بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

بيئة...التوجه نحو الاستدامة

تمكن المهتمون بالبيئة من إحداِث نقلة نوعية في المفاهيم البيئية التي بنيت على أساسها الكثير من الآليات القانونية البيئية التي انبثقت منها مباشرة سياسات واستراتيجيات متطورة اقتصادية واجتماعية وذلك على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.

يقول البروفسور غاريت هاردن في مقاله بعنوان "مأساه المشاع" إن مصدر المشاكل البيئية هو النزاع بين" المصالح القصيرة الأمد للأفراد" مقابل مصالح الحفاظ على الحضارة والأرض نفسها". ويضيف هاردن، بما معناه، بأن الأفراد يسعون للحصول على الفوائد قصيرة الأمد من مناطق المشاع بأقصر فترة زمنية ممكنة. أما إذا وزعت مناطق المشاع على الأفراد، وبالتالي سيصبحون ملاكاً لهذه المناطق وبالتالي سيسعون الى تخطيط واستثمار هذه المناطق لأطول فترة ممكنة. يقصد بالمشاع (أو المشترك) في هذا السياق هي المناطق أو الموارد التي لايملكها أحد. يمكننا أن نطبق مفهوم المشاع إذا أردنا على الموارد الأرضية كالمياه والتربة والغابات والأحراج والمراعي والموارد البحريه كمناطق صيد الأسماك الخ.....

أظهرت الاحداث بأنه مهما كان النظام السياسي السائد في منطقة ما، أكان مبنياً على هيمنة الأفراد على الموارد أو مبنيا على هيمنة المؤسسات عليها فكلا النظامين أديا إلى تدهور حالة الموارد الطبيعة نوعاً وكماً نتيجة النظر إلى المصالح والفوائد قصيرة الأمد لمكونات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وكرد فعل على هذا التدهور، جاء مفهوم الاستدامه ليخلق تحولا منتظما في الوعي البيئي. فالاستدامة هي البحث عن الاستقرار البيئي والتقدم البشري الذي يمكن أن يستمر على المدى الطويل. ومن هنا جاء الشعار او المقولة "التنمية المستدامة تفي باحتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها".

يستند مفهوم الاستدامة إلى الأسس التالية:
-الاهتمام بالبيئة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية والعلاقات المتبادلة بينها
-العلاقة الوثيقة بين بقاء الإنسان ورفاهيته وصحة الموارد الطبيعة (موارد مائية نظيفة، وهواء نظيف، وغابات وتربة بحالة جيدة وتنوع بيولوجي ...)
-الإقرار بمحدودية النظم الآيكولوجيه والآثار الضارة عليها نتيجة تنفيذ الخطط التنموية غير المراقبة.
ومنذ اللحظه الأولى لإطلاق مفهوم الاستدامه في مؤتمر ريو ١٩٩٢، بدأ النزاع حول أدوات تطبيقه بين السياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والبيئة. وظهر الخلاف الأكبر بين الدول النامية التي تسعى الى تنفيذ خطط تنموية طموحة والدول المتقدمه التي ترغب بالاستفاده من مفهوم الاستدامة لتسخير مبدأ الحفاظ على الموارد الطبيعية لمصالحها السياسية والاقتصادية.

ففي هذا السياق حاولت الدول المتقدمه، وما زالت تحاول، التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة الحفاظ على الموارد الطبيعة للأرض ضاربة بعرض الحائط مبدأ السيادة الوطنية على الموارد. وفي المقابل فالدول النامية تطرح فكرة المسؤولية عن الضرر الذي ألحق بالموارد الطبيعة نتيجة خطط التنمية التي نفذتها الدول المتقدمة سابقا وتطالب بالتعويض عنه إضافة للسماح لها بتنفيذ خطط تنموية طموحة لدعم اقتصادها ونموها الاجتماعي. وما زال هذا النزاع قائما في المحافل الدولية والإقليمية.

المقال القادم بعنوان "التوجه نحو أهداف التنمية المستدامة".




-->

عماء الحركة... عماء البصير

أو العماء الناجم عن الحركة، الذي يقصد به الغياب البصري أو التهيؤ الإدراكي لجزء من صورة بسبب حركة أجزاء أخرى منها تحجب أجزاء ثابتة. وكما يبين ذلك البيان المرافق الذي يظهر فيه ثلاث دوائر برتقالية صغيرة وأخرى خضراء في مركز الصورة بحالة اختفاء وظهور مستمرة وشكل هندسي متحرك في خلفية الصورة. وعند التحديق في البقعة الخضراء لفترة يختلف طولها من شخص لآخر، ستختفي الدوائر البرتقالية جزئياً أو كلياً وقد تعود للظهور والاختفاء مرة ثانية!

هذه الظاهرة المحيرة لا تزال موضع جدل بخصوص تفسيرها. اكتشفت لأول مرة عام 1965 وأعيد التأكيد عليها في مطلع القرن الحالي. البعض يقول بأننا لا نزال نجهل الكثير عن أسرار النظر ومن ثم فلا يمكننا تقديم تفسير قاطع. البعض يقول بأن هذه دلالة قاطعة على "الوعي" الذي نجهد في تعريفه على نحو قاطع دون أن نصل إلى تعريف نهائي. فالدوائر البرتقالية موجودة ثابتة لم تختفي ولكن وعينا الذي انشغل بالحركة فأهمل الدوائر الثابتة لصالح الحركة. والبعض الآخر يقول بأنها نتيجة عدم اكتمال الدماغ الإنساني الذي لا يزال في حالة تطور لم تنته بعد. ويذهب البعض إلى القول بأنها نتيجة وراثية من أجداد الإنسان الحالي الذين امتهنوا الصيد على مر آلاف السنين، وهو الصيد الذي كان يبحث عن إهمال الثابت أمام المتحرك الذي يريد اصطياده.

ظاهرة أخرى مماثلة تعود إلى أكثر من قرنين من الزمن اكتشفها السويسري تروكسلر عام 1804 وتعرف باسم أثر تروكسلر أو "بهتان تروكسلر" الذي يقول بأن التحديق في شيء ثابت بعيد نسبياً عن محرض بصري متحرك سيجعل هذا المحرّض يختفي أو يتغير إلى مظهر آخر كما يمكنكم معاينة ذلك بالتحديق في الصليب في وسط الشكل المرافق.

وأيا ما كان فإن هذه الظواهر تتمثل أمامنا في كل يوم دون أن ننتبه إليها، فأشياء كثيرة تحدث على مرأى أعيننا ولا نراها لانشغالنا بأمر آخر، وفي كثير من الأحيان نرى أشياء أخرى مغايرة لتلك التي أمام أعيننا... وليس ذلك بالضرورة عن سابق إصرار وعمد!

الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

تواريخ هامة في علاقة الإنسان بالأرض وتطور الفكر البيئي


انطلق الفكر البيئي عندما أعلن عالم البيئة الأمريكي ألدو ليوبولد (١٨٨٧- ١٩٤٨) ما يسمى بأخلاقيات الأرض وفق المبادىء التالية:

- الترابط الإجمالي: أي إن البشر والأحياء، الحيوانية والنباتية، التي تتشارك العيش في منطقة واحدة تتفاعل مع بعضها البعض.
- احترام الارض ومكوناتها باعتبارها مورداً طبيعياً للإنسان.
- التحول من مفهوم المحتل الى مفهوم الانتماء للأرض.
- عدم اعتبارالموارد الأرضيه كسلعه تتأثر بحالات الأسواق.
- الحق بالمحافظة على تكامل وثبات وجمال الموارد الأرضيه.
ويقول ليوبولد"عندما نبدأ باعتبار الأرض مجتمعاً ننتمي اليه،عندها يمكننا أن نستثمرها  بحب واحترام"

تطورت الاهتمامات البيئيه خلال الفتره من العام ١٩٣٢-١٩٦٠ لتشمل: 
- قضايا متعلقة باستثمار واستعمال الموارد الطبيعية.
- المحافظه على الأراضي العامة.
- المبادرات المتعلقه بالصحه العامة.
- التأهيل البيئي.
- تدهور نوعية المياه في المدن بسبب التخلص الاعتباطي من المياه العادمة والصناعية وقطع الأشجار في الغابات.

وفي الفتره من العام ١٩٦٠-١٩٧٠، انطلقت أولى الجمعيات الأهليه البيئيه لحث القاده السياسيين للاهتمام بالبيئة والصحة. وأحدثت فروعاً للعلوم البيئية في الجامعات بهدف دراسة الظواهر المتعلقة بنمو السكان والاقتصاد واستثمار الموارد والتلوث.

وكان أول احتفال بيوم الأرض في٢٠ نيسان ١٩٧٠. ونظّم المؤتمر العالمي للبيئه في ستوكهولم عاصمة السويد عام ١٩٧٢ أدى الى:
- ازدياد الوعي العالمي بالقضايا البيئيه واتساع الاهتمام بعلاقه البيئة بالقطاعات المختلفة من اقتصادية وانمائية.
- إحداث "برنامج الأمم المتحده للبيئة" في الخامس من حزيران عام ١٩٧٢.
- اعتبار الخامس من حزيران سنويا "اليوم العالمي للبيئة".

من الملاحظ أنه من خلال هذه المراحل الزمنيه انتقل الاهتمام البيئي من الاهتمام المحلي الى العالمي، ومن القضايا البيئية الحادة الى القضايا المزمنة، ومن القضايا البيئية الآنية للإنسان الى قضاياه المستقبلية، ومن القضايا البيئية المنفصلة الى القضايا المتكاملة.

وتبدلت الأسس والمفاهيم من التركيز على الإنسان الى التركيز على استدامة الحياة، ومن مفهوم " أن الموارد الطبيعيه في خدمه الانسان" الى مفهوم " أن الانسان جزءٌ لا يتجزأ من الطبيعة يؤثر بها ويتأثر بها"، ومن "أن التقانه يمكن أن تقدم حلولاً لكل المشاكل" الى مفهوم "أن المحافظه على الموارد أهم نسبيا من تأمين احتياجات الإنسان".

المقالة القادمة بعنوان: التوجه نحو الاستدامة

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

الكحول وبعض آثارها

الكحول شراب ينتج عن تخمير ثمار أو نباتات أو جذور نباتات أو حبوب أو عن طريق تقطيرها أو غير ذلك، ويحتوى على الكحول الإيتيلية أو الإيتانول. يؤدي تناول الكحول إلى تأثير دماغي وقد يكون مصدراً لمخاطر صحية عديدة من أهمها الإدمان الذي يودي بحياة ملايين من الناس سنوياً. ولكن هذا لم يمنع استهلاك الكحول في مختلف دول وثقافات العالم لآثارها المحببة عند تناولها باعتدال ومن وقت لآخر. من بين الكحول الأكثر انتشاراً نجد الجعة التي تتضمن أقل نسبة من الكحول وهي 5%، يليها النبيذ الذي يحتوي على نسبة بين 12 و 13% ثم ما يسمى بالمشروبات الروحية (سبيرتو) التي تزيد فيها نسبة الكحول عن 40%.

عرف الإنسان الكحول منذ القدم بشكل مباشر أو لا نتيجة تخمر الفواكه خصوصاً. وعرفت منطقة ما بين النهر إنتاج الكحول منذ أكثر من أربعة آلاف سنة بترك الشعير يتخمر مع الماء لينتج عن ذلك الجعة. وأخذ الكحول مكانةً في كثير من الأديان القديمة وجعل له الإغريق والرومان إلهاً هو باخوس، وبحسب الكتاب المقدس فإن نوحاً زرع العنب وأسكره، وقيل على لسان المسيح بأن قليلاً من الخمر ينعش القلوب. وكلمة كحول المستخدمة في العربية انتقلت على حالها إلى اللغات اللاتينية والغربية عموماً. والكلمة وصلت إلى العربية من لغات ما بين النهرين على الأغلب.

تؤثر الكحول على عمل الدماغ في جانبي الوعي وإدراك الوسط، ومن ثم الإحساس والسلوك. ويتناسب قدر الأثر مع كمية الكحول المستهلكة. يبدأ تأثيرها بجعل متناولها يشعر بالراحة والاسترخاء والتحرر من الخجل والانطلاق بالحديث، ولكن ردود الفعل الارتكاسية تبدأ بالتراجع. ومع زيادة الكمية يبدأ السكر حيث يظهر عدم التوافق في الحركات وعدم الترابط في التعبير الكلامي وتراجع في التنبه وبلوغ حال النعاس. كما قد يؤدي إلى فقدان الذاكرة. والمبالغة في الشراب ستؤدي إلى النعاس والنوم والذي قد يصل إلى درجة الغيبوبة (الكوما) الكحولية التي قد تؤدي إلى الوفاة.

يتسرب الكحول عند تناوله إلى الدم، والكبد هو المسؤول الأول عن التخلص من الكحول (بنسبة 95%) يليه الكليتان وكذلك الرئة عن طريق التنفس حيث يطرد جزء من الكحول مع الزفير، وكذلك التعرق. وكل كأس معياري (50 سنتيليتر) من الجعة يزيد من نسبة الكحول في الدم بحدود 0.2 غرام لكل ليتر دم، هذا بالنسبة لشخص يزن نحو 75 كلغ عندما لا يكون جائعاً ولا مريضاً. ولا يكون التخلص من آثار هذا الكأس إلا بعد ساعة ونصف تقريباً. ويختلف تأثيره من شخص إلى آخر من حيث الجنس والحالة الصحية وحالة الجوع أو الشبع. ويكون تأثير الكأس في ذروته بعد ساعة من تناوله.

ساهمت مراقبة نسبة الكحول في الدم في خفض عدد وفيات حوادث السير بنسبة كبيرة. بعض الدول، منها تشيكيا وهنغاريا، قالت بأن على سائق السيارة أن يكون دمه خالياً من الكحول تماماً، ولكنها تراجعت عن ذلك لأن هناك نسبة بسيطة من الكحول موجودة في الدم بسبب التخمرات البكتيرية القائمة في الجسم حكماً!!

هذه بعض الآثار الصحية وهناك غيرها بما هو أشد، من صحي واجتماعي واقتصادي.

الاثنين، 25 سبتمبر 2017

لولا الصفر ... لما كانت أشياء كثيرة

لولا الصفر لما كانت تلك العلامة المقيتة التي يلوّح بها الأستاذ في المدرسة، ولما كان معيار البرد المرتبط بالصفر مئوي وما دونه والذي نشعر بالبرد لمجرد سماعه. ولما كانت تلك الأعداد التي نستخدمها بشكلها الحالي.  ولما كان لتعابير مثل "عاد صفر اليدين" المعنى الذي لها. ولما كانت أشياء كثيرة نستخدم فيها الصفر وكلمة الصفر،... ولكن كل هذه أشياء من الممكن تجاوزها، ويمكن الاستعاضة عن الصفر بأشياء أخرى. ولكن لولا الصفر لكنا واجهنا، ربما، مشكلة في البناء الرياضياتي ولكانت الرياضيات شيئاً آخر مع كل ما لذلك من تبعات. وإليكم "التسلية" الرياضياتية الآتية مثالاً التي سنصل بها إلى اللامعقول بسبب عدم الانتباه إلى الصفر:
1-      لنفترض أن: a = b = 1 
2-     وكتابة أن: a2 = a2  هي تحصيل حاصل
3-     وكذلك الأمر:  b2 = ab
4-     وبطرح السطر الثالث من السطر الثاني نجد:  a2  -  b2  =  a2  - ab
5-     وبالتفريق السطر الرابع إلى مضاريب نجد: (a + b) (a – b) = a (a – b) 
6-     لنقسم الطرفين بالحد(a - b)  ، فنجد أن: a + b = a 
7-     وهنا المشكلة، وذلك لأن a=1 و b=1، أي أن الطرف اليساري للمساواة الأخيرة يساوي 2 في حين أن الطرف اليميني يساوي1 ، أي أننا وصلنا إلى أن 2=1!!! فأين المشكلة؟ المشكلة أنه في السطر السادس يوجد صفر متمثل في الحد: (a – b)   وقسمنا به طرفي المساواة في السطر الخامس! فكيف يمكن توزيع تفاحات على لا أحد (الحدa – b)  ) هو بمعى لا أحد؟ إنه اللامعقول بعينه.
أول تعريف للصفر كان في القرن السابع الميلادي وفي عام 628 بالتحديد كما أكدت ذلك دراسة جديدة لمخطوطات تعود للرياضياتي الهندي براهماغوبتا (598-660)، وهو قال بأن الصفر هو طرح عدد من نفسه، أي بلغة رموز اليوم: a-a=0، وحل هذا الهندي بعض المعادلات الجبرية وتحدث عن الأعداد الموجبة مسمياً إياها بالأملاك، وتحدث عن الأعداد السلبية بأنها "الخسائر" أو "الديون"، وجعل الصفر الحد الفاصل بين الأعداد الموجبة والأعداد السالبة، أي أنه جعل من الصفر عدداً بالمعنى الكامل. كان الهنود قد استخدموا الصفر في نظام العد العشري للإشارة إلى الخانة كما هو الحال في العدد 107، أي أنهم استخدموه أيضاً للترقيم. 

أخذ عنهم العرب ذلك بفضل الخوارزمي، الذي عاش أيام المأمون ووضع علم الجبر مطوراً ما صنعه الهنود، وأتاح بذلك انتشاره في العالم عن طريق الدولة العربية التي كانت تمتد حتى إسبانيا. وقام بنقل الصفر إلى أوروبا الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي عام 1202 وكان قد درس الرياضيات على يد بعض علماء الجزائر، وسمى الصفر   zefiro الذي أصبح فيما بعد zero . ومن الصفر اشتقت أيضاً كلمة chiffre الفرنسية وكلمة ciphering الإنكليزية للإفادة بمعنى التشفير. ذلك أن التشفير أمر صعب لم يكن يماثله في الصعوبة إلا صعوبة فهم الصفر، فاقترن التشفير به. 

إذ كيف يمكن للاشيء (الصفر) أن يكون شيئاً! لم يقبل الإغريق الفكرة، ولا الكنيسة لاحقاً، لذا واجه الإيطالي فيبوناتشي صعوبة في جعل الكنيسة تقبل بالفكرة، حتى الأرقام العربية التي نقلها أيضاً هذا الإيطالي لم تَسُد في أوروبا إلا منذ مطلع القرن السادس عشر. مع أن الصينيين والبابليين وأهل الأنكا استخدموا الصفر، ولكن صفرهم غير صفرنا، فقد كانوا يستخدمونه في الترقيم بجعل فراغ مكانه إن جاء داخل العدد كمثل 107، وتوقف استخدامهم له على ذلك، أي أنهم لم يعرفوه عدداً وإنما فراغاً وإن خصه البابليون برمز خاص.

لم يكن الصفر بالنسبة لهندي براهماغوتبا إلا تعبيراً عن بلوغ الانحلال في النيرفانا، وهو القائل أيضاً بأن قسمة أي عدد على الصفر (في الواقع على عدد صغير جداً وليس الصفر الممنوع القسمة به) ينتج عنها عدد كبير هو اللانهاية، وهو أمر قبلت به الفلسفة الهندية على عكس الإغريقية التي كانت لا تؤمن إلا بالمحدود والموجود، أي لا لانهاية ولا عدم (الصفر).

بقي أن نقول إن حاتم الطائي عرف صفر آخر عندما خاطب زوجته (ماويّة) التي كانت تلومه على كرمه البالغ:

أماوِيَّ إنَّ المال غادٍ ورائحٌ
ويبقى مِن المال الأحاديثُ والذِّكرُ
أماوِيَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ
إذا جاء يومًا: حلَّ في ما لنا نذرُ
أماوِيَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يومًا وضاق بها الصَّدرُ
ترى أنَّ ما أنفقتُ لم يكُ ضرَّني
وأنَّ يديَّ ممَّا بخلت به صفرُ
وقد علم الأقوامُ لو أنَّ حاتمًا
أراد ثراءَ المالِ كان له وفرُ

وبهذه الأبيات استشهد لسان العرب ليقول إن الصفر هو "الشيء الخالي".