بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 يونيو 2025

التديّن الشكلاني في العالم العربي والمهجر: من أزمة الهوية إلى غياب المشروع الروحي

 

في الوقت الذي تشهد فيه البشرية تطورات غير مسبوقة في مجالات العلوم والسياسة والثقافة، تعيش المجتمعات العربية، سواء في أوطانها الأصلية أو في المهاجر، ما يمكن تسميته بـ"نكوص ديني شكلاني"، يعكس أزمة أعمق في الهوية والمشروع الحضاري.

ففي كثير من الدول العربية التي مرّت باضطرابات سياسية أو شهدت فشلًا تنمويًا وانهيارًا في العقد الاجتماعي، يمكن ملاحظة ازدياد مظاهر التدين الشكلاني: من انتشار الحجاب واللحى والشعارات الدينية، إلى خطاب عام يتمحور حول الهوية الإسلامية، لا بالضرورة كإطار قيمي وأخلاقي، بل كتعويض رمزي عن الشعور بالهزيمة أو الإقصاء.

بين السلطة والاحتجاج: مَن يوظّف الدين؟

هذا النكوص ليس بريئًا أو تلقائيًا، بل يتحرك ضمن ديناميات سياسية واجتماعية مركبة. ففي كثير من الحالات، تتبنى الأنظمة الحاكمة خطابًا دينيًا "معتدلًا" لتأمين شرعيتها، كما حدث في مصر بعد 2013، أو عبر استعمال الدين كأداة تهدئة في خطاب السلطة كما في الجزائر.

وفي المقابل، يظهر الدين كأداة احتجاج عند بعض التيارات الإسلامية التي ورثت فراغ اليسار والحركات المدنية، خصوصًا في العراق وسوريا. لكنه احتجاجٌ يفتقد، في أغلب الأحيان، التأطير الفكري والمشروع المجتمعي البديل، فيكتفي برموز وردود أفعال متشنجة.

انهيار البدائل وصعود الهوية: العودة إلى الدين، أو ما يبدو كذلك، لا تنبع دومًا من إيمان روحاني، بل من غياب بدائل أخرى. فمع فشل القومية والاشتراكية والليبرالية في تقديم حلول واقعية ومستدامة، بقي الدين المرجع الوحيد غير المهزوم في الوعي العام. ويزيد الطين بلة غياب مشاريع فكرية قادرة على تعبئة الجماهير، وافتقار الدولة لمقومات العدالة والكرامة والتوزيع العادل للثروة، مما يدفع الناس إلى الاحتماء بالدين بوصفه مصدرًا للمعنى والعدالة الرمزية. أما على مستوى التنشئة الاجتماعية، فإن المدارس والفضاء الإعلامي والوعظ الديني تعيد إنتاج فهم شعائري ضيق للدين، يكرّس الطقوس ويهمّش العقل.

من الدين كهوية إلى الدين كتحرّر: لكن السؤال الجوهري يبقى: هل ما نشهده اليوم هو فعلًا "عودة إلى الإسلام"؟ الجواب يقتضي التمييز بين التديّن كهوية والإسلام كرسالة تحرّر وقيم. ما يسود اليوم في كثير من الأوساط هو استخدام للدين كدرع نفسي، لا كمشروع روحي. كوسيلة مقاومة للسلطة، أو امتداد لها، لا كتجربة إيمانية وجودية. والنتيجة المفارِقة أن ارتفاع منسوب الخطاب الديني لا يقابله انخفاض في مستويات الفساد أو تحسّن في التعليم أو صعود في القيم. بل العكس: في أجواء يعلو فيها صوت التدين، نجد أن القيم الإسلامية الأصيلة كالعدل والأمانة والشفافية والمسؤولية، تظل مغيّبة عن الواقع.

الجاليات في الغرب: من الإسلاموفوبيا إلى الهوية المأزومة. الأمر لا يقتصر على الداخل العربي. فحتى في الجاليات العربية والمسلمة في الغرب – أوروبا وأمريكا الشمالية – يلاحظ صعود في التدين الرمزي، خاصة بين الأجيال الشابة. لكنه، مرة أخرى، لا يعكس بالضرورة وعيًا روحانيًا أو عودة إلى جوهر الإسلام، بل غالبًا ما يكون رد فعل على الإقصاء الاجتماعي والإسلاموفوبيا. وفي هذا السياق، تتحول المظاهر الدينية إلى أدوات إثبات وجود، أكثر من كونها انعكاسًا لرحلة إيمانية. وتُستخدم كوسيلة للتمايز أو الانكفاء، مما يعمّق العزلة الثقافية ويحول الدين إلى جدار عازل بدل أن يكون جسرًا نحو الاندماج. وما يعمّق هذا التديّن المأزوم هو غياب خطاب ديني عقلاني، منفتح على التعدد والانتماء المركّب، قادر على نقل الدين من موقع الدفاع إلى أفق التحرر.

ما الحل؟ الحل لا يكمن في إقصاء الدين، بل في تحريره من التوظيف الأيديولوجي والشكلاني. المطلوب هو إعادة فهم الإسلام كمصدر للكرامة والعدالة والرحمة والانفتاح العقلي. ويمكن ذلك عبر أربع خطوات عملية:

  1. إصلاح الخطاب الديني: من خلال دعم قيادات دينية تفهم الواقع الجديد، وتتحدث بلغة الجيل وتربطه بالقيم لا بالمظاهر.
  2. تمكين التعليم النقدي: لإنتاج وعي ديني لا يخاف من الأسئلة، ويُشرك العقل في فهم النص.
  3. تطوير الفضاء الثقافي: لدعم الفنون والأدب والفكر الذي يظهر الدين كرافد إنساني، لا كمؤسسة انغلاق.
  4. الربط بين الدين والمواطنة: تأكيد أن الإسلام، كمنظومة قيم، لا يتناقض مع الانتماء الوطني والاندماج المجتمعي.

يمكن القول ختامًا أننا لسنا أمام صراع بين الدين والحداثة، بل أمام أزمة في فهم الدين ذاته، وفي كيفية توظيفه. المطلوب ليس مزيدًا من التديّن الشعائري، بل نقلة من الدين كهوية دفاعية إلى الدين كقوة تحرّر أخلاقي وفكري. فالدين، كما قال محمد عبده، لا يُعادى العلم ولا الحرية، وإنما يُعادى الجهل والاستبداد. والمجتمعات لا تتقدّم بعمق اللحى أو عدد المحجّبات، بل بعمق الفكرة، ورحابة العقل، واستقامة السلوك.

 

 

الدين بين الإلهام الحضاري والعائق التاريخي: قراءة في أزمة الفكر الديني العربي



كثيراً ما يطرح سؤال جارح في الفكر العربي والإسلامي المعاصر: هل الإسلام هو سبب تخلف العالم الإسلامي، لا سيما في الدول العربية؟

قد يبدو السؤال استفزازياً في ظاهره، لكنه في العمق يعكس أزمة وعي حضاري، ومحاولة للبحث عن تفسير للفجوة بين قيم الإسلام التأسيسية، كما نجدها في نصوصه الأولى، وواقع المجتمعات العربية اليوم، حيث يسود التخلف العلمي والسياسي والتقني.

للإجابة يجب أولاً تحديد أي إسلام نتحدث عنه؟ أهو الإسلام بوصفه نصوصاً مقدسة تحمل قيماً عليا، أم الإسلام كما يمارس في التاريخ والاجتماع والسياسة؟ الفارق هنا حاسم، لأن الإسلام الذي نعيشه اليوم في العالم العربي هو في الغالب إسلام "الهوية"، المرتبط بالطقوس والرموز، أكثر من كونه مشروعاً روحياً أو حضارياً. وغالباً ما يكون هذا الشكل من التدين تعويضاً عن الإحساس بالهزيمة والتهميش، ونتاجاً لفشل الأنظمة السياسية في بلورة مشروع جامع للتقدم.

الدين بين الجوهر والتاريخ

ظهر الدين تاريخياً منذ عشرات آلاف السنين. تجلى ذلك عبر ما يمكن تتبعه من إشارات أولى على وعي الإنسان بما يتجاوز حياته اليومية. فطقوس دفن الموتى لدى الإنسان العاقل قبل نحو مائة ألف عام، التي اتسمت بالعناية ووضع أدوات وزهور في قبورهم تدل على إيمان اولي باستمرار الحياة بعد الموت.

وفي العصر الحجري القديم (40 – 30 ألف سنة) تكثفت العلامات الرمزية في رسوم الكهوف وتماثيل "فينوس"، معبرة عن طقوس الصيد والخصب وتصور أعمق للمقدس.

ومع نشوء الزراعة قبل عشرة آلاف عام، دخل الدين مرحلة التنظيم الاجتماعي عبر بناء المعابد الكبرى، أي مأسسة الدين وتحوله إلى فضاء جماعي. أي أن الحاجة إلى الدين كامنة في التجربة الإنسانية منذ بداياتها الأولى.

ظل الدين عبر التاريخ أحد أعمدة الاجتماع البشري. فقد اعتبر إميل دوركهايم (1858 – 1917)، أحد أهم علماء الاجتماع، في كتابه "الأشكال البدائية للحياة الدينية"، أن الدين أساس الرمزي يمنح الجماعة تماسكها ومعناها، إذ لا يوجد مجتمع بلا شكل من أشكال المقدّس. وعلى مستوى النفس الفردية، رأى عالم النفس كارل يونغ (1875 – 1961) في كتابه "الإنسان والرموز"، أن التجربة الدينية تعبّر عن حاجة عميقة في اللاوعي الجمعي، إذ يرمز الدين إلى البعد الروحي الذي يوازن بين العقل والغريزة ويمنح الإنسان معنى لوجوده.

وهذا يتوافق مع آراء الغزالي (1058 - 1111) وابن خلدون (1332 - 1406). فقد أكدّ الغزالي أن الدين حاجة روحية وأخلاقية، وأن التأويل الصحيح والتوازن بين العقل والنص ضروريان للحفاظ على الدين كقوة حضارية. أما ابن خلدون فرأى الدين كظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد، يمكن أن يكون قوة بناء أو أداة ضبط اجتماعي حسب طريقة توظيفه في الدولة والمجتمع.

صحيح أنه الأنساق الحديثة من القانون والفلسفة يمكن أن تعوّض بعض وظائف الدين العملية، لكنه يظلّ، في أبعاده الرمزية والروحية، مصدراً لا غنى عنه لمعنى يتجاوز المادي والآني، ما يجعله حاضراً بأشكال مختلفة حتى في أشد المجتمعات التي أقصت الدين عن مؤسساتها.

إذن، لا مناص من الاعتراف بضرورة الدين كحاجة إنسانية، بغض النظر عن مفرداته وطقوسه وأساليبه. فقد ظهرت مئات الأديان، واختفى الكثير منها. بعضها سماوي وآخر فلسفي. تقدم جميعها تفسيراتها للكون والحياة، استجابة لرغبة الخلود الدفينة في الإنسان، كما نطقت بذلك ملحمة جلجامش. وكل الأديان تدعو إلى قيم متصلة بحياة الإنسان على الأرض، تمهيداً لانتقاله إلى الحياة الأخرى، أياً ما كانت صورتها.

الدين والإسلام: جوهر القيم وممارسة التاريخ

وبالعودة إلى سؤالنا السابق، يمكن القول إنّ الإسلام يتضمن في جوهره قيماً عليا تدعو إلى العدل والعقل والمعرفة والتكامل والتحرر من العبودية والطغيان. لكن ما يُمارس باسم الدين ليس بالضرورة ما جاء به، بل هو فهم بشري، تاريخي، تراكم عبر القرون، وارتبط بأنظمة السلطة وبالسياقات الاجتماعية والثقافية.

وهنا يكمن لبّ الأزمة: ليس في "الدين" ذاته، بل في طريقة تأويله وتمثله وتوظيفه. فعندما يُحتكر تفسير النصوص من قبل سلطات دينية تقليدية، وترفض القراءة النقدية، ويتحول التراث إلى مادة مقدسة خارج الزمن، يصبح الدين أداة ضغط اجتماعي أكثر من كونه طاقة تحرر وإبداع. عندها يتحول إلى عائق أمام التقدم، لا بصفته ديناً، بل بصفته خطاباً مؤدلجاً.

البدايات الإصلاحية

أول من تنبه إلى هذا المأزق في العصر الحديث كان الإمام محمد عبده (1849 – 1905)، أحد رواد الإصلاح الإسلامي. فقد طرح منذ أواخر القرن التاسع عشر سؤالاً مفصلياً: كيف نلحق بركب التقدم الغربي دون أن نفقد هويتنا؟ وبحسب رؤيته فإن الإسلام دين عقلاني يفتح باب الاجتهاد ويحضّ على العمل والعلم. لكن الجمود الفقهي والتقليد الأعمى هما ما جعلا المسلمين يتأخرون. ومن هنا جاءت دعوته إلى إصلاح التعليم الديني، وإلى تجديد الخطاب الإسلامي بحيث يتوافق مع متطلبات العصر.

وسّع مالك بن نبي (1905 – 1973) لاحقاً هذا الطرح في إطار مشروعه حول "شروط النهضة"، مؤكداً أنّ الحضارة الإسلامية لم تقم إلا حين تفاعل الدين مع العقل والإبداع. وهكذا انتقل خطاب الإصلاح من مجرد الدفاع عن "عقلانية الإسلام" إلى تحليل عميق لآليات الحضارة ومقوماتها.

التفكيك المعرفي

جاءت لاحقاً أجيال من المفكرين العرب لتطرح النقد بطريقة أكثر جذرية. شدد محمد أركون (1928 – 2010) وصادق جلال العظم على تفكيك البنى المعرفية التي أنتجت الخطاب الديني. أشار أركون في كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" على أن المشكلة ليست في "الإسلام" بل في تاريخ تأويله، وفي أنساق سلطوية جعلت الدين يقول ما أرادت السلطة أن يقوله. لذا دعا إلى "أنسنة الفكر الإسلامي" وإخضاعه لأدوات النقد التاريخي واللساني والفلسفي.

أما العظم فرأي أن الخطاب الديني تحول إلى أيديولوجيا تُستخدم لقمع النقد وتثبيت الهويات. وأكدّ في كتابه "نقد الفكر الديني" على أنّ الدين حين يُختزل إلى أداة ضبط اجتماعي يصبح عائقاً أما الحرية والإبداع، كما هو الحال في المثال الإيراني الحالي.

ركّز عبد الله العروي (1933 – 2021) على البعد السياسي – الاجتماعي في كتابه "ديوان السياسة"، معتبراً أن الدولة العربية حين تعجز عن تقديم حلول واقعية، تلجأ إلى الدين كـ"بديل عن السياسة"، لا كرافعة للتجديد. وهنا تختلف مقاربته عن أركون والعظم من حيث تركيزه على وظيفة الدين في بنية الدولة. لذا فإن الإصلاح عنده لا يبدأ من بالاجتهاد في النصوص، بل في تغيير الطريقة التي يُوظف فيها الدين في السلطة والمجتمع.

كان حسن حنفي أكثر اقتراباً من الفكر الإسلامي الإصلاحي من الداخل. فقد دعا في كتاباته المتعددة ضمن مشروع "التراث والتجديد"، إلى تفكيك الموروث الفقهي والكلامي انطلاقاً من أرضيته، مؤكداً أن تجديد الفكر الديني لا يعني إنكار الدين، بل تحريره من البنى السلطوية التي علقت به عبر القرون. وهو يلتقي مع أركون من حيث ضرورة تفكيك التراث، ولكن بخطاب أكثر تصالحاً مع المرجعية الإسلامية.

أما طه عبد الرحمن (1944-) في كتابه "الحداثة من منظور إسلامي"، أن الإصلاح الديني والفكري لا يكفي أن يقتصر على النصوص أو الاجتهاد التقليدي واعتبارها صحيحة بالمطلق، بل يبدأ بإعادة صياغة أساليب التفكير نفسها، وبناء عقل نقدي ومرن قادر على التعامل مع النصوص والقيم الدينية بطريقة عقلانية وأخلاقية. فكرته الأساسية هي في أن يصبح الدين مصدر قوة وإبداع، بدل أن يتحول إلى أداة ضبط اجتماعي أو سلطة جامدة.

وإذا جمعنا هذه القراءات، من محمد عبده إلى طه عبد الرحمن، نرى خيطاً واحداً: الدين في ذاته ليس عقبة أمام التقدم، وما يعوق النهضة هو تأويله وتوظيفه. فحين يتحول الدين إلى مشروع حضاري، كما كان في عصور الازدهار الإسلامي، يغدو قوة دفع معرفي وأخلاقي. أما حين يختزل إلى هوية أو طقوس أو أداة سلطة، يتحول إلى عامل جمود.

كيف يمكن السير بخطوات عملية إذن؟

أولى الخطوات العملية، في رأينا، فإن تكون في إصلاح الخطاب الديني، عبر دمج أدوات التأويل النقدي والقراءة التاريخية للنصوص، وتجديد الفقه بما يتجاوب مع قضايا العصر.

الخطوة الثانية بإصلاح التعليم والإعلام، وتدريس تاريخ العلوم والفلسفة، مع الانتقال من النقد إلى المشاركة العملية في إصلاح الخطاب، وفتح حوار حقيقي حول علاقة الدين بالعقل والحرية.

الخطوة الثالثة تقع على عاتق المؤسسة الدينية، وتتمثل في تحرير الدين من الاستخدام التبريري للسلطة، واستغلاله لتثبيت مواقع القوة والسيطرة بدل أن يكون وسيلة لإلهام الأخلاق وتعزيز العدالة.

توفر أدوات التواصل الحديثة، من الإنترنت ومنصات تواصل اجتماعي، ومنصات نشر فيديوي مثل يوتيوب وتيك توك، فرصة عظيمة للوصول إلى جمهور واسع، واستغلال هذه الوسائل لتقديم خطاب عقلاني مبني على تعزيز قيم الإسلام المعروفة من عدل وكرامة، ويطرح مسائل الحياة الحالية بطريقة نقدية وحضارية.

والسؤال الآن: من سيبادر إلى ذلك؟ المثقفون؟ مصلحون دينيون؟ أو مؤسسات دينية – مدنية مستقلة ذات مصداقية؟ الجواب: كلها مجتمعة في ظل دولة ذات مشروع حضاري.

تجارب عربية معاصرة

شهد المغرب برنامجاً لتأهيل الأئمة والمرشدات عام 2005، بهدف تقديم خطاب ديني متوازن، لقى صدى طيباً في المغرب وبعض الدول الإفريقية. كما شرعت السعودية في إدخال تعديلات على مناهجها ضمن مشروع "رؤية عام 2030" لتكريس قيم الاعتدال والانفتاح، وهو لا يزال في بداياته. ولا يزال الأزهر في مصر في طور نقاش حول حدود إصلاح مناهجه وقدرته على تجديد الخطاب ليتفاعل مع متطلبات الحاضر.

بدأت بعض المبادرات مثل وزارة التسامح في الإمارات وتنظيم لقاءات حوار الأديان، ومنتديات للحوار في قطر. ومع ذلك تظلّ هذه الجهود رمزية إذا لم تتكامل مع إصلاحات فكرية ومؤسسية أوسع.

الخلاصة

إن أزمة الفكر الديني في العالم العربي ليست استثناءً تاريخياً، بل هي جزء من مسار إنساني أوسع، عرفته المسيحية في أوروبا قبل الإصلاح البروتستانتي، وعرفته البوذية والهندوسية في تفاعلاتها مع الحداثة. لكن ما يميز السياق العربي هو أن هذه الأزمات تتشابك مع عوائق اقتصادية واجتماعية وسياسية. فالبطالة والفقر وتراجع الطبقة الوسطى، تجعل التدين في كثير من الأحيان ملاذاً هوياتياً أكثر من كونه قوة دفع حضاري. كما استغلت الأنظمة القمعية الدين لتثبيت سلطتها، بالاستعانة أحياناً بتيارات متطرفة.

ومن هنا، فإن تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن ينجح بمعزل عن إصلاح التعليم والإعلام، ومشاركة المرأة والشباب في إنتاج الفكر، وتحرير الدين من التوظيف السياسي الضيق. المؤسسة الدينية ليست وحدها المسؤولة، بل الدولة والمجتمع المدني والمثقفون جميعاً.

يبقى أن الدين، في جوهره، ليس عائقاً بل مصدراً لإلهام أخلاقي وروحي يمكن أن يوازن ما تعانيه الحداثة نفسها من أزمات، مثل الفردانية المفرطة، وانهيار المعنى، والاستلاب الاستهلاكي. وإذا أُحسن قراءته بعقل نقدي وأفق أخلاقي رحب، يمكن أن يقدم الإسلام إسهاماً جديداً في الحوار الحضاري العالمي، لا باعتباره موروثاً دفاعياً، بل باعتباره قوة خلاقة للمعنى والعدل والحرية.