارك لمايكروسوفت)، الذي فقد والدته بسبب مرض الزهايمر، وقام بإنفاق الكثير لفهم التوصيلات الدماغية.

والعائد الضمني من رسم خارطة الدماغ هو فهم آليات عمل الدماغ الداخلية بحيث يمكن للبيولوجيين محاكاة نشاطاته وتطوير عقارات جديدة للاضطرابات العقلية، وكذلك تطوير مساعدات حركية تفاعلية لأصحاب الأعضاء المبتورة. وقد ينجم عن دراسة الدارات العصبية يوماً ما غرس أدوات تعمل حول النسيج المصاب لوقف خلل فقدان الذاكرة العقلي أو تمكين الأكفّاء من الرؤية مثلاً. كما سيؤدي ذلك إلى تطور في ميادين معمارية الحاسوب. فالدماغ يعالج دفقات متعددة من المعلومات بدلاً من حاسوب اليوم الذي يقوم بالمعالجة خطوة فخطوة.
سيجري العمل وفق ما يسمى بالهندسة العكسية التي تعني تفكيك شيء ما لمعرفة كيف يعمل ومن ثم إعادة بناء نسخ مماثلة. وهذا ليس بالأمر السهل، فللدماغ نمط توصيلات معقد يتغير بفعل الزمن. ففي أدنى مستوى –وهو مستوى العصبونات- تنتقل النبضة العصبية من عصبون أول، بإطلاق مواد كيمائية عبر وصلات عصبونية synapses كائنة بين كل عصبونين. وهذه المواد الكيمائية تُحفِّزُ من ثم العصبون الثاني الذي سيكرر العملية نفسها، وهلمجرا لتكوين أمر لفعل ما، الذي قد يمر بمئات ألوف العصبونات.
وبالفعل، فقد استغرق تطوير "مخطط دارة" النظام العصبي لدودة مدوّرة عشر سنوات. لهذه الدودة 300 عصبون ترتبط فيما بينها بحوالى 7000 وصلة، وذلك بمراقبة كل وصلة بمفردها. ولكن الدماغ البشري يتألف من 100 مليار عصبون، ووصلاته تبلغ تقريباً ألف تريلون وصلة، ومن ثم فإن تسجيل كل إطلاق يقوم به كل عصبون في كل دارة هو مثل محاولة فك خيوط المعكرونة في برميل هائل. ورسم المخطط هو ليس مسألة بسيطة يمكن تحديدها بمراقبة كل عصبون وبمن يتصل. إذ يضاف إلى ذلك أسئلة من نوع: كيف تقوم المادة الرمادية بترميز وتخزين المعلومات؟ وكيف يثبّت الدماغ المعلومات وكيف يستردها؟ أو كيف تذهب هباء لدى الناس ممن يعانون أمراضاً عقلية؟  فهذا لن يكون تجربة يمكن إجراؤها في يوم واحد.

وبنتيجة التطور في تجهيزات التصوير الدماغي والمحاكاة الحاسوبية لعمل الدماغ، فقد تمكنّا من فهم أشياء كثيرة مثل "لماذا ننام" أو "ما هي الذاكرة"، وفهم آلية الإدمان والشيزوفرانيا والتأذي الدماغي الرضي... إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لرسم الخارطة المنشودة، ومحور الصعوبة يكمن في أن الدماغ عضو دائم الحركة، لا يمر بلحظة سكون تسمح لنا بالقول: "أوريكا.. أوريكا"... لكن، كما يقول المثل: من سار على الدرب وصل... وسيصل. 

السبت، 25 فبراير 2017

بوزون هيغس... الفكر سابق للتجربة

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن بوزون هيغس، فما هو ومن اكتشفه؟ 

ففي الستينيات من القرن المنصرم قام الاسكتلندي بيتر هيغس Higgs والبلجيكي فرانسوا إنغليرت Englert ومواطنه المتوفي روبرت بروت Brout، وعلى نحو منفصل، بالبرهان على ضرورة وجود جسيم صغير من فئة البوزونات غير معروف بعد ضمن جسيمات الذرة. وانتظروا خمسين سنة حتى يفوز اكتشافهم بجائزة نوبل للفيزياء لعام 2013. 

سمي هذا البوزون في المخابر والدراسات النظرية ببوزون هيغس-إنغليرت-بروت، وإن غلبت تسميته ببوزون هيغس بسبب أن البعض أخطأ في التوارخ والقراءة، ولكن التاريخ لا ينسى وإن أخطأ البعض في التنويه عن بعض الحقائق، فإنما هذا إلى حين!

من اليمين: بروت ثم هيغس ثم إنغليرت
تتألف الذرة بحسب ما يسمى"النموذج المرجعي" للجسيمات الفيزيائية، من كتل مادية تسمى الفيرميونات، (وهي عموماً الإلكترونات والنيترونات والبروتونات) ومن جسيمات، بوزونات، تربط هذه الكتل فيما بينها داخل الذرة ومع الذرات الأخرى ومع الأجسام الأخرى الموجودة في الطبيعة ليتشكل بذلك العالم المادي. وهذا الربط يجري عبرالقوى الكونية الأربع وهي: القوة الكهرطيسية (للترابط مع الذرات المجاورة) وقوة الجاذبية (للترابط مع الأجسام الأخرى. ثم القوة الضعيفة والقوة الشديدة، وهما قوتان لترابط الأجسام داخل الذرة. ناقل القوة الأولى هو بوزون الفوتون، وناقل القوة الثانية هو بوزون الغرافيتون (لا يزال وجوده افتراضي)، أما القوتان داخل الذرة فمسؤول عنها بوزونات خاصة تضمن تماسك الذرة (نوع من الغراء الداخلي). من المفروض ألا تكون لهذه البوزونوات كتلة مثلها مثل الفوتونات. ولكن المشكلة أن لها كتلة، وكتلة كبيرة حتى! فما العمل؟ هذه المسألة تحتاج إلى تفسير وإلا فعلينا الإلقاء بالنموذج المعياري في سلة المهملات.

تقوم نظرية بوزون هيغس على أن هذا البوزون مسؤول عن توليد حقل حوله يجعل لكل بوزون داخل هذا الحقل كتلة، وخارج هذا الحقل ليس لأي بوزون كتلة. وبذلك يبقى النموذج المعياري للمكونات الذرية قائماً. أي أن لكل بوزون لاصق كتلة أحياناً وأحياناً لا! ولكن كيف يمكن التأكد من وجود بوزون هيغس هذا فعلاً؟

ولقطع الشك باليقين، قام مركز الأبحاث النووية الأوروبي في سويسرا بإجراء اختبارات لتأكيد أو نفي وجود مثل هذا البوزون. بلغت كلفة هذه التجارب تسعة مليارات يورو، شارك فيها سبعة آلاف باحث من كل أنحاء العالم. بنوا واستثمروا أدوات سمحت بمراقبة هذا البوزون. من بينها مسرّع الجزيئات الأقوى في العالم الذي بدأ عمله عام 2008. وهو عبارة عن اسطوانة حلقية بطول 27 كيلومتراً تُرسل فيها البروتونات باتجاهين متعاكسين، بسرعة تقترب من سرعة الضوء. ومن المفترض أنه عبر تصادم البروتونات ستنشأ الظروف الضرورية الأفضل لظهور بعض من بوزونات هيغس هذه. وبالفعل فقد حقق هذا المصادم دوره بمساعدة أجهزة الكشف العملاقة التي صنعت لهذا الغرض.

أعطت عمليات التصادم هذه كميات هائلة من المعلومات، كان البحث فيها عن هذا البوزون يشابه البحث عن إبرة في نهر النيل. لذا استخدمت برمجيات خاصة وحواسيب هائلة الاستطاعة للبحث في هذه المعلومات، التي تضمنت بالفعل تأكيد وجود هذا البوزون المفترض، وأعلن في الرابع من تموز عام  2012 عن تحقق فكرة لم تكن سوى أمراً نظرياً لقرابة خمسين عاماً.

يبقى أن نظرية هيغس وزميليه تمثل دعوة لإعادة التفكير في مفهوم الكتلة، وهذا سيتبعه تغيرات جذرية في كثير من المساعي الإنسانية وخاصة في الفيزياء وفي الفلسفة. البعض يقول بأن فيزياء جديدة ستولد، وربما ستولد فلسفة أخرى أيضاً. لننتظر ونرى!


الجمعة، 24 فبراير 2017

كارثة العلم ...والإيديولوجيا

امتزج علم الوراثة بالسياسة طوال هذا القرن العشرين. وبمثل ما عارضت الكنيسة قديماً أفكار غاليلو كونها مخالفة للعقيدة، فقد نبذ الشيوعيون علم الوراثة كونه يتعارض مع مبادئ الشيوعية. بدأ هذا النبذ منذ نهاية العشرينيات. فباسم الديالكتيكية أقام أعداء نظرية التطور السوفييت وراثة جديدة سموها وراثة الصفات المكتسبة، وهي صفات يمكن اكتسابها دون تدخل الوراثة في ذلك، كأن يجعل القمح ينضج شتاءً مثلاً. وإنما قاموا بذلك مسلحين بنصوص لأنجلز وليس بدلائل علمية. وكان بطل هذه الحملة المهندس الزراعي تروفيم ليسنكو. اعتبر ليسنكو أن نظريته في الصفات المكتسبة هي نظرية لا يمكن للهندسة الوراثية أن تفسرها. وقام بمهاجمة مدرسة الوراثة السوفيتية اللامعة في وقتها.

ومن قراءة تصريحات ليسنكو، يُظهر المضمون والأسلوب وضوحاً ضعفه العلمي وجهله، ليس في البيولوجيا البسيطة فقط، وإنما في المنهجية العلمية نفسها. وهي تذكر بالكتيبات التي كانت تطبع على نفقة مؤلفيها العصاميين المقتنعين بأنهم قد وجدوا سر الحياة أو دواء السرطان. ولكن المخيب، وهذا ما أظهر حذق ليسنكو، أنه حصل على دعم ستالين ومعه كل السلطات السوفيتية والدولة والحزب والعدالة والصحافة. وبفضل ذلك حصد نصراً مؤزراً على خصومه. ومنع تعليم الوراثة في الاتحاد السوفيتي وقتها. وكان مصير من يخالف نظرياته النفي إلى سيبيريا من حيث لم يعد الكثيرون. وبالطبع ما انطبق على الاتحاد السوفيتي كان ينطبق على الدول التي كان واقعة تحت سيطرته، إذ حورب علم الوراثة في كل الديموقراطيات الشعبية. فقد حملت في كلية بودابست مجموعة ذبابات الخل التي كانت تستخدم في البحث والتعليم ليلقى بها في القمامة أمام طاقم إدارة الجامعة ورئيسها. وفي برنو ألقي بتمثال الراهب مندل. أما البازلاء التي استخدمت في تجارب مندل فقد اقتلعت من حديقة الكاتدرائية التي عمل فيها منندل. فلم يكن القصد الضحد وإنما الهدم.

وكان المدهش الأكثر في هذه الحالة هي الحجج التي استعملها ليسنكو وأنصاره. وكانت مقالته، عندما كان يتحدث عن البيولوجيا، من الضحالة لدرجة تثير السخرية وتهدم أي نصيب، مهما كان صغيراً، من المصداقية التي كان ممكناً أن تخصص بها ادعاءاته الزراعية. كان رجلاً عنيداً يتلفظ، دون أن يرجف له جفن، بحماقات من نوع: يوجد نوعان من الغلوكوز، نوع للنباتات وآخر للحيوانات! أو: تفيد الأحماض الأمينية أولاً في التوازن التناضحي (الارتشاحي) للخلايا! أو ثانية: إن هيولى الخلية هي التي تعطي للنواة في الخلايا خواصها! ولا يوجد لأي من هذه المقولات أي نوع من البيّنة.

إن مفهوم النوع بالنسبة إلى ليسنكو ومؤيديه لم يكن إلا فكرة بورجوازية. ولم يكونوا ليترددوا في توفير أكبر دعاية للتجارب التي سمحت لهم بتحويل نوع إلى آخر: كالقمح إلى سلت والشوفان إلى شعير. والهدف من هذه العمليات كان الشهادة بنجاح العلم التقدمي! وفي الواقع فإن الجدل الحقيقي كان أيديولوجيا وليس علمياً. فالحجة التي كان يستخدمها بلا انقطاع ضد علم الوارثة هي عدم توافقها مع الديالكتيك المادي. وكان هذا بالنسبة له الرهان الحقيقي وأصل المسألة، وهي الأرضية الوحيدة التي تمكنه من الحصول على دعم ستالين وكل السلطة السوفيتية. وهنا، وفقط هنا كان له حظ في النجاح وسيطرة أفكاره ودحر أعدائه. وفي الواقع فقد كان ليسنكو محقاً في عدم توافق الديالكتيك المادي وعلم الوراثة. إذ لا يمكن موافقة نظرية المورثات مع ديالكتيك أنجلز. وبالقدر نفسه الذي لا يمكن فيه موافقة الديالكتيك مع النظرية الداروينية، نظرية الانتقاء والتطور، التي كان ليسنكو يرفضها. وبالنسبة له فإن نظرية الخصال المكتسبة، التي كان يظن أنه برهن صحتها، تسمح بتغيير الطبيعة تغيراً له صفة الديمومة، وعليه تطابقها مع العقيدة الماركسية.  وهذا يعني موافقة ستالين.

بقي ليسنكو أمداً طويلاً في وظيفته وبما يكفي لهدم البيولوجيا وعلم الزراعة في بلده التي لم تتعافى بعد من آثاره. لقد امتد به العمر إلى ما بعد ستالين. ولكنه اختفى في بداية الستينيات تحت وطأة هجمات الفيزيائيين السوفييت. فقد كان لهؤلاء، على العكس من زملائهم البيولوجين، وبسبب السلاح النووي، حرية السفر والمشاركة في المؤتمرات في خارج الاتحاد السوفيتي. ولم يغب عن علماء الفيزياء الغربيين الاهتمام بالبيولوجيا الجزيئية في بداياتها، ولعب بعضهم الأدوار الأولى. وبنتيجة احتكاك الفيزيائيين الروس بزملائهم الغربيين أدركوا بسرعة ضرر مواقف ليسنكو. وتمكنوا من إقناع السلطات السوفيتية. وبعد أخذ ورد انتهى الأمر بنزع ألقاب ليسنكو وعزله. وأعيد وضع تمثال مندل على قاعدته في برنو التشيكية. وزرعت البازلاء مجدداً في حديقة الكاتدرائية.

ومع أن قصة لينسكو قد انتهت كما كان لها أن تنتهي، إلا أن العالم لا يزال ينجب أمثال لينسكو، ليس في العلم ولكن في جوانب أخرى مو مواضيع الحياة والمعتقدات،... وبغطاء علمي إن احتاج الأمر.

بتصرف، من محاضرة لفرانسوا جاكوب، جائزة نوبل في البيولوجيا.

الأربعاء، 22 فبراير 2017

تيمورلنك... تاريخ الدم

هكذا يكتب اسمه موصولاً، مع أنه من الأفضل أن يكتب مفصولاً: تيمور لنك، الذي يعني تيمور الأعرج. وتيمور هو الاسم الذي أطلقه عليه أبوه تيمناً بتيمورجين (حديد) المعروف باسم جنكيزخان، بعد أن تعثر ابنه بقراءة الآية التي فيها "يوم تمور السماء موراً". هكذا تقول الرواية!

كانت ولادته في أوزبكستان الحالية عام 1336 ميلادية، وتوفي في عام 1405 فيما يعرف اليوم بكازخستان. والده طراغاي شيخ قبيلة تركية، كان أول من اعتنق الإسلام في قبيلته واشتهر بورعه. التحق تيمور بأمير تركي محارب وهو في السادسة عشر من العمر. ترقى إلى مناصب عالية في جيوش القبائل ليصل في عام 1369 إلى عرش سمرقند حاضرة آسيا الوسطى، وأطلق على نفسه اسم "الأمير الكبير". أشتهر عنه العنف والقسوة، لا رحمة لديه ولا شفقة. كما كان صاحب مكر وخديعة حاذق.

أمضى النصف الثاني من عمره في توسيع رقعة دولته ليضم إليه خوارزم وأذربيجان وإيران وكردستان. غزا الهند في عام 1398 وله من العمر أكثر من ستين عاماً واتخذ من الهنود أكثر من مائة ألف أسير قتلهم جنوده وكدسوا رؤوسهم على شكل أهرامات. دمر وأحرق مدناً كثيرة من بينها دلهي. وساق من أهلها الكثير عبيداً. هذه كانت سياسته في حروبه: الحرق والدمار والقتل بلا رحمة، إلا لأصحاب المهن الذين كان يرسل بهم إلى سمرقند ليعملوا فيها.
الدولة التيمورلنية التي استمرت حتى مطلع القرن السادس عشر

حارب الأتراك والمماليك بعد ذلك. وساقه هذا إلى دخول حلب وتدميرها مرتين، مرة في الذهاب وأخرى في الإياب، وأحرق دمشق التي مكث فيها 80 يوماً وفتك بأهلها. ودمّر معظم مدن سورية ولبنان الحالية. وفي حزيران لعام 1401 دخل بغداد وقتل 20 ألفاً من سكانها. وطلب من جنوده وهو في بغداد ألا يعود أي منهم إليه إلا حاملاً رأسين بشريين بيديه. وفي عام 1402، غزا تيمورلنك الأناضول وهزم السلطان العثماني بيازيد الأول في معركة أنقرة وأسره، وجرّه وراءه في قفص حديدي إلى أن مات بيازيد منتحراً. وفي حوار جرى بينهما، قال تيمورلنك لبيازيد: "إنه لمن سخرية الأقدار أن يحكم العالم أعوراً وأعرجاً"، إذ كان بيازيد أعوراً، وكان يتوسع ويتمدد في تركيا الحالية محاولاً احتلال القسطنطينية. أما تيمورلنك فكان أعرجاً، وهذا ما أكده التصوير الشعاعي لقبره.

جهّز تيمورلنك في عام 1404 جيشاً وحملة ليقودها إلى الصين، ولكن حمى الطاعون كانت بانتظاره ليموت في منتصف شباط عام 1405. تاركاً وراءه 18 زوجة وأولاداً كثر توفي الكثيرون منهم في حياته. ولكن الأهم من ذلك أنه ترك وراءه دماً ودماراً في كل الأماكن التي زحف إليها. وبالاعتماد على روايات المؤرخين، فإن عدد من قتل جرّاء حروبه يتراوح بين مليون و 17 مليون. وإذا أخذنا الرقم الثاني، فيكون قد قتل 5% من سكان العالم وقتها!

بقي أن نقول إنه ولد على ما يبدو ويداه مليئتان بالدم، مما جعل عرّاف قبيلته يتطيّر خوفاً، فقد ذكره ذلك بميلاد جينكيزخان. وهو لا يذكر اليوم إلا كناية عن الخراب والدمار.

الثلاثاء، 21 فبراير 2017

فلسفة... كيف؟

ليس حال الفلسفة كبقية الاختصاصات. ففي الطب مثلاً يتعلم الطالب كل ما يحتاج لممارسة الطب. وممارسة الطب معيارياً تجري بالطريقة نفسها أياً كان الطبيب. قد يكون هناك اختلاف في التشخيص بين طبيب وآخر، ولكن الاختلاف قابل للنقاش والوصول إلى تحديد علاج. أو اللجوء إلى مزيد من التحاليل لقطع الشك باليقين وتحديد التشخيص والعلاج على نحو أفضل. والحال هو نفسه تقريباً في مجمل الاختصاصات الدراسية.

أما في الفلسفة فالأمر ليس بهذا الوضوح وذلك لأسباب عديدة. أولها أن الفلسفة هي في الأصل أم العلوم. تقلصت شيئاً فشيئاً لتصبح اختصاصاً بحاله. فقد كان أول الفلاسفة المعروفين مشغولين بمواضيع شتى من الطب إلى الرياضيات إلى الفلك والفلسفة وغيرها. واستمر هذا حتى فترات قريبة. فابن رشد مثلاً كان طبيب الخليفة الأندلسي وقاضي الدولة وفيلسوفاً. وكذلك كان حال ديكارت الذي اهتم بمواضيع شتى من الرياضيات والفلسفة وغيرهما. ولم تصبح الفلسفة اختصاصاً يشتغل به شخص دون اشتغاله بغيره إلا منذ نهاية القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الألماني كانط فيما نعرف. ومن وقتها بدأنا نسمع بأشخاص فلاسفة لا اشتغال آخر لهم إلا الفلسفة، ومن وقتها انفصلت بذاتها. 

كما أن الفلسفة يصعب وضعها في قالب وحيد، سواء من حيث نمط المسائل التي تعالجها، أو من حيث المقاربة. فلكل موضوع العديد من المقاربات التي تختلف باختلاف العصر وباختلاف المعارف وباختلاف المنظور. واختلاف وتغير المعارف يجعل من الفلسفة موضوعاً دائم التغير من حيث الخلاصات. كما أن تغير المنظور والمقاربة يجعل مواضيعها متجددة على الدوام.

اختصت الفلسفة لنفسها بمواضيع رئيسية منذ بدايتها. أولها فلسفة العلم التي تهدف إلى البحث في مسألة: كيف نتحقق من صحة معارفنا؟ بالتجربة أم بالاستنتاج والاستقراء أو غير ذلك؟ والمسألة الثانية هي مسألة الأخلاقيات التي تبحث في مسألة: كيف يمكن أن نقول بأنّ فعل ما هو أخلاقي (حسن، أو مقبول أو لا ضرر منه) أو غير أخلاقي؟ وعن هذه المسألة تتفرع مسائل أخرى استقلت مع الزمن بحالها مثل مسألة العدل. والمسألة الثالثة التي تعالجها الفلسفة تتعلق بالجمال: كيف ومتى نحكم على جمال الأشياء وما دوافعنا في ذلك؟ يضاف إلى ذلك مسائل عديدة ذات صلة لا يتسع المجال لإجراء جرد كامل لها. وعلينا ألا ننسى أن المنطق هو إنتاج فلسفي في أصله استحوذت عليه الرياضيات لاحقاً.

ولكن كيف نتفلسف؟ يبدأ الأمر بالتساؤل ومحاولة الإجابة، ومن ثم الطعن في الإجابة ونقدها، ومن ثم البحث عن جواب أقرب إلى الصحة وهكذا. وبكلام آخر عندما نجد أنفسنا أمام قضية ما فأول ما نبحث عنه هو الإجابة عن: هل نحن إزاء قضية أو مسألة تستحق البحث والتفكير؟ ومن ثم نحاول نقاشها وتقديم الحجج التي توضح أننا إزاء مسألة حقيقية وليس أمام مسألة واهية. ثم نقوم بتحديد الأسس والإطار العام للمسألة، ومناقشة المسألة بعد ذلك بالاستعانة بالمنطق وبالمفاهيم المتوفرة أو ربما نبني بعضاً منها (المفهوم هو بناء عقلي لفكرة عامة أو مجردة مثل مفهوم الدولة أو الحق أو المواطنة أو الواجب الخ) للوصول إلى نتيجة تقود إلى فعل أو تسمح بمتابعة الحوار بهدف الوصول إلى فعل، وقبل الفعل تجري عملية الانتقاد والبحث عن مكامن الضعف في النتيجة النهائية لتعديلها إن لزم الأمر... فهل قضايا مثل الحرية أو الحقوق أو الإنصاف، بمعناها الواسع في المجتمعات، هي قضايا يمكن التفلسف فيها مثلاً... أتمنى لكم فلسفة موفقة مع موضوع أبسط من كل هذا وذاك، مثل موضوع "الصمت"!

الاثنين، 20 فبراير 2017

ولله في خلقه شؤون... غريغوري بيرلمان

إنه عالم الرياضيات الشهير غريغوري بيرلمان. وهو روسي من مواليد مدينة ليننغراد لعام 1966. برع في الرياضيات. حصل في عام 1982، وله من العمر 16 عاماً، على الميدالية الذهبية في الأولمبياد الدولي للرياضيات بنيله العلامة التامة. درس الرياضيات في جامعة ليننغراد بين عامي 1982 و 1987 ونال الدرجة الممتازة وحصل على الدكتوراه من معهد ستيكلوف عام 1990 حيث استمر يعمل في هذا المعهد باحثاً. درّس وعمل في معاهد أمريكية بين عامي 1993 و 1995، وبالرغم من عروض كثيرة مغرية لاستبقائه في جامعات أمريكية مرموقة مثل ستانفورد وبرنستون، إلا أنه آثر العودة إلى مدينته سان بطرسبورغ والاختفاء عن الأنظر، ليظهر في عام 2002 ناشراً على الإنترنت مقالاً من 39 صفحة يعرض فيها حله لحدسية بوانكاريه (التي تقول، تبسيطاً، بأن لكل جسم ثلاثي الأبعاد مترابط، أي لا يتضمن ثقوباً، مكافئاً على شكل كرة). هذه الحدسية طرحها الرياضياتي الفرنسي بوانكاريه منذ مطلع القرن العشرين دون أن يتمكن أحد من البرهان عليها. نشر بيرلمان مقالان متممان لاستكمال البرهان. اتبع ذلك بمجموعة محاضرات ألقاها عام 2003 في الولايات المتحدة ليشرح برهانه الذي راجعته لجنة من الرياضياتيين على مدى أربع سنوات لتصدر حكمها بصحة برهانه.

منح جائزة فيلدز عام 2006 ولكنه رفض الذهاب إلى مدريد لاستلامها. كما حصل على الجائزة الألفية في الرياضيات لمعهد كلاي للرياضيات وقيمتها مليون دولار لحله إحدى المسائل المستعصية السبع، ولكنه رفضها أيضاً. وكان قبل ذلك قد رفض عام 1996 جائزة جمعية الرياضيات الأوروبية.

وفي عام 2005 ترك معهده الذي يعمل فيه ومضى للعيش مع والدته في شقة متواضعة تضم بالكاد ما يلزم للحياة من أشياء تركها مستأجر سابق لتلك الشقة. هو قليل الكلام، شعره طويل وذقنه أيضاً، وأظافره طويلة متسخة، يرتدي معطفاً وسروالاً باليين. يسير كأنه لا يرى أحداً. لا يقبل الدعوات ولا المقابلات الصحفية. وعلى ما يبدو أن البرافدا نجحت في مقابلته حيث أسرّ لها بأنه يبحث عن "تدريب دماغه" منذ كان صغيراً بمسائل يصعب حلها مثل: ما هي السرعة التي كان على المسيح أن يمشي بها لكي يتمكن من السير على سطح الماء دون أن يغرق. أما عن سبب رفضه استلام الجوائز، فأجاب بأنه تعلم أن يختبر الخلاء. والخلاء موجود في كل مكان. يمكن اكتشاف مكمنه وهذا يقدم الكثير من الإمكانات... أنا أعرف كيف أدير الكون. فقل لماذا كان عليّ أن أركض خلف مليون دولار؟...ولكن هذه المقابلة مشكوك في أمرها!

ذلك أن غريغوري مصاب منذ صغره بمتلازمة توّحد أسبرغر التي يعاني المصابون بها من العزلة، ولكنهم أحياناً يمتلكون ذاكرة عجيبة وقدرة ذهنية أعجب... لا يزال غريغوري مختفياً عن الأنظار، وإن كانت هناك إشاعات تقول بأنه سافر إلى السويد حيث تعيش أخته للعمل في أحد المعاهد على مسائل رياضياتية تخص التقانة النانوية... والله أعلم!

الأحد، 19 فبراير 2017

العلم بلا ضمير دمار للروح ... فون نيومان

من الناس من امتهن العلم ولكنه نسي أنه، كما لكل شيء، من الواجب احترام القيم الإنسانية أولاً، وإلا فلا نفع من علمه. وهنا التاريخ لا يرحم، فكل من حاول أن يفعل غير ذلك نسيه التاريخ وأحياناً كثيرة لفظه أو لعنه. والعلم، ككل المهن، يتطلب قدراً من الأخلاق، لا بل يتطلب الكثير من الأخلاق. فبقدر ما يمكن للعلم أن يكون مفيداً يمكن أن يكون ضاراً باستخداماته ومدمراً. المثال النووي لا يحتاج إلى تعليق، وكذلك هندسة الوراثة. وحتى كل صنوف العلم وإن كان الأثر الضار بدرجات.

أحد مشاهير العلم في القرن العشرين هو الهنغاري الأصل، الأمريكي الممات، جون فون نيومان. وهو نابغة من نوابغ الدهر. تعلّم القراءة وله من العمر سنتان، وانتهى من قراءة مكتبة بيتهم الثري في الثامنة من العمر حافظاً بعضها عن ظهر قلب. تعلم اليونانية القديمة وتحدث بها ولم يبلغ السادسة من عمره بحسب الروايات. نبغ في الرياضيات أيما نبوغ، وحصل على شهادة الدكتوراه فيها وهو في الثانية والعشرين من العمر. وترك أثراً في كل مجال خاض فيه، وما أكثرها. من الوراثة إلى نظرية السَبْق game theory إلى نظرية المجموعات، إلى الميكانيك الكمومي، وحتى في الاقتصاد. هذا طبعاً إذا تركنا جانباً عمله في الحاسوب ونموذج معمارية الحاسوب الذي يسمى باسمه باعتباره النموذج الأساس.

شارك فون نيومان في مشروع مانهاتان لبناء القنبلة النووية الأمريكية، نظراً لخبرة سابقة كان قد اكتسبها جراء عمله مع الجيش الأمريكي في المتفجرات، وله نظريات رياضياتية في ذلك. كان دوره الأكبر في ذاك المشروع هو حساب الارتفاع الذي يجب عنده تفجير القنبلة النووية لكي تحدث أكبر خراب ممكن. وبالفعل فقد حسب ذلك تماماً. وهذا ما أدى إلى أكبر خراب في هيروشيما عند انفجار القنبلة على ارتفاع 580 متراً مسبباً مقتل عشرات آلاف الناس ومدمراً كل شيء في دائرة قطرها 12 كم بإطلاقه ريحاً تراوحت سرعتها بين 200 و 300 كم في الساعة.

ترأس نيومان بعد ذلك لجنة مشروع القنبلة الهيدروجينية. وكانت له نظرية اسمها "الدمار المتبادل المضمون"، وفحواها أنه إذا امتلك الخصمان الكثير من الأسلحة النووية فإنهما لن يستخدماها لأن ذلك سيسبب تدمير الاثنين معاً. أي أنه كان يطالب البشرية بالعيش عند حافة الهاوية.

لم يتخذ نيومان أي موقف ضد الأسلحة النووية، كما فعل كل مشاهير العلم في ذلك الوقت بمن فيهم هؤلاء الذين عملوا على مشروع إنتاج القنبلة النووية. ولم يكترث للمحرقة اليهودية بالرغم من أصوله اليهودية التي تخلى عنها، وذلك على عادة الكثيرين من المشهورين وخاصة من ذوي الأصول اليهودية. ولم يشارك في أي شيء له صلة بحقوق الإنسان أو حمايته. كان يكره الشيوعية كرهاً عميقاً ولا يبحث إلا عن دمارها.


مات عام 1957 ولمّا يتجاوز الرابعة والخمسين، كان ذلك على الأغلب بتأثير المواد المشعة التي نفذت إلى جسمه أثناء مشاركته في التجارب النووية الأمريكية. وهو اليوم منسي تماماً، على عكس آينشتاين مثلاً (الذي لم يرتبط به بعلاقة طيبة مع أنهما كانا يعملان في الجامعة نفسها) ... وهو يذكّرنا بقول مفكر فرنسي من القرن السادس عشر، فرانسوا رابليه: "العلم بلا ضمير دمار للروح".

السبت، 18 فبراير 2017

التلوث الذي بلغ أعمق الأعماق

إن الكوارث التي ستنجم عن الدمار البيئي الذي يسببه استهتارالإنسان ستكون مشكلة الحياة الأكبر على الأرض في العقود القادمة. فليس فقط تلوث الهواء، والماء، وارتفاع درجة حرارة الجو بسبب الغلاف الجوي المغلق الذي يحبس الحرارة... وقطع الأشجار والإساءة إلى التربة وأشياء كثيرة أخرى. ولكن المسألة طالت كل بقع الأرض من يابسة ومياه وأعماق بحار ومحيطات.

البعض قد يظن أن المسألة لا تزال محدودة الأثر، وأن هناك الكثير من المبالغة فيما يقال عن التغيير البيئي. ولكن هذا غير صحيح أبداً. فالآثار أكثر من واضحة. فكثير من مناطق الأرض تشهد تغيرات مناخية واضحة وغير مسبوقة. والتصحّر واضح في العديد من مناطق العالم. كما أن التلوث لم يترك مكاناً في هذا العالم دون أن يمسه.
مخلفات في المحيط

وفي الواقع فقد قام فريق من الباحثين من جامعو نيوكاسل في السنوات الماضية بتحليل عينات جلبتها غواصات صغيرة غير مأهولة يمكن أن تذهب بعيداً في أعماق البحار. من مناطق يبلغ عمقها عشرة آلاف متر، ومن مناطق جد متباعدة في المحيط الأطلسي. ووجدوا أن هذه العينات تتضمن مستويات عالية من ملوثات عضوية من صناعة إنسانية، مثل تلك المستخدمة في العوازل الكهربائية أو مواد الاشتعال. وهذه النتيجة لم تكن نتيجة عمل فترة قصيرة وإنما استغرقهم ذلك سبع سنوات للتأكد والتوثق مما وصلوا إليه. ذلك أن ما وجدوه هو أمر يصعب تصديقه خاصة عند هذه الأعماق الكبيرة التي كان يظن أنها ستكون دائماً في مأمن من التأثير البشري. ولكن الحقيقة هي غير ذلك. والأهم من هذا هو أن مستوى التلوث عال ومماثل للتلوث الذي يعاني منه أي خليج من تلك الخلجان التي تزدحم حولها الصناعات.

ومن بين مصادر هذا التلوث مثلاً مواد مثل ثنائي الفينيل متعدد الكلور، الذي بدأ إنتاجه في ثلاثينيات القرن الماضي وأوقف في سبعينياته. إذ تسرب قسم من هذه المواد أو تم التخلص منها في المحيط الأطلسي ظناً بأن مياه المحيط ستفككه. ولكنها في الواقع لا تتأثر هذه المواد كثيراً بالتفكك الطبيعي ولها أن تستمر عقوداً وعقود. ويعتقد الباحثون أن هذه المواد وصلت إلى الأعماق السحيقة عن طريق قطع البلاستيك المتناثرة في المياه الحاملة لهذه المواد الكيمائية والتي لها إمكانية الحركة والتنقل في المياه عن طريق التيارات المائية لترسو بعده في الأعماق، وكذلك الأسماك التي تبتلع هذه المواد وتموت ثم تغرق إلى الأعماق ومن ثمن تتفسخ وتتغذى عليها رخويات الأعماق.

خطورة هذه المسألة هي أن البحار والمحيطات تعتبر أكبر الأوساط الإحيائية على الأرض، وهي إلى حد ما "بالوعة" نفايات الإنسان، ولكن هذا لا يعني أنها لن تصاب بالإشباع يوماً ما... وها قد وصلت آثار التلوث إلى أعمق الأعماق ... ولا تزال البشرية شبه غافلة عن ذلك ... فمتى يستفيق الناس من غفلتهم!

الجمعة، 17 فبراير 2017

الكلام... كيف ومتى

الكلام هو اللغة التي تحمل مضامين خاصة بالإنسان. يتميّز عن الصراخ أو التنبيه أو الأنين وما شابه من أصوات. والكلام المنطوق يحمل إشارات صوتية مسموعة ومقاطع تشكل كلمات تقابل رموزاً محددة. يختص الكلام بنقل الأفكار والمشاعر والآلام والآمال والحاجات الخاصة بالمتكلم. وللكلام أن يكون حاملاً لملاحظات ذاتية أو موضوعية عن الوقائع تسمح بالتعبير عن معرفة منتجة أو عن تغير واقع في الوسط المحيط أو العالم. كما للكلام في لغة ما أن يسمح بالتجريد وبالتذكر.

ولكن متى بدأ الكلام؟ من المعروف أن الكلام يحتاج إلى ثلاثة عناصر: هواء الرئة، والحبال الصوتية والتجويف الفموي مع اللسان والشفتين لإنتاج حروف وأصوات تسمح بتشكيل الكلام. وهذا النظام يقع بالكامل تحت تأثير الدماغ الذي يتحكم وضوحاً بحركة التجويف الفموي واللسان والشفاه لإخراج الأصوات. 

ربط الباحثون منذ فترة طويلة إنتاج الكلام بتطور وضع وموقع الحنجرة أو الحلق في النظام الصوتي، وسادت تلك القناعة زمناً طويلاً. وبحسبهم فإن هذا الوضع يمكن أن يُعزى إلى انتصاب الإنسان على قدميه، مما أدى إلى انخفاض الحلق قليلاً نحو الأسفل بما سمح بالكلام. وهذا أمر يعود إلى أكثر من مليون سنة. ولكن الكلام لغة يعود إلى قرابة 100 ألف عام كما يشهد على ذلك تناقل الثقافة (الخاصة بإنتاج الأدوات مثلاً) التي تحتاج إلى لغة وكلام.

كان داروين يقول بأن الكائنات الأخرى المشابهة للإنسان، القردة بأنواعها، لا يمكنها الكلام، لأن ليس لها دماغاً كافياً لإنتاج كلام بما يكفي لإنشاء لغة بسبب عدم كفاية ذاكرتها. وهو أمر يبدو أكثر صحة. فقد بينت دراسات كثيرة جرت مؤخراً إمكانية القردة الكبيرة على إنتاج أصوات تقابل الأحرف الصوتية في اللغات المحكية - على الرغم من الاعتقاد بأن مكان الحلق هو العامل المؤثر. ولكن يبدو أنه ليس لدماغ هذه القردة القدرة على التحكم بالحلق لإنتاج كلام يمكن تميزه. 

إذن ليس مكان الحلق هو الأهم. وعليه فإن الإنسان كان دائماً قادراً على إنتاج أصوات يمكن تطويرها لتصبح كلاماً. وهو أمر أثبتته دراسات عديدة أجريت على القردة الكبيرة. لذا فإن باحثين آخرين يوصون بالتوقف عن البحث والتنقيب في المستحاثات عن تطور مكان الحلق في النظام الصوتي، وإنما يجب تركيز البحث عن تطور مورّث (اسمه FOXP2 ) مسؤول عن النطق والكلام، وعن الفترة التي تطور عندها. 

وعليه فلا نعرف حتى اليوم متى بدأ الإنسان الكلام بالضبط. كل ما يمكن تأكيده هو أنه وجدت لغة ما بحدود مائة ألف عام خلت. لغة لها القدرة على نقل الأفكار وليس مجرد كلمات متناثرة. وأول الكلمات التي صاغها الإنسان كانت خاصة بالأمكنة والأسماء كما توحي بذلك اللغات القديمة التي لا تزال حيّة، وهي كلمات بدائية لم تتطور، أو مستحاثات باقية في اللغات حتى اليوم.



الأربعاء، 15 فبراير 2017

الموت الرقمي... والوصية الرقمية!

تطرح تقانة المعلومات والاتصالات اليوم تساؤلات لا نعرف كيفية الإجابة عليها تماماً. فمثلاً، ما الذي سيحدث لكل إرثنا الرقمي الذي نملكه على الإنترنت بعد وفاتنا؟ ففي العادة يترك المرء وصية يحدد فيها ما ستؤول إليه تركته المتمثلة في أملاك عينية أو أدبية أو ما شابه. ولكن كيف سيكون الحال عليه مع تركتنا الرقمية، من صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي، أو مواقع شخصية على الإنترنت على شكل مدونة أو موقع عادي بكل ما يترتب منها وعليها من عائدات أو التزامات مالية؟ وكذلك تركتنا من ملفات سواء على أدوات التخزين العادية أو في فضاءات التخزين المختلفة، فإلى من ستؤول؟

بعض المواقع أو الصفحات قد يكون لها عائد مادي، وبعضها الآخر قد يترتب عليها التزامات مادية. فإلى من سيؤول ذلك، وكم سيطول؟ ومن له حق التصرف بالمخزون الرقمي لشخص ما، والذي قد يتضمن بعضها إبداعات شخصية قيّمة لم تنشر بعد، فكيف يمكن استرجاعها إذا كانت مخزونة في بنوك تخزين لا يعرف الورثة الحقيقيون كلمة السر للوصول إليها، فكيف العمل؟

البعض يقترح إنشاء مقبرة رقمية مع إمكانية إدارة معطياتها بما يضمن حرمة الأموات من معلومات جد خاصة، ولكن هناك من يعترض على ذلك بالقول إن للموجودات على الإنترنت خاصية الأبدية، فلما التفكير في المقابر! فمن مات تاركاً أثراً على الإنترنت فإنما ترك هوية رقمية عنه تعيش بعد موته، وهي مسجلة على محركات البحث تعود للظهور كلما طلب منها ذلك.

كما أن الناس يطالبون في حق الخصوصية الرقمية في حياتهم، فمن الحري أن يكون لهم الحق بذلك بعد موتهم. ولكن السؤال يبقى بخصوص ورثة المتوفي وحقهم في حذف ممتلكاته الرقمية أو الإبقاء عليها باعتبارها جزءاً من تركته على أية حال. ولكن حق النفاذ إلى الملفات الشخصية، أياً كانت، هو حق شخصي تماماً ولا تعالج القوانين حق الإرث في هذه الحالة في أي من دول العالم، ومن ثم فلا يمكن تعديل أو مسح هذا الإرث من قبل الورثة الذين قد يودون ذلك لأسبابهم الخاصة بهم. ومن الضروري تحديد الظروف التي يمكن فيها إمكانية الورثة القانونيين استرجاع الإرث الرقمي للمتوفي، وتحديد مثلاً كيفية العمل إذا كان أحد الورثة يريد الإبقاء على هذا الإرث متاحاً على الإنترنت في حين أن آخر يريد حذفه.

بعض من المواقع أو التطبيقات الشهيرة مثل غوغل وفيسبوك اتخذت بعض الإجراءات التي تسمح بمعالجة مسألة الإرث الرقمي مع الحفاظ على خصوصية المتوفي أحياناً. ففيسبوك يتيح تحديد الوريث الرقمي الذي بإمكانه أن ينعى المتوفي على صفحته ويقوم ببعض التحديثات على الصفحة وإضافة أو حذف صور، ولكن لا يمكنه قراءة الرسائل التي كتبها أو تلقاها المتوفي. كما يمكن إعداد الصفحة بحيث تحذف حال الإشعار بالوفاة. أما غوغل فيتح إمكانية إدارة الممتلكات الرقمية لديه من قبل عدد من الأشخاص (عشرة على الأكثر) في حال عدم الدخول إلى أي من هذه الممتلكات خلال فترت يحددها المالك (بضعة أشهر مثلاً).

وفي غير ذلك، فكيف ستكون التعزية الرقمية وأين ستقام؟ ... ويبقى أن الخلود "رقمياً" هو أمر متاح بفضل هذه التقانة!