بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 سبتمبر 2023

غيّر الميكانيك الكمومي وجه العالم



غيّر الميكانيك الكمومي وجه العالم
مُترجم عن مجلة البوليتكنيك الفرنسية

تساعد الفيزياء الكمومية في تفسير السلوك والتفاعلات بين الجسيمات بالإضافة إلى حقول القوة التي تحركها. وُلدت هذه النظرية منذ أكثر من قرن من الزمان، وربما تكون أيضًا النظرية الأقل بديهية من بين جميع النظريات المتاحة للعلماء لوصف العالم وفهمه.

وفيها يجري تقويض المفاهيم الأكثر وضوحًا لتجربتنا اليومية في عالم اللامتناهي الصغير. على سبيل المثال، يمتلك الجسيم خصائص جسيمية وموجية. ولا يتم تحديد موقعه من خلال موقع محدد، ولكن من خلال "سحابة من الاحتمالات" التي تجعله موجودًا في كل مكان تقريبًا في الوقت نفسه، مع فرص أكبر أو أقل للعثور عليه إذا حاولنا في النهاية مراقبته.

علاوة على ذلك، فإن مفهوم القياس ذاته يأخذ معنى مختلفًا تمامًا. ففي عالم الميكانيك الكمومي، لا يمكننا قياس خاصية الجُسيم بدقة لانهائية. والأسوأ من ذلك، وفقًا لمبدأ الأواني المستطرقة، كلما زادت الدقة التي نبلغها بخصوص خصائص معينة (موضع الجسيمات في الذرة مثلاً)، كلما قلت قدرتنا على الخصائص الأخرى (طاقتها مثلاً). وهذه القيود لا تأتي من أدوات القياس لدينا: بل على العكس من ذلك، فهي منقوشة أساساً في القواعد التي تحكم عالم اللامتناهي في الصغر.

أخيرًا، يصف الميكانيك الكمومي أيضًا تبادلات الطاقة بين الجسيمات، ومن هنا جاء تسميته بالميكانيك الكمومي. وعلى عكس عالمنا العياني الكلاسيكي، حيث يمكن لطاقة كرة التنس أو السيارة أن تأخذ أي قيمة، فإن الإلكترون الموجود في الذرة يمكنه فقط أن يصدر أو يمتص كميات محددة بدقة من الطاقة. كل "حزمة" من الطاقة يمتصها أو يبعثها الإلكترون تسمى "كمية" من الطاقة (ومن هنا جاء اسم فيزياء "الكم أو الكموم أو التكميم"). وهذه التبادلات تجري بقفزات متتالية، وليس على نحو مستمر كما اعتدنا أن نراه في حياتنا اليومية.

كل هذه القواعد الغريبة تؤدي إلى مواقف قد تبدو متناقضة، مثل حقيقة أن الجسم الكمومي يمكن أن يوجد في عدة حالات في وقت واحد، أو أنّ ما يسمى بالجسيمين "المتشابكين" مرتبطان أساسًا لدرجة أننا إذا قمنا بتغيير على أحدهما فإن الآخر سيتأثر على الفور، بغض النظر عن المسافة التي تفصلهما.

فيزياء الكم في الحياة اليومية

هذه الحالات الغريبة يجري رصدها يوميا في جميع مختبرات الأبحاث حول العالم. وبعيدًا عن أبواب معاهد الأبحاث، تُستخدم هذه الظواهر لتشغيل العديد من الأجهزة التي نستخدمها يوميًا.

واحدة من أكثر الاكتشافات إثارة للدهشة في فيزياء الكم هي "ازدواجية الموجة والجسيم" الشهيرة. ففي القرن التاسع عشر، أظهرت عدد من التجارب الطبيعة الموجية للضوء، ولكن في عام 1905 اكتشف ألبرت آينشتاين تأثيرًا يسمى "الكهروضوئية" والذي أثبت أن الضوء يمكنه قرع الإلكترونات وإخراجها من ذراتها مثل كرات الحديد. واستغرق الأمر عشرين عاما قبل أن يفهم الفيزيائي الفرنسي لويس دي برولي أن الضوء (وأي جسيم مادي) يتصرف كموجة وكجسيم في الآن نفسه. هذا الاكتشاف هو أصل العديد من التطبيقات اليومية مثل الألواح الكهروضوئية أو عناصر الاستشعار الدقيقة الخاصة في كاميراتنا.

وعلى نحو مماثل، جلب القياس الكمي لتبادلات الطاقة بين إلكترونات المادة العديد من الابتكارات الأساسية التي بدونها لم يكن للتكنولوجيا الحديثة أن توجد.

لنبدأ بالليزر الذي نستخدمه في مشغلات الأقراص المضغوطة، وفي الصناعة لقطع المواد، وفي علم الفلك لقياس المسافة بين الأرض والقمر، وفي الطب لقطع الأنسجة أو كيها، وفي محلات السوبر ماركت لقراءة الرموز الشريطية (الباركود)، وفي طابعات الليزر أو في الألياف الضوئية للتواصل من قارة إلى أخرى.

هذا الضوء الليزري الخاص للغاية، المكون من فوتونات (وهو اسم جسيمات الضوء) متطابقة جميعها، يكون إنتاجه عن طريق إجبار الذرات جميعها على إصدار الكم نفسه من الطاقة. ثم نحصل على هذا النور الخاص الذي سيكون من الصعب الاستغناء عنه اليوم.

تطبيق آخر لنظرية الكم لا أقل ولا أكثر من جميع الإلكترونيات الحديثة! هذه التكنولوجيا الموجودة في هواتفنا المحمولة، وساعاتنا، ومركباتنا، وأجهزة حواسيبنا، وأجهزتنا الطبية (جهاز تنظيم ضربات القلب، وموازين الحمام، وجهاز قياس ضغط الدم، ومزيل رجفان القلب) وعدد لا يحصى من التطبيقات الشائعة الأخرى، تعمل بفضل فهم سلوك الإلكترونات الموجودة في فئة من المواد تسمى "أشباه الموصلات" - وهي عازلة بشكل طبيعي، ولكنها يمكن أن تصبح موصلة بسهولة بتطبيق جهد كهربائي صغير عليها. تُستخدم هذه الخاصية، التي تسمح لك بالتحكم في تدفق (أو لا) التيار الكهربائي حسب الرغبة، في بناء الديودات (ممرر للتيار باتجاه وحيد) والترانزستورات التي تعد العناصر الأساسية لجميع الإلكترونيات.

وعندما تخلط بين انبعاث الضوء المتحكم فيه وأشباه الموصلات، فإنك تصنع مصابيح LED (ديودات باعثة للضوء)، والتي تحل حاليًا محل جزء كبير من مصابيح الإضاءة القديمة الأكثر استهلاكًا للطاقة.


فيزياء الكم والظواهر الطبيعية

الميكانيك الكمومي موجود في كل مكان حولنا: في التطبيقات التكنولوجية التي قمنا بتطويرها، ولكن أيضًا في جميع الظواهر الطبيعية التي تحيط بنا والتي لا يمكننا فهمها دون استخدام الصيغ الكمومية.

إذا كانت الشمس تضيء، فذلك بسبب عمليات الاندماج النووي في قلبها، والتي تعود في أساسها لغرابة كمومية أخرى: تأثير النفق، الذي يسمح للجسيمات "بالقفز" على حواجز جُهد لا يمكن اختراقها في العالم الكلاسيكي. أما زرقة السماء فترجع إلى الطريقة التي يتفاعل بها ضوء الشمس مع جزيئات الغلاف الجوي للأرض.

حتى عملية التمثيل الضوئي (العملية التي تقوم النباتات من خلالها بتحويل الطاقة التي تتلقاها من الشمس إلى مادة عضوية، والتي تمتصها الحيوانات العاشبة، وتستهلكها الحيوانات آكلة اللحوم بدورها) يُشتبه، في أحدث الأبحاث، في وجودها بسبب الظواهر الكمومية التي كشفت بيولوجياها الغامضة عن وجودها. لم يتم حلها بعد.

لقد أحدثت فيزياء الكم ثورة في الطريقة التي يفهم بها البشر العالم ويشكلونه. ولكن منذ نهاية القرن العشرين، بدأت "ثورة كمومية ثانية"، حيث يتم استغلال العمليات الأساسية لميكانيكا الكم لتطوير تقنياتنا إلى مستوى لم يتم تحقيقه من قبل، كما في حالة الحاسوب الكمومي الجاري العمل عليه، والذي ستفوق سرعته سرعة الحاسوب الحالي بمئات وآلاف المرات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق