بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

المسبر باركر والتاج الشمسي

باركر وصورة مسبره
في الثاني عشر من آب لعام 2018 أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) المسبر باركر متجهاً نحو الشمس، وهو بذلك أول محاولة اقتراب من نجم أياً كان، ومن الحري أن يكون نحو النجم الأقرب والأهم لنا وهو الشمس. المسافة التي تفصلنا عن الشمس هي نحو 150 مليون كيلومتر. وللاقتراب منها فمن اللازم أن يكون المسبر سريعاً، وهو بالفعل كذلك. فسرعته العظمى هي 700 ألف كيلومتر في الساعة، وهو بذلك أسرع شيء من صنع الإنسان. وبمثل هذه السرعة يمكن الوصول إلى القمر بنحو نصف ساعة! ولكن العربة لن تبلغ أول مداراتها قبل تشرين الثاني من هذا العام.  وستدوم الرحلة بمهامها سبع سنوات. المسبر بحجم السيارة العادية وبكلفة بلغت 1.5 مليار دولار. لن يبقى المسبر في مكانه ثابتاً بل سيتحرك باستمرار ليقوم بخمس وعشرين دورة حول الشمس، مقترباً منها تارة ومبتعداً تارة أخرى ليرسل معطياته إلى الأرض. وفقط في الدورات الثلاثة الأخيرة سيقترب إلى مسافة 6 ملايين كيلومتر من الشمس.

التاج الشمسي بالأبيض وطبقة الغلاف الشمسي الأولى بالأحمر
الهدف الأول من هذا المسبر هو الاقتراب من الشمس والوصول إلى غلافها الجوي، وبالتحديد منطقة التاج الشمس. وهذا يعني الوصول إلى مسافة نحو 6 ملايين كيلومتر من الشمس. والغرض من وراء ذلك فهم سبب ارتفاع درجة الحرارة في منطقة التاج إلى أكثر من مليون درجة في حين أنها لا تزيد عن 6000 درجة على سطح الشمس. أي أن درجة الحرارة تزداد مع الابتعاد عن الشمس وليس العكس، وهذه الزيادة تكون في أوجها في المنطقة الثانية من الغلاف الجوي للشمس: التاج الشمسي! وبالرغم من وجود نظرية تفسّر ذلك بالقول بأن سبب ذلك هو التغيرات في الحقل المغناطيسي وكثرة البراكين الشمسية التي لا ترى من الأرض. إلا أن هذه النظرية لا تلقى القبول التام، وهذه المسألة تبقى من بين مسائل الفيزياء المستعصية. أحد أهم من عملوا في هذا المجال هو الفيزيائي الفلكي الأمريكي أوجين باركر الذي سمي المسبر باسمه وهو لا يزال على قيد الحياة ومن أهم المختصين بالشمس في العالم.

الريح الشمسية التي لها أن تؤثر أحياناً في الغلاف المغناطيسي للأرض
ولماذا نريد أن نفهم ذلك؟ ذلك أن الحرارة المتشكلة في منطقة التاج هذه تؤثر فيما نسميه بالرياح الشمسية، وهي الريح التي تحمل معها كميات هائلة من المادة تصل إلى ملايين الأطنان في كل ثانية. ولنا أن نتساءل عن سبب ابتعادها عن الشمس بسرعات عالية تصل وسطياً إلى 500 كيلومتر في الثانية! وهذه الريح التي يصل أثرها إلى الأرض تسبب اختلالاً في عمل الشبكات الكهربائية، وذلك بتوليدها لتيار مستمر في خطوط التوتر العالي الطويلة تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة المحولات الكهربائية على هذه الخطوط مثلما حصل في كندا عام 1989 وانقطاع الكهرباء عن ستة ملايين شخص. هذا طبعاً غير تأثيرها في الاتصالات والبث التلفزيوني والراديوي. وفهمنا لهذه المسألة سيمكننا من توقع "مواسم" الرياح الشمسية ومن ثم تجنب آثارها في الشبكات الكهربائية.... كما أن على هذا المسبر أن يساعد في دراسة فيزيائية أخرى منها دراسة حركة الجسيمات الذرية (إلكترون وبروتون ...) عالية الطاقة.

ولكن لماذا لم تقم الناسا بإرسال مسبر للاقتراب من الشمس ودراسة التاج الشمسي قبل ذلك؟ الأمر بسيط ومعقد في الآن نفسه. إذ على هذا المسبر أن يتحمل درجات حرارة عالية، نحو 1600 درجة، دون أن تتلف أجهزة القياس والتصوير والتحليل والاتصالات التي يجب أن تبقى في حدود 25 درجة مئوية. ولبلوغ ذلك انتظرت الناسا نحو ستين عاماً أحرز خلالها تقدم هائل في علم المواد مكّن من بناء المسبر بدرعه الواقي المقاوم للحرارة والمواد العازلة لعزل الداخل عن الخارج تماماً. وكذلك الانتظار حتى التمكن من بناء محرك دافع للمسبر بقوة زادت عن 55 مرة عن تلك التي استعملت لنقل عربة آلية جابت بعض أنحاء المريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق