بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 31 يناير 2018

الحركة القومية العربية خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها... د. خيرية قاسمية

فيما يلي المحاضرة العاشرة في التاريخ العربي الحديث للدكتورة المرحومة خيرية قاسمية وهي بعنوان "الحركة القومية العربية خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها". 
كما يمكن الاستماع إلى المحاضرات السابقة على هذا الرابط.



الثلاثاء، 30 يناير 2018

حاسة الشمّ ... الحاسة الثانوية!

بالرغم من أهمية حاسة الشمّ فإنها الحاسة التي لا تثير الانتباه إلا نادراً بين الحواس الخمس: السمع والبصر واللمس والتذوق والشمّ. وضعفها أو غيابها لا يثيران الاهتمام بقدر غياب حاسة السمع أو البصر. وهي تتساوى ربما مع حاستي اللمس والتذوق، وإن كانت تبدو ظاهرياً أقل استعمالاً من هاتين الحاستين بالرغم من ملازمتها لعملية التنفس. يمكن لهذه الحاسة أن تكون بديلاً عن السمع والبصر أحياناً، فبعض الحيوانات تستعملها في تتبع فرائسهاً ليلاً، كما أن الإنسان يسير "خلف الرائحة" كما يقال.

للسمع والبصر أجهزة طبية تساعد على مقاومة أثر ضعفهما، وهو ما لا يتوفر لباقي الحواس. السبب هو أن الحواس الثلاثة هذه تكون عبر العصبونات مباشرة بدون وسيط كما هو الحال في السمع والبصر. وفي المجتمعات الصناعية يمكن الحصول على تعويض مالي عن تأثر حاستي السمع أو البصر نتيجة للعمل الذي نمارسه، أما تعرض حاسة الشم للإصابة فلا تعويض مالي له بالرغم من أن إصابتها ممكنة تماماً خاصة عند العاملين في الصناعات الكيمائية، وهي صناعة كبيرة جداً. السبب في ذلك هو أن القوانين السارية حتى اليوم لا تشير إلى أن فقدان حاسة الرائحة يؤثر في الحياة اليومية للإنسان.

مسارات حركة الجزيئات الحاملة للرائحة مع الظهارة الشمية باللون الأحمر
يكون الشم عن طريق تحسس محتويات الهواء التي تنتقل عبر الأنف إلى الظهارة (epithelium) الشميّة الواقعة في التجويف خلف الأنف وعلى مستوى العينين تقريباً. وهذه الظهارة مؤلفة من ملايين العصبونات التي تتأثر بالجزيئات التي يحملها الهواء المرشّح عبر الأنف، أو الجزيئات المتصاعدة إليها (الظهارة) من مؤخرة التجويف الفموي بنوع من التغذية الخلفية، أي أن بعض الرائحة تنتقل عن طريق الفم. وعبر هذه الظهارة تنتقل سيلانات عصبية إلى الجزء الخاص بالشم من الدماغ الذي سيقوم بالتعرف على هذه الرائحة ويحتفظ بأثرها إن كانت جديدة أو يجعلنا نتذكرها إن كان قد عرفها سابقاً. 

وهذا الجزء من الدماغ (الموجود في أسفل الجزء الجبهي من الدماغ) له القدرة على تذكر الروائح وإصدار الأوامر، من نمط إغلاق الأنف أو استنشاق الهواء مديداً بحسب نوع الرائحة من كريهة أو محببة، وتحريض المشاعر، من نمط الإقبال على الطعام أو الإحجام بحسب نوع الرائحة وقبولها أو رفضها، وكل ما يعقب من أفعال تتعلق بالرائحة. خلايا عصبونات الظهارة من أقل الخلايا تبدلاً، وقد لا تتبدل على الإطلاق. وإصابتها يصعب علاجها وقد يستحيل.

يتعرف الناس إلى بعضهم عن طريق الرائحة، وإن كان بدرجات متفاوتة، ومن المؤكد أن الأطفال يتعرفون على رائحة أمهاتهم دون غيرهن. فمن بين مجموعة من السترات الصوفية يمكن للطفل أن يجد سترة أمه ليلتحفها ويتدثر بها. وهذه المعرفة تبدأ من اليوم الثالث للولادة، وهي أولى الحواس نمواً لدى الأطفال يتعرف بواسطتها إلى الحليب، حليب أمه أو الحليب الاصطناعي، ويظهر حركات تفيد بذلك وضوحاً. وهذا أمر أكدته أبحاث قاطعة في هذا الخصوص.

وذاكرة الروائح ذاكرة يمكن تنميتها والاستفادة منها. وهي ككل الذواكر، تتعرض للنسيان والتآكل. فبعض أصحاب "الأنوف الطويلة" المختصين في التعرف إلى روائح العطور، (وهم أناس في الأعم الأغلب من أهل الأرياف، أي أنهم أناس لم تتعرض حاستهم الشمية للمخرشات) لهم القدرة على تمييز مئات الروائح أو العطور. لبعضهم قدرة تمييز تصل إلى 2500 رائحة. وللبعض منهم القدرة على تمييز مكونات بعض العطور، دون تحديد النسب، تصل إلى تحديد أكثر من خمسين مكوناً من مكونات عطر ما. وهذه القدرة تكتسب بالتمرين، وهي تخبو مع التوقف عن الاستعمال. فأصحاب الأنوف الطويلة هؤلاء يحتاجون إلى أكثر من شهر لاستعادة إمكاناتهم العادية على الشم بعد عودتهم من العطلة الصيفية مثلاً.


وحول كل من الحواس ظهرت صناعة أو صناعات. فالنظر مثلاً كل ما يشغل النظر من سينما وتلفاز ومسرح وسياحة يتمتع عبرها النظر بأكثر من غيره من الحواس، هذا طبعاً غير صناعة القراءة وغيرها الكثير. وكذلك الصوت والغناء والموسيقا ومعظم مترافقات النظر. والطعام صناعة لحاسة التذوق والعطور والبخور والهواء العليل صناعة للشم. أما حاسة اللمس فلا صناعة خاصة بها لوحدها، فيما نعرف!


الاثنين، 29 يناير 2018

الغناء أم الرياضيات!

تركت كاترين براسلافسكي العمل البحثي في الرياضيات وانصرفت للغناء، الغناء المتوسطي التقليدي الديني، وأصبحت مغنية معروفة عالمياً باعتبارها مغنية وملحنة، يعترف مستمعوها بشعورهم بالراحة والصفاء. وهي تقول بأن الغناء يلامس كل جزيئاتنا وأنه يلامس المشاعر والعواطف، وأن الاهتزازات الناجمة عن الغناء تساهم في جعلنا أكثر تناغماً مع أنفسنا، وفي شعورنا بأن نكون كلاً واحداً عبر رسالة يحملها الغناء. الغناء هو أن نسمع النفس تناجي حالها فرحاً أو حزناً، أو دفعاً لحزن أو تعبيراً عن فرح. بدأت كاترين تعلم الغناء وهي في السادسة والعشرين من العمر، وهي تقول بأن للجميع إمكانية تعلم الغناء الموزون بشرط الاستماع إلى الصوت الداخلي الخافت، هذا الصوت الذي يعتمل بنا صباحاً على شكل دمدمة بلحن صغير في الرأس. وهي تقول إن "ما يهم في الغناء بأكثر من "جمال" الصوت هو علاقته بالعاطفة التي نعيشها". (يمكن سماعها عبر هذا الرابط).

ولكن الناس كلها بلا استثناء تغني في لحظة ما، فلماذا نغني؟ يقول أحد العاملين في مجال علم النفس بأن الغناء يقطع أو يوقف التفكير ويجعلنا نسترسل لعواطفنا. وهو أمر مريح جداً إذا كنا في حالة حزن، ودافق إذا كنا في حالة فرح. وأنه يوقف المخاوف إذا كنا في حالة قلق. إنه تعبير عما نحن فيه بكل بساطة. إنه ضماد للعواطف والمشاعر. البشر كلهم يغنون في كل أصقاع الأرض باختلاف لغاتهم. والصوت الناشئ عن الغناء يصيب الجسم كله بنوع من الاهتزازات الخفيفة المؤثرة. كما أن للغناء أن يكون بصوت مرتفع أو منخفض لا يسمعه إلا صاحبه أو يكون داخلياً يترافق بتحريك أطراف أو أصابع أو لا شيء. وهو إحدى أبلغ وسائط التواصل، وفي معظمه تواصل مع النفس، كما يعبّر عن ذلك غناء الأمّ الحزينة والغناء الديني.

ومن المعروف فائدة الغناء لدى النساء الحوامل، فغير أنه يساعدهن على ولادة أسهل نتيجة التعود على التنفس المنتظم المديد، فهو وسيلة تخاطب مع الجنين تنتقل عبره اهتزازات صوت الأم إلى الجنين بكل ما فيها من فرح أو تأثر.  ولدى عامة الناس فهو يخفف من أثر العواطف الجارحة والمخاوف ويهدئها كما أنه يمكّن من ترك النفس تستمتع باللحظة الراهنة بإيقافه للهواجس وهو يجلب السرور ويرافقه. وربما يفسر هذا لما تغني الناس أثناء الاستحمام، وهو أمر تشترك فيه كل ثقافات الأرض.

والغناء الغناء يحتاج إلى تدريب، ولكنه تدريب يسير ومتاح لكل الناس. والغناء الجماعي هو الأبسط ولا يحتاج إلى أي تدريب خاص أو صوت مميز.. وهو مريح يماثل أثره أثر الرياضة الجسدية. فبعد ساعة غناء يمكن أن نشعر بالتعب، التعب الجسدي. فالغناء يحرك العضلات من البطن إلى الفم ويضبط إيقاع التنفس من الرئتين مع عضلات الصدر. ولمن يريد النوم براحة وعمق أن يغني بعض الوقت، أو سماع غناء هادئ ... كما هو حال الأطفال الذين ينامون على صوت غناء أمهاتهم...

الغناء عرفه الإنسان منذ القدم، وهو قبل الآلات الموسيقية، واستخدم كثيراً في التراتيل الدينية كما تشير إلى ذلك أولى الوثائق التاريخية. وهو اليوم صناعة كبيرة جداً لها نجومها وروادها الكثر. ...لنا جميعاً أن نغني ونسعد بغنائنا، لكن ليس لنا جميعاً أن نسعد بالرياضيات... ونحن نعرف الكثيرين من مشاهير المغنين ولا نعرف عموماً أياً من مشاهير الرياضيات! ولما لا، فالناس يتذوقون الغناء في غالبيتهم الغالبة، ولكن قلة قليلة للغاية تتذوق الرياضيات.


الأحد، 28 يناير 2018

أسباب الضعف العثماني: عسكرية وسياسية واقتصادية (11)... عبد الكريم رافق



فيما يلي المحاضرة الحادية عشرة للدكتور عبد الكريم رافق في تاريخ الحكم العثماني للأقطار العربية وهي بعنوان:
أسباب الضعف العثماني: عسكرية وسياسية واقتصادية

للاستماع لباقي المحاضرات يمكن العودة إلى هذا الرابط.




السبت، 27 يناير 2018

حق الملكية الفكرية

بمعنى أن يكون للأفراد من أصحاب الأعمال الفكرية، مثل الكتّاب والشعراء والفنانين عموماً والمخترعين والمكتشفين ومطوري النظريات ومطوري التكنولوجيات ومن كان في حكمهم، حق امتلاك إنتاجهم الفكري. وهذا الحق يمكن تثبيته إما في براءة (اختراع أو اكتشاف..) أو وثيقة من مؤسسة (جامعة، مركز أبحاث...) تشهد وتثبت هذا الحق. كما يمكن تثبيت هذا الحق بوضع اسم صاحبه على منتجه، كما هو الحال في حالة الأشياء المكتوبة أو الفنية المصنوعة. وحماية هذه الحقوق تخضع لقوانين تختلف من بلد إلى آخر، من حيث التفصيل والمدى (خاص أو عام، على المستوى الوطني أو العالمي...) والمدة والتطبيق وآليات المراقبة والتنفيذ.

لهذه المسألة أهمية خاصة في الحقبة الحالية، وهي حقبة تتميز بثراء الأفكار والتجديد والتطوير في كل المجالات بلا استثناء. ولمثل هذه الأفكار أن تترجم "بأشياء" ذات ثمن، معنوي أو مادي. لذا كانت ضرورة الاعتراف بهذه الملكية وحمايتها. وتتضمن هذه الحماية الحماية المعنوية التي تمتد إلى أكثر مما هو ممتلكي مادي، فاسم الشخص سيبقى مرتبطاً به مدى الدهر، وهو حق لا يورث، وحتى جانبه المادي لا يورّث إلى ما لا نهاية ولا يؤدي إلى فائدة مادية للورثة إلى ما لا نهاية (يحدد ذلك بنحو سبعين عاماً للورثة بعد وفاة الشخص صاحب الحق المباشر). وما يُحمى هو المنتج النهائي وشكله، أما الأفكار والمعلومات التي قادت إليه فهي غير محمية ومتاحة للجميع. لذا من الممكن تلخيص عمل مكتوب أو الاستعارة (مع الإشارة إلى الأصل بالطبع) دون أن يعتبر في ذلك انتهاكاً للحق.


أول حماية معروفة في التاريخ للملكية الفكرية نجدها في مستعمرة "سيباريس" اليونانية التي كانت تقع في جنوب إيطاليا والتي اشتهر أهلها بميلهم للدعة والطعام. لذا صاغوا قانوناً يقول بأن لكل من يبتكر طبقاً جديداً من الطعام الحق في أن يكون الوحيد الذي يعد هذا الطبق ويقدمه في المطاعم لمدة سنة كاملة، بعدها يحق لمن شاء استخدام الوصفة الجديدة. كان الهدف من ذلك تشجيع الطهاة أو من شابههم على ابتكار أطباق جديدة. أما في التاريخ الحديث فلم توضع قوانين لحماية الملكية الفكرية والاعتراف بها إلا بعد انتشار الطباعة والكتب منذ القرن السادس عشر، وتعزز الأمر مع انتشار الليبرالية والثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا. أما أول براءة اختراع فكانت في مدينة البندقية عام 1421 منحت للمهندس المعماري الإيطالي فيلبو برونيلتشي عن اختراع في مجال تصنيع منتجات معدة لتنقل بالبحر. ولكن حق الاستفادة من براءة الاختراع لم يصدر إلا عام 1474 وكان ذلك في مدينة البندقية أيضاً.

أما اليوم فتوجد مكاتب لحماية الحقوق الفكرية في معظم بلدان العالم. كما يوجد منظمة عالمية أنشئت عام 1967 ومقرها جنيف، هي المنظمة العالمية للملكية الفكرية wipo تتبع الأمم المتحدة مهمتها الأساسية تشجيع الإبداع والتنمية الاقتصادية عبر دعم نظام تعاون عالمي للملكية الفكرية. فالاعتراف بالملكية الفكرية وحمايتها يشجع المبدعين على الكشف عن أفكارهم وإبداعاتهم بدون خوف من أن تسلب منهم، كما تشجعهم على متابعة تطوير أفكارهم وإنتاج أفكار أخرى. ومثل هذه الحماية وهذا الحق يعتبر من أهم مقومات التقدم حالياً في العالم، وأشهر مثال على ذلك الولايات المتحدة المعروفة بقبولها تسجيل أدنى الأفكار وحمايتها عبر نظام قضائي فعال، وكذلك الأمر في اليابان، وهذا يفسر جزئياً تطور هذين البلدين المستمر.


الجمعة، 26 يناير 2018

بدأ الإغريق الفلسفة... لماذا؟


سادت التاريخ الأول حضارتان بارزتان هما الحضارة السومرية أو حضارة ما بين النهرين، والحضارة الفرعونية. وكان لكل منهما إنجازات كبيرة في ميادين مختلفة. فكلتا الحضارتان اشتهرتا بالهندسة الطبوغرافية لضرورة تحديد الأراضي الزراعية التي كانت تطمس حدودها أوقات الفيضانات، فيضانات النيل أو الفرات. وكلتا الحضارتان قدمتا معارف في الفلك، لأسباب دينية أو للعرافة والخرافة أو لتحديد المواقع على الأرض حيث لا دليل إلا النجوم. وكلتا الحضارتان اشتهرتا بهندسة البناء، من بابل وماري ونينوى والأقصر والأهرامات، وإن كانت إنجازات حضارة الفراعنة في البناء أكثر إبهاراً وإتقاناً وهي باقية حتى اليوم تثير إعجاب البشر. وهذا البناء كان يتطلب معرفة في الهندسة، هندسة البناء والهندسة الرياضياتية. ومن الواضح أن معارفهم في هذا المجال الأخير كانت جمّة، وهناك اتفاق بين مؤرخي العلم على أن نظرية تالس في تناسب أضلاع المثلثات المتشابهة كانت معروفة للفراعنة قبل تالس بأكثر من ألف سنة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرية فيثاغورث في المثلث القائم الزاوية فكانت معروفة لدى شعوب ما بين النهرين بألف سنة قبل معرفة فيثاغورث بها. وكلتا الحضارتان عرفت التداوي وبعض الجراحة كما يشهد على ذلك التحنيط لدى الفراعنة ومعارف التخمر والتداوي بالأعشاب لحضارة ما بين النهرين. وكلتا الحضارتان عرفتا الكتابة وكان لكل منهما أبجدية خاصة بها، ومن أبجدية بلاد ما بين النهرين عرف العالم الأبجدية بشكلها الحالي. وغير ذلك الكثير.

وفي اليونان بدأت حضارة إغريقية بعد ألفي سنة من حضارتي الفراعنة وما بين النهرين. استفاد ت بالتأكيد من حضارتي الفراعنة وما بين النهرين ومن غيرهما من حضارات الهند والصين. ولكن عند الحديث عن العلم والفلسفة فينسب ذلك إلى الإغريق دون الآخرين، فلما حصل ذلك؟


وفي الواقع فإن الحضارات السابقة للحضارة الإغريقية كانت تنتج معارف ومهارات دون أن تهتم بسؤال: لماذا؟ لماذا تكون النظرية المنسوبة إلى تالس صحيحة؟ وكيف يمكن التأكد من صحتها، أي برهانها؟ والحال نفسه بالنسبة لنظرية فيثاغورث: كيف لنا أن نقبل صحة هذه النظرية بدون برهنة صحتها، لذا علينا برهان ذلك. ومن هنا بدأ العلم وتم تحديد النهج العلمي. والإغريق هم أول من فعلوا ذلك. أما الفلسفة فبدأت مع السياسة. فقد كانت اليونان مجموعة من الدول-المدن. كل مدينة شبه مملكة مستقلة. وكل مدينة يحكمها أهلها بنظام تعاوني (ديمقراطي). إذ لم تكن لهذه المدن ما يكفي من القوة العسكرية لفرض نظام سياسي، أي أنها كانت إلى حد ما "مرغمة" على الديمقراطية. وهنا بدأت قضايا وأسئلة تدور حول العدل، فما هو العدل وكيف يكون العدل؟ وهو سؤال لا يزال قائماً لم تنته صلاحيته، وهو أحد أهم أسئلة الفلسفة السياسية. وكذلك كيف يكون الحكم الصالح والمواطن الصالح، وهذا ما قاد إلى أسئلة الأخلاق وتالياً إلى فلسفة الأخلاق.

كان التساؤل أهم ميزات الحضارة الإغريقية وانشغل مفكروها في البحث عن إجابات على تساؤلاتهم. فكيف وجدت المواد والمكونات والمخلوقات على الأرض؟ وهل من قانون يحكم ذلك؟ من أول من اشتغل في الفلسفة هو تالس، وهو أحد حكماء الإغريق السبعة، وكان له دور في السياسة، كما أنه من أول المجتهدين في السؤال عن كيفية الخلق والمحرك الأول للخلق، فقال بأن الماء هو أصل كل شيء حي، وأن الحياة تكون حيث الرطوبة. وهذه إجابة اعتبرها من جاء بعده ناقصة، إذ قال بضرورة الهواء، فلا حياة بلا هواء، واقترنت فكرة الهواء بالروح، فعند قطع الهواء عن أي حيّ يموت... وغير ذلك إلى أن وصلوا إلى نظرية المواد الأربع: الماء والهواء والنار والتراب، وهذا طبعاً لم يمنع فيلسوفاً مثل ديموقيرطس ليقول بالنظرية الذرية، وهو قول سفهه آخرون مثل أفلاطون وأرسطو. أي أن حرية الفكر كانت قائمة يمكن لأي كان أن يدلي بدلوه، ولكن عليه أن يكون عاقلاً متعقلاً حتى يمكن الاستماع إليه... تفاصيل القصة طويلة لكن فيما سبق أول العناصر...


وفي إجابة لأحد المختصين عن تفسير منطقي للموروث الإغريقي الفكري الهائل، أجاب: السبب أمران: لغة متطورة غنية بالمفردات والتعابير لا نزال ننهل منها (اليونانية القديمة)، وديمقراطية سياسية وحرية فكرية خلقتا مناخاً ينمو فيهما الفكر ويتطور ... ولم يتوقف ذلك إلا مع حكم العسكر!


الأربعاء، 24 يناير 2018

خصائص الحركة القومية العربية في الفترة ما بين الحربين العالميتين-3... الدكتورة خيرية قاسمية

فيما يلي المحاضرة التاسعة في التاريخ العربي الحديث للدكتورة المرحومة خيرية قاسمية وهي بعنوان "خصائص الحركة القومية العربية في الفترة ما بين الحربين العالميتين-3".
كما يمكن الاستماع إلى المحاضرات السابقة على هذا الرابط.


الثلاثاء، 23 يناير 2018

لافونتين...مجلس الجرذ

في الحي قط شرير
هاجم الجرذ وأذاقهم العسير.
فاختفت في جحورها
خوفاً من أن تدفن في قبورها.
وممن بقي منها حيّاً
عاش متلبساً متخفياً.
ولم يعد القط يجد ما يؤكل
فكان يمر ببيوت الناس، 
ليس كقط وإنما كإبليس.

وفي يوم ذهب بعيداً
يبحث عن زوجة، مصدراً
أصواتاً عمّت المكان مواءً.
فهرع الجرذان مجتمعين
لمناقشة الضرورة الراهنة.

قال عميدهم الحكيم
بوجوب وضع قلادة 
حول عنق الهر على وجه السرعة
وهكذا سنسمع خطواته قبل مهاجمتنا
فنختبئ في جحورنا
ولا طريقة غير ذلك لنا.
وافق الجمع رأي العميد؛
ففي ذلك خلاص سعيد مديد،
ولكن الصعوبة كانت في وضع القلادة.
قال أحدهم، لن أفعل، فلست بالأحمق؛
وقال آخر لن أقدر على ذلك فأنا أخرق.
وانفض الجمع.
لقد رأيت اجتماعات عديدة
عقدت بلا سبب ولا عقيدة،
ليست للجرذان فقط وإنما للرهبان،
والسادة الأعيان.

حيث التداول بعد التداول،
فالبلاط ممتلئ بالمستشارين

ولكن عند التنفيذ لن يبق أحد في الميادين.

الاثنين، 22 يناير 2018

طريق البخور

البخور الأبيض الأعلى جودة
هو طريق للتجارة مثله مثل طريق الحرير. نشط بين الألف الثالث قبل الميلاد ونهاية القرن الرابع الميلادي، دون أن يتوقف تماماً. وكما يشير اسمه فكان طريقاً لتجارة البخور الذي منشأه ظفار واليمن والصومال والهند. ومع تجارة البخور ترافقت تجارة التوابل وأنواع القماش الثمينة والحرير وخشب الأبنوس وغير ذلك. يمتد هذا الطريق من الهند إلى شواطئ الجزيرة العربية بموانئها المختلفة، ليصل بين مدنها الشرقية وشمالها وصولاً إلى بلاد ما بين النهرين. طريق آخر يمر من سبأ إلى مكة فالمدينة فالحجاز فالبتراء فدمشق ليتابع بعدها إلى اليونان وروما. وطريق آخر موازٍ من مرافئ اليمن مروراً بالبحر الأحمر فالإسكندرية ثم إلى الشواطئ الشمالية للبحر المتوسط.

موقع الجسر الذي اعتقد أنه بقايا إرم ذات العماد
وللحفاظ على هذا الطريق في جزئه البري، فقد أقيمت مدن صغيرة على شكل قلاع، منها قلعة في موقع أثري يسمى "جسر" إلى شمالي صلالة في عمان بقرب وادي غادون. وهو موقع اكتشفه باحث بريطاني في تسعينيات القرن الماضي بعد الاستعانة بصور التقطتها المركبة الفضائية الأمريكية كولومبيا عام 1984. وهذه القلعة بنيت في الواقع في مكان كان فيه بئر ماء جدرانه أحجار كلسية، انهار في وقت ما مما أدى إلى انهيار جزء من القلعة وتم التخلي عن الموقع والقلعة. تعود القلعة إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وأعيد استخدامها أيام الدولة الإسلامية حتى القرن الرابع عشر. بعض الناس سموا الموقع في الأيام الأولى لاكتشافه باسم "أوبار" وقالوا بأنه مكان "إرم ذات العماد"، المدينة ذات الألف عامود. ولكن لا شيء من هذا كما تشير إلى ذلك آخر رحلات الاستكشاف إلى تلك المنطقة. فبقرب هذا الموقع منطقة كانت تشتهر بأشجار البخور، وهي على الأغلب لحماية طريق البخور من قراصنة البر الذين كانوا يفرضون أتاوات كبيرة على هذه التجارة. وفي عام 1950 قام فريق أثار أمريكي بالتنقيب في موقع خور روري في منطقة صلالة أيضاً، حيث كانت مدينة وجد فيها على بقايا تشير إلى تجارة نشطة مع الهند تنطلق منها قوافل باتجاه بلاد المتوسط وذلك في فترة الميلاد.


تراجعت تجارة البخور مع الإمبراطورية الرومانية بسبب تعرض القوافل لهجمات القراصنة مما كان يؤدي إلى ارتفاع أسعاره. من جهة أخرى بدأ سكان إسبانيا بتطوير زراعة أعشاب تحل جزئياً محل الكثير من الأعشاب التي كانت تصلهم عبر طريق البخور، إضافة إلى أن تجارة القهوة لدى اليمنيين طغت على تجارة البخور. ولكن هذا لم يمنع من زراعة أشجار البخور وتجارته استمرت في مناطق اليمن وحضرموت، فقد عثر على موجودات كثيرة تعود إلى الفترة الإسلامية في منطقة ظفار تشير إلى استمرار تجارة البخور... البخور الذي كان ولا يزال يستخدم في المناسبات الدينية، وفي بعض المناطق في الأعراس والأفراح وكذلك مراسم الدفن...يستحصل عليه من أشجار البخور المتوسطة الارتفاع، يكون على شكل صمغ يخرج من شقوق تُصنع في الجزع، وهذا لا يكون قبل عشر سنوات من عمر الشجرة الذكر!

الأحد، 21 يناير 2018

فترة القوة العثمانية: بناء الأوابد الدينية (10)...عبد الكريم رافق

فيما يلي المحاضرة العاشرة للدكتور عبد الكريم رافق في تاريخ الحكم العثماني للأقطار العربية وهي بعنوان:
فترة القوة العثمانية: بناء الأوابد الدينية
للاستماع لباقي المحاضرات يمكن العودة إلى هذا الرابط.


السبت، 20 يناير 2018

الرواقية... فلسفة الفضيلة

بدأت القصة مع زينو القبرصي، ذي الأصول الفينيقية، ضاعت بضاعته بغرق سفينته بقرب شواطئ أثينا في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد . سار في شوارع أثينا تائهاً مفكراً بأحواله إلى أن انتهى الأمر به إلى مكتبة أثينا التي كانت تضمن كتابات أفلاطون وخاصة تلك المتعلقة بفلسفة سقراط، وكذلك كتابات أرسطو ومن جاء بعده. درسها وتأمل فيها طويلاً، ودرس الفلسفة على أيدي فلاسفة أثينا في تلك الفترة. واهتدى بنتيجة ذلك (301 ق.م) إلى أنه لا ضرورة لتغيير العالم والبحث عن المدينة الفاضلة وإنما الأفضل هو تغيير النفس عبر التحلي بفضائل يمكن اكتسابها مثل الصبر وضبط النفس والتعقل والتسامح. وأخذ يشرح ذلك ويدرّسه. وأما تسمية فلسفته هذه بالرواقية فإنما يعود إلى أن زينو هذا كان يلقي دروسه ويلتقي بأتباعه في ممرات واجهات القصور ذات الأعمدة، أي  في "الأروقة".

وكلمة "رواقي" تشير اليوم إلى من يتحلى بالهدوء في كل الظروف ولا يتأثر بضغوط الانفعالات. هذا فيما يتعلق بسلوك الرواقي. ولكن الرواقية تقول إن كل شيء يسير بحسب قاعدة السبب والأثر، وأن الأشياء مترابطة بشبكة عقلانية من الخيوط، وأن التأثير في أي من هذه الخطوط سينتشر في باقي أرجاء الشبكة، وأن الأشياء تسير بدون أن يكون لنا السيطرة على مجرياتها التي تؤثر فينا، ولكن يمكننا السيطرة على كيفية مقاربتنا لها. لذا فبدلاً من تخيل مجتمع مثالي فإن علينا التعامل مع الحياة بما هي عبر التحسين الذاتي للنفس والتحلي بالفضائل الأساسية الأربع:

الحكمة: بمعنى القدرة على محاكمة الحالات المعقدة عبر المعلومات الصحيحة والمنطق والهدوء.
تماسك الذات: بممارسة مقاومة النفس وضبطها والاعتدال بخصوص كل جوانب الحياة.
العدل: بمعنى التعامل مع الآخرين بإنصاف حتى لو كانوا على خطأ.
الشجاعة: ليس فقط في الحالات الاستثنائية ولكن أيضاً في مواجهة تحديات الحياة اليومية بصفاء ونزاهة.

والحياة بحد ذاتها هي شجاعة كما قال سينيكا، وهو أحد أشهر الرواقيين من الحقبة الرومانية. وعيش هذه الحياة يتطلب التأمل والعيش بتناغم مع الطبيعة بفضل التعقل، والوصول إلى حالة من "غياب المنغصات" بفضل الابتعاد عما هو شغفي وعاطفي وانفعالي. وهذا ما صاغه أهم الرواقيين الفيلسوف إبيكتيتوس بعبارة: "تحمّل وامتنع". وهو يقول أيضاً بأننا "لا نعاني من الأحداث نفسها في حياتنا ولكن من نظرتنا إليها وطريقة تفكيرنا بها". وهذا يتلاقى مع التحليل النفسي المعاصر. فنحن من نعطي المعنى للأشياء، في حين أنه يمكن للأشياء أن تتضمن كل المعاني. 

ولكن الرواقية ليست موقفاً من الذات، بل هي موقف من الحياة، أي اشتغال على الذات للوصول إلى حياة هانئة. لذلك يطالب الراواقيون بالتمسك بالقيم الأخلاقية باعتبارها طريقاً قويماً للحياة. ولهم في ذلك مواقف مشهورة. فقد قاوم الرواقيون الرومان قوانين العبودية الرومانية التي كانت تعتبر العبيد ملكية خاصة، وطالبوا بأن يعاملوا معاملة إنسانية وأكدوا على أن البشر لهم الإنسانية نفسها. أي أن الرواقية لم تكن فلسفة قائمة على انطواء الذات على نفسها بل كانت تطالب أتباعها بأن يكونوا أصحاب فعل وبأن لا يكونوا مجرد منفعلين. أي أن على الرواقي وفضائله التي اكتسبها أن يحدث تغيرات إيجابية لدى الآخرين. 

سادت الفلسفة الرواقية لعدة قرون في اليونان وروما، ولا يزال أثرها باق حتى اليوم. اعتنقها المفكر الديني توماس الأقويني في القرن الثالث عشر وخاصة لتركيزها على تنمية الفضيلة. وهي في الواقع تساعد على صفاء الذهن وتتلاقى في ذلك مع البوذية السابقة لها بقرنين من الزمن. وقبله اعتنقها الإمبراطور ماركوس إورليوس الذي دام حكمه نحو 19 عاماً (161-181 ب.م). قاد ماركوس الإمبراطورية الرومانية الكبيرة في فترة حاولت فيها قوى وجيوش كثيرة مهاجمتها، وجعل من فترة حكمه فترة "السلام الروماني"، ولم يدر في أيامه سوى معركتين. وفي مذكراته  (أفكار لي لوحدي)، جاء فيها أشياء كثيرة تقول بترابط الأشياء مع بعضها وبتأثيرها المتبادل، وإليه يرجع قول إن الحاضر هو الأهم وليس الماضي أو المستقبل، وهو قول جاء في مذكراته هذه التي كانت الكتاب المفضل لنلسون منديلا أثناء سجنه الذي دام 27 سنة. ومن المعروف أن منديلا شدد بعد استقلال بلده على السلام والمصالحة إيماناً منه بأن ظلم الماضي لا يمكن تغييره وأن على شعبه أن يواجه ظلم الحاضر لبناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً.

الجمعة، 19 يناير 2018

بعض ما في الكون الفسيح

الكون الذي بدأت قصته من نحو 13.8 مليار سنة، والذي بقي مظلماً نحو 380 ألف عام قبل أن يظهر الضوء، أو فجر الكون، عندما بدأت أولى الفوتونات في الحركة. بدأ الكون من نقطة متناهية في الصغير ومتناهية في الكثافة، ولم ينفك من يومها عن التمدد والتوسع متلألئاً بنجومه التي لا تعد ولا تحصى. والشمس والأرض وليدان متأخران نسبياً بنحو 9 مليارات سنة عن اللحظة الأولى، وهما الآن في منتصف العمر، أي أنهما لن يستمرا إلى ما لا نهاية. كما أن وجود الإنسان على الأرض لا يعود لأكثر من ثلاثة أو أربعة ملايين سنة، ومن الصعب تقدير متى ستكون نهاية المغامرة الإنسانية.

رسم لإحدى تصورات الإنسان الأولى عن الكون
وفي هذا المغامرة، بنى الإنسان تصورات عن الكون كان هو في مركز هذه التصورات، فتحدث عن السماء باعتبارها الشيء الأعلى وعن الأرض باعتبارها الشيء الأسفل، متخيلاً كل منهما على شكل سطح مستو، لا فوقهما ولا تحتهما. ولكنه اكتشف، دون أن يؤمن، بأن الأرض كروية منذ الألف الأولى قبل الميلاد، وانتهى بذلك الأسفل والأعلى من حيث الواقع، وإن كان التصور لا يزال معلقاً بهذا الأسفل وهذا الأعلى. ومع منظار غاليليو بدأت السماء (باعتبارها كياناً بذاتها) بالتراجع إلى أن اختفت تماماً مع منظار هوبل وأعمال هذا الفلكي الأمريكي الشهير.

مخطط ثلاثي الأبعاد للشمس وبعض النجوم من حولها. النجم الأقرب هو بروكسيما
ويبعد عنها نحو 4.3 سنة ضوئية
وبالرغم من تراجع فكرة مركزية الأرض واكتشاف أن الشمس هي المركز منذ القرن السادس عشر، إلا أن فكرة أن المجموعة الشمسية هي مركز الكون بقيت سائدة حتى عشرينيات القرن العشرين (1918) حين اكتشف الفلكي الأمريكي هارلو شابلي أن المجموعة الشمسية لا تقع في مركز مجرة درب التبانة ولكنها في منتصف المسافة بين المركز وطرف المجرة الخارجي، أي أنها بعيدة بنحو 25 ألف سنة ضوئية عن مركز المجرة بحسب القياسات الحالية. أي أننا نحتاج إلى 25 ألف سنة لنصل إلى مركز المجرة إذا انطلقنا بعربة فضائية تسير بسرعة الضوء (المسافة بين الأرض والشمس هي 0.000015 سنة ضوئية!!). وبذلك خسر الإنسان مرة ثانية ادعاءه بالتميز، فلا الأرض في مركز المجموعة الشمسية ولا المجموعة الشمسية في مركز المجرة. والمجموعة الشمسية تتحرك حول مركز المجرة مثلما تتحرك الأرض حول الشمس. وإذا كانت الأرض تحتاج لنحو 365 يوماً لتدور حول الشمس، فإن المجموعة الشمسية تحتاج إلى نحو 100 مليون سنة لتدور حول مركز المجرة. وأن الشمس هي ليست النجمة الوحيدة في هذه المجرة، إذ يوجد فيها على الأقل 100 مليار نجم. والشمس ليست من أكبر النجوم، فهناك من هو أكبر منها بمليون مرة وأكثر!

مجرة أندروميد في الأسفل وحولها بعض المجرات الصغير، ومجرتنا درب التبانة في الأعلى
 على مسافة مليوني سنة ضوئية
ولكن شابلي هذا كان يعتقد أن الكون مؤلف من مجرة واحدة فقط، وأن ما كان يراه بعيداً لم يكن بالنسبة له سوى سديم من غيوم كونية. ولكن هوبل بمنظار ذي عدسة، كبيرة (قطرها 2.5 متر)، تمكن من تحديد مجرة أخرى سميت أندروميد وهي بعيدة جداً عن مجرة درب التبانة ( مليونا سنة ضوئية) ولها حجم مماثل. تابع هوبل ومن جاء بعده اكتشاف أن الكون مؤلف من مليارات المجرات، بأشكالها المختلفة، من إهليليجية أو حلزونية أو عشوائية، وأن مسافات هائلة من الفراغ تفصل بينها عموماً. بنى هوبل منظاراً كبيراً (عدسة بقطر خمسة أمتار) ولكنه لم يتمكن من استخدامه، إذ توفي عام 1953. إلا أن وكالة الفضاء الأمريكية  (ناسا)، وبالتعاون مع وكالة الفضاء الأوربية،  بنت مركبة فضائية تدور حول الأرض على ارتفاع بقرابة 600 كم، محملة بمنظار فلكي، تحمل اسم هوبل. يقوم هذا المنظار بسبر الكون منذ عام 1991، وهو يشير إلى أن عدد المجرات هو نحو 140 مليار مجرة، وتمكن من رصد مجرات على بعد 13 مليار سنة ضوئية.


تكتلات المجرات والفراغات الهائلة في الفضاء
كما أن منظار هوبل الفضائي يؤكد أن الكون يتمدد بسرعة الضوء، وأن هذا التمدد مستمر حتى الآن، وربما له أن يعود إلى التقلص في فترة لاحقة. وفي كل الأحوال فإن هذا التمدد هو ما يؤكد على حدوث الانفجار الكبير في تاريخ سابق، وهذا ما أكده العثور على مستحاثات ضوئية تعود إلى فترات الكون الأولى. وهو أمر طبيعي، فالتمدد أو التوسع يعني بداية أولى، كما تعني نهاية ما، وذلك على عكس الكون الذي تصوره نيوتن، وحتى آينشتين في فترة ما، حيث الثبات بلا بداية ولا نهاية.... ومن بين نظريات الفلك الحالية هو أن الكون الذي نعيش فيه هو إنه كون من بين أكوان متداخلة فيما بينها على نمط الدمى الروسية، أو ربما متقاطعة فيما بينها ونحن لا نستطيع أن نرى منها إلا الكون الذي ننتمي إليه... لما لا، فعلي ما يبدو أن كوننا مؤلف في نحو 70% منه من مادة لا نراها سميّت بالمادة السوداء، وهي ضرورية لتماسك الكون... كما أن هناك أشياء سوداء أخرى، من الثقوب السوداء إلى الطاقة السوداء... وهي إنما سميت بالسوداء لأننا لا نعرف عنها الكثير، ولن تنجلي الأمور إلا حين تصبح بألوان أخرى.

الأربعاء، 17 يناير 2018

خصائص الحركة القومية العربية في الفترة ما بين الحربين العالميتين-2.. الدكتورة خيرية قاسمية

فيما يلي المحاضرة الثامنة في التاريخ العربي الحديث للدكتورة المرحومة خيرية قاسمية وهي بعنوان "خصائص الحركة القومية العربية في الفترة ما بين الحربين العالميتين-2".
كما يمكن الاستماع إلى المحاضرات السابقة على هذا الرابط.



الثلاثاء، 16 يناير 2018

بداية العرب والعربية

شالمانيسر الثالث والنص الذي يذكر فيه جندب العربي
أول شهادة واضحة لكلمة "عرب" نجدها منقوشة على حجر في منطقة الكرخ تعود للملك الآشوري شالمانيسر الثالث لعام 853 قبل الميلاد حيث نجد من بين الأسماء المشاركة في تحالف قاده هذا الملك: "مجنديبو  "كور-ار-با-آ"، والذي يعني "جندب من بلاد العرب". وتستعمل المصادر المسمارية مصطلح "عربي" (آ-ري-بي) لوصف الشعوب التي تعيش من بلاد ما بين النهرين شرقا إلى جبال لبنان الشرقية في الغرب، ومن شمال غرب شبه الجزيرة العربية إلى سيناء في الجنوب. تسجل الوثائق اليونانية والفارسية في وقت لاحق وجود العرب في مناطق الهلال الخصيب وشمال الجزيرة العربية أيضا، على الرغم من أنه من غير الواضح دائما تحديد المقصود بهذا المصطلح. ویمکن تأریخ نص واحد فقط باللغة العربیة يعود إلى ھذه الفترة. فقد تم اكتشاف نقش عربي شمالي غير مؤرخ يحتوي على صلاة لآلهة تعود إلى العصر الحديدي (الألف الأول قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي) في الضفة الغربية لنهر الأردن لما يبدو أن تكون اللغة العربية التي استعملت في جنوب الأردن الشرقي. ومع هذا النص يوجد نقش كنعاني. ولكن السياق يشير إلى أن هذا النص يعود إلى فترة منتصف أو أواخر العصر الحديدي الثاني، أي إلى ما بين القرن الخامس قبل الميلاد والثالث بعد الميلاد. وغير هذه الصلاة القصيرة، فإن العربية في الشرق الأدنى لم تعرف إلا عبر حفنة من أسماء الأشخاص والآلهة الموجودة في لغات أخرى.

تكثر الأدلة على اللغة العربية اعتباراً من القرن الثاني قبل الميلاد عبر النقوش النبطية. في حين أن النبطيين استخدموا شكلا من أشكال الآرامية الرسمية الأخمينية كلغة كتابة، فإن العديد من السمات تكشف عن طبقة تحتية عربية، خصوصاً في مجالات بناء الجملة والأسماء الشخصية. كما تكشف كتابات الجماعات التي كانت تقطن بين شمالي الجزيرة العربية وحوران عن أدلة كبيرة تخص المراحل الأولى من اللغة العربية. ومن المستحيل تحديد متى بدأت هذه الكتابات، ولكن يبدو أن مؤلفيها كانوا نشطين بشكل خاص في الفترات النبطية والرومانية (من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الرابع بعد الميلاد)، حيث تكثر نسبيا الإشارات إلى الأحداث السياسية التي تعود إلى تلك الفترة. ويمكن القول عموماً بأن اللغة العربية ظهرت في مراحلها الأولى بين شمالي الجزيرة العربية  وجنوب سوريا.
كتابة عربية تعود إلى فترة الغساسنة عام 523 ميلادي


في مرحلة ما، انتقلت العربية من الجنوب إلى شبه الجزيرة. فقد بدأ مصطلح "عرب" في الظهور في نقوش سبأ في اليمن القديم تقريبا بحول بداية العصر. في حين أن العديد من العلماء ساووا بين مصطلح "عرب" والمصطلح القرآني "عربان" للإشارة إلى البدو الرحّل. غير أنه لا توجد أدلة داخلية في النقوش السبئية لدعم هذه الفكرة. وعلاوة على ذلك، لا يوجد دليل على وجود لغة للـ "عرب". إذ لم يظهر أي نص في جنوب العربية يعود لفترة قبل الإسلام  بالرغم من وجود العديد من النقوش في الحدود الشمالية حيث تظهر ممزوجة مع لغة أخرى. وفي جنوب وسط الجزيرة العربية، في بلدة الفاو، وجدت كتابة موجزة مثيرة للاهتمام تظهر خليطاً من لغة سبأ وغيرها اعتقد أنها دليل على العربية القديمة، ولكن الدراسات اللغوية الحديثة تشير إلى أنه من الأكثر احتمالاً أنها نوع من الانتقال من اللغة المحلية لعرب الشمال إلى لغة سبأ، أو أن ذلك كان خلطاً مصطنعاً ليس إلا . عثر على نموذج آخر عن اللغة العربية القديمة في جنوب سوريا، ولكن تبين مؤخرا أنه شكل من أشكال الآرامية. لذا فإنه من غير الواضح متى حلت اللغة العربية محل لغات الرحل والواحات والبلدات في وسط وجنوب شبه الجزيرة العربية أو اللغات الكتابية لليمن القديم. وفيما يتعلق بهذا الأخير، فإن أعمال نحاة العربية تشير إلى أن اللغات العربية الجنوبية القديمة استمرت في الاستخدام والكتابة ربما حتى القرن التاسع الميلادي... وللحديث تتمة.

معظم محتوبات هذه الوراقة مأخوذة من مقال لأحمد الجلاد من جامعة لايدن:
The earliest stages of Arabic and its linguistic classification (Routledge Handbook
of Arabic Linguistics, forthcoming)

Ahmad Al-Jallad, Leiden University

الاثنين، 15 يناير 2018

متى بدأ العلم؟

لا جواب قاطع على هذا السؤال. إضافة إلى اختلاط بين معنى المعرفة ومعنى العلم. فالعلم هو معرفة يمكن برهانها. وهو برهان يستند إلى فرضيات ومفاهيم وتتابع منطقي في خطوات البرهان حتى اكتماله. وعليه أن يحوز على موافقة كل من يراجع البرهان.  ولكل امرئ اكتساب العلم بالعمل والدراسة والاجتهاد، كما يمكن لكل امرئ أيضاً أن يعمل في مجال العلم دون أن يقترن ذلك بالضرورة بإضافة جديدة. أما المعرفة فهي تخص مجالاً أوسع من العلم وليس لكل امرئ أن يصل إليها. فالعزف على آلة موسيقية هو معرفة، وليس لكل الناس إمكانية تعلم العزف وإجادته، وليس متاح لأي كان أن يصبح موسيقاراً، وكذلك الأمر في الألعاب الرياضية وغير ذلك.

وبهذا المعنى، فمتى بدأ العلم؟ لا شيء مؤرخ مكتوب يسمح بالإجابة. هل يمكن القول بأن البداية كانت مع فيثاغورث (القرن السادس قبل الميلاد) ونظريته في المثلث القائم الزاوية، التي تسمح بحساب طول ضلع أحد أضلاع المثلث إذا عرف الضلعان الآخران؟ لا يمكن قول ذلك. ففيثاغورث قال بهذه النظرية، وهي كانت معروفة لدى البابليين لعدة قرون قبله، وهو زار بابل وربما عرفها هناك ونقلها أو أن تلامذته (اصحاب المدرسة الفيثاغورثية) نسبوها إليه، وهو لم يبرهنها ولم يفعل البابليون أيضاً. ولكن من برهنها كان إقليدس المتوفى في القرن الثالث قبل الميلاد. فهل كانت البداية مع إقليدس؟ ولكن لو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا شخصاً مثل ديموقريطس الذي قال بأن المادة تتألف من ذرات atomos) كلمة تعني ما لا يمكن تقسيمه إلى ما هو أصغر منه). وبرهن على ذلك بالقول: لو أخذنا حجراً وكسرناه نصفين، فإن كل نصف هو حجر أيضاً، ثم أخذنا أحد النصفين، وكسرناه نصفين أيضاً، وتابعنا الأمر على هذا المنوال فإننا سنصل في لحظة ما إلى شيء من حجر لا يمكن كسره وهو ما أسماه بالذرة. وأن كل مادة تتألف من ذرات من النوع نفسه. ونشأت حول ذلك مدرسة سميت بمدرسة "الذريين". فهل كانت البداية هنا؟


يصعب قول ذلك لأن ديموقريطس أنهى برهانه بالتصور وبدون أن يقدم سبباً مقنعاً لعدم إمكانية متابعة التقسيم إلى ما لا نهاية، أو سبباً لحتمية وصولنا في النهاية إلى جسيم مشابه للمادة نفسها بدون أن يكون هذا المشابه مؤلفاً من مكونات أخرى أصغر منه وتختلف عن المادة التي نحن بصدد تقسيمها، كما هو الأمر في الجزيئات. ربما لم يكن بإمكان ديموقريطس وقتها الإجابة على أسئلة كثيرة من هذا النوع. كما أن فكرته لم تلق قبول معاصريه أو حتى من أتى بعده، إذا سخر منها أرسطو الذي كان يؤمن بأن الكون مؤلف من أربع مواد فقط هي: التراب والماء والهواء والنار. ولكن تبقى فكرة التقسيم المتتالي لمادة ما كأول محاولة للبرهان على فكرة. 

يبقى إذن إقليدس الأكثر ترجيحاً لأن يكون العلم قد بدأ معه من وجهة النظر المعاصرة. فلم يكن العلم معروفاً بالشكل الذي قدمنا له، وإنما كانت الفلسفة أولاً، وهي الكلمة التي كان فيثاغورث أول من استعملها فيما يقال، وهي كلمة تعني "محب الحكمة"، ولكن الحكمة لدى فيثاغورث كانت من صفات الآلهة، أما الناس فلم يكن لهم سوى "حب الحكمة". صحيح أن فيثاغورث كان واسع المعرفة، حكيم بصير، كما وصفه تلامذته، ولكنه كان أقرب إلى أن يكون رجل دين ومصلح منه إلى أي شيء آخر، لم يترك أي أثر مكتوب، لذا فإن نسب كلمة "فلسفة" إليه فيه الكثير من الشك. ومع إقليدس بدأ الانفصال عن الفلسفة مع كتابه "عناصر الرياضيات" الذي ضمّنه مسلمات وفرضيات وبراهين في الهندسة المستوية والمجسمات والحساب التي لا تزال تدرس حتى اليوم دون تغيير، اللهم إلا في الصياغة.

لم يعرف العلم تقدماً مضطرداً، ولكنه سار ضمن قفزات وفترات ركود. لكل فترة نموذجها السياقي الخاص بها. يقول البعض بأن العلم "الحديث" يعود إلى كوبرنيكوس، الراهب الذي قال بكروية الأرض وبلا مركزيتها وإنما بمركزية الشمس. ولكن هذا مخالف لتعريف العلم أعلاه، إذ لم يقدم كوبرنيكوس أي برهان، ولم تكن لديه اية معطيات تدفعه إلى القول بذلك سوى رغبته بكون متناغم متجانس وجميل. فكون الشمس هي المركز يجعل مسارات الكواكب حولها مسارات دائرية بسيطة جميلة متناغمة على نقيض نموذج بطليموس الذي تتداخل فيه المسارات ويضيع التناغم!... وأكثر من ذلك أن كوبرنيكوس لم ينشر كتابه إلا في أواخر أيام حياته، ربما لأنه لم يكن مقتنعاً جداً بصحة أفكاره التي احتاجت إلى براهين غاليليو وجرأة جيوردانو.