بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 يوليو 2017

معضلة مونتي هول... الإنسان وطائر الحمام

مونتي هول هو مقدم البرنامج التلفزيوني الأمريكي "دعونا نعقد اتفاقاً Let’s Make a Deal” وهو برنامج ألعاب ترفيهي يطرح مسألة سهلة ولكن حلها ليس بالحل المباشر مما يجعل تسميتها أقرب إلى "متناقضة مونتي هول". استمر هذا البرنامج على مدى سنوات وسنوات بدأت عام 1960، وإن كان تغير أثناء ذلك من حيث الشكل والمذيعين مقدمي هذا البرنامج.

تقوم المسألة على الأساس الآتي: يختار المذيع شخصاً من الحضور ويجعله أمام ثلاثة أبواب. خلف أحد الأبواب توجد هدية قيّمة وخلف الاثنين الباقيين لا يوجد شيء. يطلب من الشخص اختيار أحد الأبواب، وبعدها يقوم مقدم البرنامج بفتح أحد البابين الأخريين، فإذا كان الباب الذي اختاره المذيع لا يخبئ شيء يعطي للشخص المشارك فرصة تغيير اختياره إذا رغب ذلك. والسؤال هنا هو: هل من الأفضل أن يغير الشخص خياره أم يبقي على خياره الأول؟ أغلب الناس لا تغير اختيارها لظنها أن احتمال أن تكون الهدية وراء أي من البابين هو 1/2 ومن ثم فالأمر سيّان. ولكن لو نظرنا إلى المسألة من وجهة أخرى لوجدنا أنه من الأفضل تغيير الخيار، ذلك أن احتمال أن تكون الهدية في الأصل خلف أي باب من الأبواب الثلاثة هو 1/3، أي أن احتمال أن تكون الهدية خلف البابين اللذين لم يُختارا هو 2/3، وبما أن مقدم البرنامج فتح باباً من هذين البابين ولم يكن خلفه شيء فهذا لم يغيّر من قيمة احتمال أن تكون الهدية خلف أحد هذين البابين، أي أن احتمال أن تكون الهدية خلف الباب الباقي والذي لم يختره الشخص المشارك هو 2/3، أما الباب الذي اختاره الشخص المشارك فلا يزال احتمال أن تكون الهدية وراءه هو 1/3، لذا من الأفضل التغيير! هذه اللعبة استمرت لسنوات عديدة، وشهدها الآلاف إن لم يكن الملايين، ولم يغير المشاركون خياراتهم إلا بنسبة محدودة من موقفهم في الحفاظ على خيارهم الأول.

أجريت تجربة مشابهة على الحمام، وذلك بأن توضع حمامة مدربة أمام ثلاثة مخازن أحدهما يحتوى حبوباً والآخرين لا يحتويان أي شيء. فوق كل مخزن مصباح مضيء، ويقود العملية حاسوب يتحكم بفتح المخازن وإضاءة المصابيح وتسجيل النتائج. وعند وقوف الحمامة أمام أحد المخازن لفترة محددة يقوم الحاسوب بإطفاء أحد المصباحين الآخرين ويختار الخزان الفارغ بينهما. ومن ثم ينتظر الحاسوب فترة ويسجل نتيجة تغيير الحمامة من خيارها أو لا. تعاد التجربة بعد فترة مع الحمامة نفسها. كما أجريت التجربة نفسها على عدد لا بأس به من الحمام. وكانت النتيجة النهائية أن الحمام يغير رأيه بنسبة كبيرة (96%) بعد فترة من تكرار التجربة!

أجريت تجارب مماثلة على الإنسان من ثقافات مختلفة ومستويات تعليمية دون أن تتغير النتيجة التي تميل في الأغلب إلى الحفاظ على الخيار الأول. وكذلك على أعمار مختلفة، وفقط كان تغيير الخيار واضحاً مع اليافعين من مستويات الصف الثامن أو أقل!


هل الحمام أقدر على التكيّف أو المحاكمة من الإنسان؟ ربما أن الجواب يكمن في فكرة أن الإنسان، اعتباراً من عمر معيّن، لا يراجع نفسه في قناعاته المشكلة التي يصعب عليه التخلي عنها، في حين أن الأصغر سنّاً ليس لهم قناعات نهائية بعد وهم أقدر على مراجعة أنفسهم، مثلهم مثل الحمام!...هذا تفسير، هناك تفسيرات أخرى ممكنة أكثر إثارة ربما!

يمكن الاطلاع على تفاصيل الدراسة عبر المقال:
Walter T. Herbranson and Julia Schroeder, Are Birds Smarter Than Mathematicians? Pigeons (Columba livia) Perform Optimally on a Version of the Monty Hall Dilemma, Journal of Comparative Psychology (2010), Vol. 124, No. 1, 1–13

السبت، 29 يوليو 2017

كيف تنتقل الرسائل عبر الأنترنت…. آمنة

والقصد بـ"آمنة" هنا بمعنى صعوبة قراءة الرسالة عند التقاطها من قبل أي كان. وهذه قصة شغلت الناس منذ بدأوا تبادل الرسائل وخاصة الهامة منها مثل الرسائل الحربية. وهنا استخدم ما سُميَّ بالتعمية، أي جعل النص غير مفهوم لقارئ عادي. ويحكى أن القيصر يوليوس كان أول من استخدم التعمية في رسائله مع قادة جيوش روما باستخدام طريق بسيطة تعتمد على إجراء انزياح بمقدار معين في حروف الأبجدية. فمثلاً لو أردنا كتابة كلمة "قيصر" باستخدام تعمية تقوم على انزياح بمقدار 4 في الأبجدية:

أ ب ت ث ج ح خ د ذ  ر   ز س   ش ص ض ط  ظ  ع   غ   ف  ق  ك   ل  م    ن هـ   و   ي
1 2  3  4  5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15  16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28

لكان الناتج هو: نثعص، حيث استعضنا عن كل حرف من كلمة "قيصر" بالحرف الرابع الذي يليه في الأبجدية، فحرف "ق" نضع بدلاً عنه "ن"، وحرف "ي" نضع بدلاً عنه "ث" وهكذا نحصل على "نثعص" التي لا يمكن معرفة أصلها إذا لم نكن نعرف مقدار الانزياح المستعمل في الرسالة المعمّاة. إلا أن هذا ممكن كشفه بالتجريب والمحاولة ومعرفة بعض خواص اللغة المكتوبة الرسالة فيها.

يمكن تعقيد التعمية بأن يزاح الحرف الأول بمقدار والثاني بمقدار آخر وهلمجرا، هذا سيجعل قراءة الرسالة أكثر صعوبة ولكنه لن يكون مستحيلاً. أو عبر استخدام ما يسمى "مفتاح" للرسالة يجب معرفته لقراءتها وإلا ستبقى مجهولة، وهذا المفتاح قد يكون كلمة ثابتة تضاف إلى كلمات الرسالة ليتشكل عن ذلك رسالة أخرى. لتأخذ كلمة "تعمية" ككلمة مفتاح تضاف إلى كل كلمة من الرسالة، لنأخذ كلمة "قيصر" التي سيستعاض عن حروفها بأرقام ترتيب هذه الحروف في الأبجدية ومن ثم يضاف إلى هذه الأرقام أرقام ترتيب الحروف الأربعة الأولى (لأن كلمة قيصر مؤلفة من أربعة حروف) من كلمة "تعمية" لنحصل على أرقام تدل حروفها على كلمة "معرر"، وهي الكلمة التي ستُرسل وسيقوم متلقي هذه الكلمة بكشف الكلمة الأصلية بالطريقة نفسها ولكنه سيستخدم عملية الطرح بدلاً من الجمع. المشكلة في هذه الطريقة أن بإمكان المتلقي أن يقرأ أية رسالة حتى لو لم تكن موجهة إليه، كما أن كشف كلمة المفتاح ليست بالصعبة باستخدام حواسيب اليوم ومعرفة خواص اللغة التي تكتب قيها الرسائل.

لذا لجأنا إلى طريقة جديدة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي تسمى طريقة RSA وهي الحروف الأولى لأسماء مخترعي هذه الطريقة. وهي تقوم على استخدام مفتاحين، الأول مفتاح عام يمكن لأي شخص استخدامه في تعمية رسائل توجه إلى شخص آخر يملك مفتاحاً خاصاً لا يمكن قراءة الرسالة إلا بهذا المفتاح الخاص وبهذا المفتاح فقط دون غيره من كل مفاتيح الأرض (بما في ذلك المفتاح العام) الذي يملكه شخص واحد فقط. تقوم الفكرة على استخدام عددين أوليين (لا يقسمان إلا على أنفسهما والواحد طبعاً) كبيرين P و Q لا أحد يعرفهما إلا الشخص الذي يملك المفتاح الخاص. وعليهما وعلى جدائهما سيشكل هذا الشخص مفتاحاً عاماً سيعطيه إلى كل من يود مراسلته لاستخدامه في تعمية رسائله. وهذا الشخص سيشكل بناء على العددين P و Q وعلى المفتاح العام مفتاحه الخاص الذي سيمكنه من قراءة الرسائل الموجهة إليه والمعماة. ولا يمكن كسر هذه التعمية إلا بمعرفة العددين P و Q أولاً، وهي معرفة قد يمضي حاسوب كبير سنوات وسنوات في معرفتهما.


هذه الطريقة الأخيرة هي المستعملة، من حيث المبدأ، في إرسال البيانات الإلكترونية عبر المواقع الحساسة مثل المصارف أو مواقع المراكز الهامة، والتي بُني عليها ما يسمى بالتراسل الآمن، فكل البيانات والعمليات التي ترسل من حواسيبنا إلى مصرف ما تكون معماة بواسطة المفتاح العام الذي يستخدمه الموقع على حواسيبنا نفسها، ولا يمكن لأحد قراءتها سوى الحاسوب الخاص بالمصرف بواسطة المفتاح الخاص الموجود لديه.... نرجو أن يكون الموضوع مفهوماً فقد حاولنا تبسيطه بقدر ما استطعنا... ولكن!


الجمعة، 28 يوليو 2017

حياة كارل ماركس البائسة

ولد كارل ماركس عام 1818 في مقاطعة ريهنان الألمانية لعائلة من أصول يهودية تحولت إلى البروتستانتية. وبعد مسيرة دراسية لامعة عمل في إحدى الصحف الألمانية في مقاطعته استخدمها منصة لمؤازرة ثورة عام 1848 الفاشلة انتهت بنفيه إلى خارج بروسيا الألمانية . كانت ميوله الفلسفية ألمانية هيجلية وكان من أنصار الاشتراكية الفرنسية المثالية والاقتصاد السياسي البريطاني. تنطلق عقيدته السياسية من الإنسان باعتباره كائناً فاعلاً وليس كائناً مشغولاً بالتفكير. وإن كان في حياته الشخصية مزيج من الاثنين.

طور ماركس فلسفة قائمة على صراع الطبقات (بين المستغَّل والمستغِّل) التي هي محرك التاريخ. وتتميز ديالكتيكيته المادية بأولوية التاريخ (كل شيء يتطور)، والتقدم الناتج عن التناقضات التي يتم حلها، ومن الفعل المتبادل بين الأشياء والتقدم الذي يحصل على شكل قفزات، ومن الأزمات التي تنبعث فجأة (على شكل ثورات). لذا فعلى الطبقة العاملة أن تنظم نفسها على المستوى العالمي لكي تمسك بالسلطة التي ستُنهي الدولة بعد فترة انتقالية (الشيوعية). وهو كان يتوقع انهيار الرأس مالية من تلقاء نفسها وقياد دولة العمال.

كان كارل ماركس كاتباً فذاً صاغ مع زميله إنجلز "بيان الحزب الشيوعي"، ويعتبر هذا البيان من أكثر المنشورات التي قرئت في العالم. كما ألف الكتاب الشهير "رأس المال" الذي لم ينه سوى الجزء الأول منه وأكمل زميله الجزأين الباقيين. أثارت أعماله الفلسفية والسياسية-الاجتماعية من الجدل والنقاش من لم يثره أي مفكر حتى اليوم.

ماركس وزوجته جني
وإن لم يستطع إكمال إلا الجزء الأول من "رأس المال" فإنما ذلك كان بسبب المرض والسقم، فقد أصيب بالسل وتوفي عام 1883، وذلك بعد سنتين من وفاة زوجته التي أحبها جداً وأنجب منها ستة أطفال، مات ثلاثة منهم وهم صغار، وبقي له ثلاث بنات، ماتت الأولى قبل وفاته بشهرين بمرض السل، أما الاثنتان الباقيتان فقد ماتتا لاحقاً منتحرتان. ولكن كان له ابن من خارج الزواج عاش حياة مديدة عادية دون أن يحمل اسم أبيه!


وفي غير هذا فقد عاش ماركس فقيراً، وإن كان زميله وصديق عمره إنجلز يمد له يد العون من وقت لآخر، بالرغم من أن زوجته من أصول برجوازية، فقد كان أخوها وزير داخلية ألمانيا لمدة 8 سنوات. وكذلك أسرة ماركس نفسها كانت من الطبقة المتوسطة ولكنه فقد كل شيء عندما طرد من بلاده تاركاً وراءه ميراثه. أما اليوم فرسم زيارة قبر ماركس في بريطانيا هو بين 4 و 6 جنيه استرليني! أما كتابه "رأس المال" فقد طبع مرات ومرات بمختلف لغات العالم وبيع منه ما يكفي لجعل ماركس أغنى رجل في العالم لو بقي حيّاً حتى اليوم،... ولكن هيهات!!.

الأربعاء، 26 يوليو 2017

السعادة … والمال

كم هو صعب تقديم تعريف جامع للسعادة. فنحن نستخدم الكلمة في حياتنا دون القدرة على وضع إطار يحددها. الفرح حالة تعبر عن السعادة، راحة البال كما يقول البعض أيضاً حالة تعبر عن السعادة، النجاح في الحياة في مجمله حالة لها أن تجلب السعادة، لقاء شخص نحبه يدخل السعادة على قلوبنا، وأشياء أخرى كثيرة تضعنا في "حالة" سعادة… ولكن ما هي السعادة؟ البعض يقول بأنها "الرضى"، الرضى عن النفس والذات، ولكن هل هذه السعادة تماثل سعادة لقاء شخص عزيز! الأمران مختلفان.

هناك من ميّز بين السعادة الراهنة المرتبطة باللحظة أو الساعة أو الماضي القريب جداً. وهناك السعادة المرتبطة بالماضي وذكرياته. فخبر مفرح يدخل البهجة إلى القلب ويضعنا في حالة سعادة وهي سعادة راهنة. كما أن مشاهدة صور لرحلة أو لحدث مبهج ماض يضعنا في حالة سعادة أيضاً، وهي سعادة ترتبط بأحداث ماضية. لنتصور أننا نعد للقيام برحلة إلى مكان جميل، فهل كنا سنذهب إلى هذا المكان إذا قيل لنا أننا سنتناول حبة نسيان مباشرة بعد الرحلة تجعلنا لا نتذكر شيئاً منها؟ سؤال "كيف الحال" يرتبط بالسعادة الراهنة، وسؤال "هل تشعر بالرضى" يرتبط بسعادة الذكريات.

ولكن هل يمكن قياس السعادة؟ أجريت تجربة في العقد الأخير من القرن الماضي على شكل استمارة وزعت على شباب وصبايا وطلب منهم التعبير عن سعادتهم بوضع علامة بين 0 و 10. وبعد إجابتهم على هذا السؤال وزعت عليهم استمارة ثانية تطلب منهم ذكر عدد المغازلات التي حدثت لهم خلال الشهر الماضي. وكانت النتيجة أن لا علاقة إطلاقاً بين علاماتهم عن سعادتهم وعدد المغازلات. في الوقت نفسه طرح على مجموعة ثانية من الشباب والصبايا السؤالين نفسهما ولكن بترتيب عكسي، أي سؤال عدد المغازلات أولاً وسؤال وضع علامة عن سعادتهم. وهنا أظهرت النتيجة ارتباط علامة السعادة بعدد المغازلات، وبلغت قيمة معامل الترابط 0.66!. فتذكر المغازلات وضعهم في حالة سعادة أثرت في تقيمهم للسعادة. وهذا يكفي لتقدير صعوبة تقييم السعادة.

وفي دراسة أجراها أحد مراكز استطلاع الرأي الأمريكي شارك فيها 700 ألف شخص، وحلل بياناتها دانييل كاهنمان من جامعة برنستون والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2002. تبين من هذه الدراسة* أن مستوى السعادة الراهنة يتأثر بمستوى الدخل بشكل مضطرد ولكن ذلك يثبت عند دخل معين (نحو خمسة آلاف دولار شهرياً) ولا تتأثر السعادة بعد ذلك، فمثل هذا الدخل كاف لإشباع حاجاتنا المباشرة اليومية. أما السعادة المرتبطة بالماضي فترتبط على نحو مستمر بالدخل وتزداد معه، ذلك أنه يجب ملء الحاضر، الذي سيصبح ماضياً، بأحداث تجلب البهجة عند تذكرها في المستقبل.

وفي كل حال فإن هذه الدراسة بالرغم من اشتمالها على 700 ألف شخص، فهي تخص الثقافة الأمريكية التي تربط كل شيء بالمال، والأمر سيأخذ مساراً مختلفاً في ثقافة أخرى قد يكون لها مقاربة أخرى للسعادة التي نرجوها لكم جميعاً...صحيح أن الغنى لا يجلب السعادة ولكن الفقر لا يجلبها هو الآخر.


*D. Kahneman et A. Deaton, High income improves evaluation of life but not emotional well-being, PNAS doi: 10.1073/pnas.1011492107 (2010)

الثلاثاء، 25 يوليو 2017

حزننا مع القدر… طاغور


حيث الروح بلا خشية وحيث الرأس يرتفع،
شاعر الهند العظيم...طاغور
حيث المعرفة حرة،
حيث العالم لم تمزقه جدران واهية،
حيث الكلمات تنبع من أعماق الإخلاص،
حيث الجهد الذي لا يكل يمد ذراعيه نحو الكمال،
حيث لا يتعثر تيار العقل الصافي في اليباب وصحراء العادات القاحلة،
حيث الروح، التي ترشدها، تتقدم في الاتساع المستمر للفكر والفعل-
اسمح يا أبي، في جنة الحرية هذه،

أن يستيقظ وطني.

الاثنين، 24 يوليو 2017

لاقيني ولا تطعميني

من المعروف أن تشكيل العلاقات الاجتماعية أمر معقد للغاية تتدخل فيه عوامل مختلفة. كثيرة هي العلاقات العابرة التي لا تترك أثراً في أطرافها، ولكن بعضها قد يكون مرشحاً لأن يتحول إلى علاقات أكثر من عابرة وبعضها إلى علاقات متينة. وفي هذه العلاقات المتينة يحدث ارتباط يقوم في جزء كبير على المشاعر والعواطف وما يسمى بالاستلطاف. وهذه في مجملها عامل رئيسي في بناء العلاقات الاجتماعية.

ذكر عالم النفس الشهير فرويد أن علاقة التغذية تدفع إلى الحب، بمعنى أن العلاقات القوية يمكن أن تبدأ من التغذية. مثال ذلك علاقة الأطفال بأهليهم تقوم في جلها على تأمين الغذاء حيث يؤمن الكبار الغذاء للصغار. ويمكن لذلك أن يكون بين الكبار، فمن يؤمن الطعام لغيره سيرتبط هذا الغير معه بعلاقة قوية. ولكن هناك من شكك في ذلك كثيراً من بينهم المحلل النفسي الأمريكي هاري هارلو Harlow الذي أجرى تجربة في خمسينيات القرن الماضي أثارت الكثير من الجدل وعلى أكثر من صعيد.

استخدم هارلو في تجربته قرداً صغيراً بعد أن جعله يجوع بعض الشيء، ثم تركه في حيز صغير إزاء كائنين ميكانيكيين يشابه كل منهما قرداً كبيراً، يحمل الأول زجاجة حليب يمكن للقرد الصغير أن يأتي إليها ليرضع من حليبها، والثاني يمثل شيئاً دافئاً من قماش وثير يوحي بالطمأنينة. ولكن القرد الصغير بدلاً من أن يتجه نحو زجاجة الحليب اتجه إلى المكان الوثير الذي يوحي بالأمان بالرغم من جوعه، وبقي يلهث في هذا المكان فترة من الزمن ثم وضع اصبعه في فمه لتهدئة جوعه على عادة الأطفال، وبقي على هذه الحال إلى أن دخل الاطمئنان إلى قلبه ليتجه بعدها نحو زجاجة الحليب. أي أن ليس الطعام هو المهم وإنما الشعور بالاطمئنان أولاً.


هذه التجربة أعيدت مرات ومرات وبأشكال مختلفة وكانت النتيجة هي نفسها. وهي نتيجة يمكن فهمها، بعد تردد ربما، لاعتقادنا بأن الجوع قد يدفع بالدماغ إلى تلبية حاجة الطعام أولاً، ولكن التجربة تقول بأن الدماغ يدفع بالإنسان للبحث عن الاطمئنان والأمان أولاً... وذلك تصديقاً للمثل الشعبي الذي يقول "لاقيني ولا تطعميني... أي أن الاستقبال اللطيف وما يدخله في القلب من قبول هو قبل الطعام الذي سنرفضه حتى لو كنا جياعاً في جو مثير للنفور والقلق.

الأحد، 23 يوليو 2017

الثقافة والمورثات

الثقافة هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل اللغة والمعتقد والسلوك والتصرف الخاص إزاء أحداث الحياة اليومية وغير ذلك مما يميز شعب عن آخر، أي الثقافة بالمعى الواسع. والمورثات هي ما ينتقل من الأبوين إلى الأبناء من صفات وخصائص بيولوجية وفيزيولوجية، التي يأتي نصفها من الأم ونصفها الآخر من الأب. وهذه الصفات متضمنة في لولبي الـ د. نإ. وهو الاختصار لجملة ترجمتها للعربية هي: الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين.

ومن المعروف أن العائلات تتشابه وراثياً وأن الجماعات البشرية التي تعيش في منطقة جغرافية ما يتقارب أفرادها في مورثاتهم بحكم الزواج وعلى مدى السنين مما يجعل الجميع أقارب لبعضهم البعض بطريقة من الطرق، وهذا ما يجعل لهؤلاء مميزهم الوراثي الخاص بهم ويجعل بينهم تقارباً في الصفات الخارجية العامة. فأهل شمال أوروبا مثلاً يشيع بينهم الشعر الأشقر، وبعض قبائل أفريقيا (البيغمي) يميلون إلى قصر القامة، وهكذا. السؤال الآن: هل يمكن للثقافة أن تؤثر في الوراثة؟

جرت أبحاث في منطقة آسيا الوسطى تضم أوزبكستان وقيرغزستان، وهما يمتدان على منطقة جغرافية كبيرة تتضمنان ثقافات مختلفة، من حيث اللغة على الأقل، نزحت جماعات من كل من هاتين الدولتين عبر التاريخ لتعيش في الدولة الأخرى. أي يوجد في قيرغزستان مجموعات من أصل أوزبكستاني وبالعكس. وتبين أن الناس المنتمين إلى الثقافة نفسها يتقاربون وراثياً حتى لو كانوا متباعدين جغرافياً وبأكثر من المتقاربين جغرافياً ولكن متباعدين ثقافياً. وهو أمر أكدته دراسة هولندية على المورثات التي يحملها البروتستانت والكاثوليك، الذين أخذوا بالانفصال عن بعضهم منذ نحو خمسة قرون، حيث تبين أن أهل كل طائفة هم أكثر تقارب وراثياً بالرغم من عيشهم في منطقة جغرافية واحدة.

وفي أفريقيا حيث كانت تعيش قبائل من المزارعين على مقربة من قبائل قصار القامة البيغمي الذين لم يمارسوا الزراعة وإنما اكتفوا بقطف الثمار. وقبائل المزارعين والبيغمي عاشت بقرب بعضها لأكثر من ثلاثة آلاف سنة وبقيت مختلفة وراثياً إلى أن بدأ الأمر بالتغير منذ نحو ألف عام عندما بدأ رجال قبائل المزارعين بالزواج من نساء البيغمي المشهورات بقدرتهن على الإنجاب، واليوم هناك تغير في المورثات لدى هؤلاء ولكنه من طرف واحد، فنساء المزارعين لم يتزوجن من رجال البيغمي، كما أن نساء البيغمي غالباً ما كن يعدن إلى قبائلهم بعد طلاق أو موت الزوج أو لعدم رغبتهن في البقاء لدى قبائل المزارعين بسبب المعاملة السيئة.

الأمثلة تتعد وتكثر وخاصة في عالم اليوم الذي يشهد هجرات ونزوحات بشرية كبيرة، ولكن التغير الوراثي يحدث بحسب طبيعة الجماعات المهاجرة. فباكستانيو إنكلترا مثلاً لم يختلطوا مع الآخرين كما يظهر ذلك من بعض الأمراض النادرة التي حملوها معهم وبقيت ضمنهم. وكذلك أتراك ألمانيا الذين لا يزالون في معظمهم يعيشون منغلقين على أنفسهم ولم يختلطوا لا مع الألمان ولا مع غيرهم. أما مهاجرو البرازيل فقد عرفوا انفتاحاً على بعضهم بحيث اختلطت مورثات الأوروبي مع مورثات العربي مع الأفريقي مع سكان البلد الأصليين لتعطي سلالة فريدة.


هل يتجه العالم اليوم لتشكيل سلالة وراثية متقاربة في كل أرجائه؟… هذا أمر سيحدث على الأغلب ولكن بعد مئات السنين إن لم يكن أكثر.