بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 يوليو 2016

الحواس ... خمس أم أكثر



يقال إن الإنسان يدرك الوسط الذي يتحرك فيه بواسطة حواسه. وقيل قديماً إن الحواس هي خمس: السمع والبصر والشم والتذوق واللمس. وأول من قال بذلك فيما نعرف هو أرسطو، ولكن قوله هذا ليس بالصحيح تماماً. وهو قال بذلك على ما عَرفَ وقدّرَ، ولكنه لم يبدأ البداية الصحيحة بتعريفه أولاً للحاسة. والتعريف الأكثر شيوعاً هو أن: الحاسة هي جملة من المستقبلات أو الخلايا الحاسّة القادرة على ترجمة أشكال مختلفة من الطاقة (التحريضية) ونقلها إلى الجملة العصبية المركزية على شكل سيالات عصبية حيث سيفسرها الدماغ بعرض إدراك ما عنها، وسيجري ترميزها بعد ذلك لتذهب إلى المناطق المتخصصة في الدماغ مثل المنطقة المختصة بمعالجة الرؤية أو اللمس أو الرائحة إلخ

وهذا التعريف نفسه قاد إلى اختلاف بين الفيزيولوجيين العصبيين أنفسهم عن العدد الدقيق للحواس عند الإنسان والكائنات الأخرى. فهناك العالم المحسوس الملموس والعالم الذي يمكن الشعور به، وفي كلا الحالتين يكون دور الدماغ مركزياً. فالعالم المحسوس لدى الإنسان تعبر عنه الحواس الخمس، ولكن الإدراك الحسي هو أكثر من ذلك. فالتوازن لدى الإنسان وغيره (عبر الأقنية شبه الدائرية والأذن الداخلية) هو حاسة قطعاً. والحس النسبي لأطراف الجسمي الذي يسمح لنا بوضع السبابة على الأنف مثلاً (حتى لو أغمضنا عينانا) هو حاسة أيضاً. كما أن الطيور والدلفين قادرة على تحسس الحقل المغناطيسي الأرضي، وتتوجه به. كما أن الأسماك والحيتان مثلاً تتحس بتغيرات الحقل الكهربائي، وكذلك الإنسان الذي يستشعره ويظهر ذلك جليّاً بانتصاب شعره مع معرفته في الآن نفسه بأن مصدر ذلك هو الكهرباء وليس الهواء مثلاً. كما أن الصدى هو حاسة للخفاش (وهو كائن أعمى) يساعده على معرفة موضعه، وبعض الأكفّاء من البشر لهم قدرة معرفة موضعهم بتحليلهم لصدى الصوت. كما أن هناك حاسة الحرارة من سخونة وبرودة التي يشعر بها الجلد عن طريق المحسات الحرارية في القشرة الجلدية وهناك المحسات الحرارية الداخلية التي تسمح بتنظيم الحرارة الداخلية للجسم. وكذلك حاسة الألم، وهي حاسة متعددة المحسات. وهناك حواس أخرى ليست دائماً موضع اتفاق بحسب تعريفات أكثر تفصيلاً لمعنى الحاسة.

بقي أن نقول إن هناك من تحدث عن حاسة سادسة تسمح بالتواصل بين شخصين أو مجموعتين من الأحياء بغير الكلام، وهذه الحاسة مثار جدل دائم، ولكن كان من المفروض أن تسمى الحاسة الحادية عشر أو أكثر بحسب ما عددنا سابقاً... ومع هذا فحبذا لو أن للإنسان حاسة التوجه!!

قنديل البحر الخالد.

اكتشف قنديل البحر الخالد Turritopsis dohrnii في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولفت الأنظار منذ اكتشافه بصفته من الأحياء الشديدة التحمل للمخاطر والظروف الصعبة.

تبدأ حياة هذا الحيوان من بويضة مخصبة تتطور إلى يرقة تسبح حتى تستقر في قاع البحر ثم تنمو وتتطور لتصبح مستعمرة من السلائل (جمع سليلة polyp وهي نوع من الحيوانات المائية غير المتحركة كشقائق البحر لها جسم اسطواني في أعلاه فم تحيط به مجسات).

تفرخ هذه السلائل قناديل مستقلة متطابقة وراثياً تنمو وتبلغ خلال أسابيع. وقنديل البحر الخالد البالغ حيوان دقيق يبلغ عرضه ٤.٥ ملم لديه قدرة على البقاء والتحمل غير عادية، فعندما يتعرض لخطر أو إصابة أو جوع شديد يعود إلى المرحلة السابقة في دورة حياته وهي مرحلة السليلة، وتعود مستعمرة السلائل المولودة مجدداً لتفرخ قناديل بحر مطابقة وراثياً للقنديل البالغ المصاب.

لوحظت هذه الظاهرة للمرة الأولى في تسعينيات القرن العشرين ولهذا السبب أطلق على الحيوان اسم “قنديل البحر الخالد”. اما الآلية البيولوجية وراء هذا التحول الغريب فقد أطلق عليها transdifferentiation (التمايز البيني) وهي تلقى اهتماماً بالغاً عند العلماء فهي تسمح لخلية بالغة متخصصة أن تتحول إلى نوع مختلف تماماً من الخلايا المتخصصة. ويهتم العلماء بهذه العملية لاستخداماتها المحتلمة في الطب فهي طريقة فعالة لإعادة تدوير الخلايا تسمح باستبدال الخلايا التالفة نتيجة الأمراض.

إن تسمية الحيوان بالقنديل الخالد تطرح تساؤلاً هاماً يتعلق بمفهوم الخلود، فهل يبقى الكائن الحي نفسه إذا استبدلت خلاياه كلها مع بقاء مورثاته على حالها؟

الأربعاء، 27 يوليو 2016

النحات ,,, المسافر




إنه النحات الفرنسي الجنسية برونو كاتلانو، المغربي المولد عام 1960، لعائلة صقلية. تعلم النحت في مرسيليا الفرنسية، وأقام مشغلاً له في عام 1985. بدأ أعماله الفنية بالصلصال المشوي، ومن ثم عمل في إنشاء التماثيل البرونزية. كانت بداية أعماله تقليدية، ولكنه في عام 2004 نحى منحاً آخر مع تمثال خاص بالكاتب الفرنسي سيرانو (1619-1655).

عمل  في تسعينيات القرن الماضي على متن سفن ارتحلت في اتجاهات مختلفة، وكان لهذا الترحال والسفر أثره في بناء شخصيته الفنية التي يصفها بالقول:

"إني دائم التنقل في عملي والبحث والتعبير عن المشاعر. أخرج من جمود الأشكال القديمة لأمضي نحو أشكال جديدة سلسة تتضمن حياة جديدة. تركت المغرب بحقائب مليئة بالذكريات تعبر عنها أعمالي. وهي لا تتضمن الصور فقط ولكن أيضاً ما عشته ورغباتي: أصولي المتنقلة".

أطلق على أعماله اسم "المسافرون"، تماثيله تبدو ممزقة كما لو أنها تركت جزءاً منها في المكان الذي بدأت رحلتها منه. تبدو متحركة تتقدم نحو الأمام، كما لو أنها معلقة بخيط خفي، بيدها حقيبة. مصنوعة من البرونز الذي يعبر عن قوة وهشاشة الإنسان. تعلو وجوهها كرامة واعتداد تظهره الأجسام التي المتطاولة نحو المستقبل، وتثير لدى مشاهديها حلم المغامرة.

بقي أن نتساءل عن كيفية ربط هذه القطع من التماثيل والحفاظ عليها منتصبة، في الواقع والمجاز. يمكن التدقيق فيها لمعرفة كيفية توازنها في الواقع، وهو توازن هش. أما توازنها المجازي فهذا أمر يعرفه كل من سار طويلاً على طرق السفر، وتوازنه هش أيضاً ... فالطيور تمضي حياتها في السفر لتعود إلى موطن ولادتها في نهاية المطاف.
 

الاثنين، 25 يوليو 2016

الموسيقا... تستهوي البقر



قيلت أشياء كثيرة عن الموسيقا، فهي أولى الفنون التي عرفها الإنسان، لها محاكاة الفرح والحزن، وبالتواصل بنقل المشاعر والأحاسيس. الموسيقا هي تركيب للصوت والصمت داخل الزمن وفق إيقاع وشدة تختلفان من مرة إلى أخرى. تستخدم قواعد محددة، بسيطة أو مركبة (مثل العلامات الموسيقية، والسلم الموسيقي وصياغاتها). وتستخدم الأصوات الإنسانية، مفردة أو جماعة، والآلات الموسيقية المصنوعة لغرض الموسيقا.

وجدت الموسيقا منذ فجر التاريخ، ولها أكثر من تاريخ بحسب الثقافة والحضارات التي وجدت فيها، فهناك الموسيقا الغربية والموسيقا الشرقية، وهناك موسيقا النخبة والموسيقا الدينية والموسيقا الشعبية. وهذا ما يجعل الموسيقا أصعب تناولاً على الدراسة التاريخية بعكس الفنون الأخرى كالشعر والقصة وغير ذلك. كما أن غياب تدوين الموسيقا يجعل من تأريخها مسألة شائكة. فمن يستطيع أن يحدد متى بدأ الإنسان الغناء أو الرقص؟ لا أحد يملك دليلاً قاطعاً! وهل اللغة ضرورية للغناء أم أن الغناء سابق للغة؟ هناك من يقول بأن الموسيقا شيء غريزي، وهناك من يقول بأنها من أصل ثقافي اجتماعي فقط نظراً لطابعها الإبداعي. ومن الصحيح أن بعض الثدييات والطيور تغني بشكل غريزي ولكن لا إبداع لديها وتأثرها ضعيف بالموسيقا الإنسانية. وهي على الأغلب كذلك، فأهل ثقافة ما يفضلون موسيقاهم ويطربون بها في الوقت الذي تبدو هذه الموسيقا لأبناء ثقافة أخرى مجرد أصوات قد تكون مملة أو مزعجة، أي أن هناك جانباً تعلميّاً في المسألة يتدرج مع التقدم بالعمر. كما أن التأثر بالموسيقا يختلف من الذكر إلى الأنثى، ومن المثبت أن الأنثى أشد تأثراً بالموسيقا من الرجل.

ولمعرفة فيما إذا كانت الموسيقا أمراً غريزياً فقد أجريت تجارب عن نوع من القردة الأمريكية التي تشترك مع الإنسان في 98% من مورثاتها، ولكن القردة لم تظهر أي اهتمام بالموسيقا. إذاً فالأمر على الأغلب ليس غريزياً! هذا ما نعرفه حتى الآن، ربما لم نجر التجارب الصحيحة! ولكننا لا نعرف أيضاً إذا كانت الحيتان تسعد بالأصوات الجميلة التي تصدرها وكذلك الطيور. كل ما نعرفه أن الطير الذي لا يغرد يعاني من مشكلة في وسطه، وهذا ليس بحال الإنسان.

وبين هذا وذاك، فقد بينت حالات كثيرة تأثر كائنات أخرى بالموسيقى، مثل النباتات التي يتحسن نموها مع الموسيقى، أو توقف بعض الحيوانات البرية للإصغاء إلى موسيقا تعزف بالجوار كما في حال أبقار انشدت إلى مجموعة أشخاص يعزفون موسيقى الجاز كما يبين ذلك هذا الرابط. البعض يقول بأن هذا ليس إلا لتضمنه ترددات تعرفها هذه الحيوانات وتشير إلى أشياء محددة مثل الدعوة بالعودة إلى الحظيرة.

وهذه الدعوة إلى الحظيرة هي أصوات تختزنها هذه الحيوانات ربما في ذاكرتها وتستجيب لها ملبيّة النداء في كل مرة تصدح فيها ترددات تشكل هذه الأصوات، وأن مثل هذا الاختزان قد يصبح متوارثاً تحمله المورثات من جيل إلى آخر، كما يظهر ذلك في دعوة صبيّة نروجية لأبقارها بالتوجه نحوها عبر صوت وغناء جميل كان يستعمل منذ مئات السنين لدعوة الأبقار للعودة إلى الحظيرة. يمكن الإصغاء إليه عبر هذا الرابط.

بقي أن نقول إن هذا هو تفسير الناس لما يشاهدون ويسمعون، فقد يكون ما تسمعه الأبقار غير ما نسمعه نحن! علم ذلك عند الله.