بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 ديسمبر 2017

الصدفة والزهر وما بينهما

تستخدم في الفرنسية كلمة hasard التي أحد معانيها هو "الصدفة"، وهي مشتقة من الإسبانية azar التي أيضاً لها معنى الصدفة من بين معان أخرى. والكلمة الإسبانية هذه مأخوذة على الأغلب من كلمة "الزهر" المستخدمة في العربية الدارجة الحالية! وهذه الكلمة وردت في قصائد لشاعر فرنسية نورماندي من القرن الثاني عشر، واستخدمها الرياضياتي الفرنسي باسكال فيما سماه "هندسة الصدفة". ولا يمكن لأحد أن يؤكد أن هذه الكلمة كانت مستخدمة لدى عرب الأندلس أثناء مكوثهم فيها، كما أن لا أحد يستطيع نفي استخدامها. ولمّا لم يكن للإسبان صلة بكلمة "الزهر" إلا عبر العربية، فلا يمكن إلا قبول الأصل العربي لهذه الكلمة.

ولكن العربية الفصحي تستخدم كلمة "الفَصُّ" للتعبير عن الزهر عندمل تعرّف معاجم اللغة العربية الكلمة الفارسية "النرد" أو النردشير، كم هو حال المعجم الوسيط "النَّرْدُ : لعبة ذات صندوق وحجارة وفصَّين ، تعتمد على الحظ وتُنْقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفَصُّ : [ الزَّهر ]". لذا فهناك من يقول إن كلمة زهر مشتقة من كلمة أخرى هي "يسر" التي هي جذر كلمة "ميسر". والميسر في العربية هو القمار الذي هو: رِهَانٌ قَائِمٌ عَلَى الصِّدْفَةِ وَالْحَظِّ بِأَدَوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ، يَأْخُذُ بِمُقْتَضَاهُ الغَالِبُ مِنَ الْمَغْلُوبِ القَدْرَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ. وكلمة "يسر" هذه لفظها الإسبان yasar، التي تحولت إلى azar، ولكن لا شيء يؤكد ذلك، ولكنه محتمل إزاء ضعف احتمال استخدام عرب الأندلس لكلمة "الزهر".

ولكن اللعب بالزهر عُرف في الهند منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. وهو مكعب تحمل أوجهه الستة أشكالاً أو أرقاماً يظهر أحدها عند الرمي به على الأرض أو رقعة قماش أو جلد. والوجه الذي يظهر عليه حالياً نقطة واحدة كانت في الأصل رسم لزهرة، ومنه جاء اسم "الزهر"، كما استخدمته شعوب آسيا الوسطى والرومان لاحقاً، ولقيصر تعبير يقول "ألقى به القدَدًرْ" في إيمائة للإلقاء بالزهر.

والصدفة كلمة استخدمت كثيراً في القرن العشرين، خاصة في المجال العلمي. استخدمها آينشتين في قوله "الله لا يلعب بالزهر" لتأكيده بأن الأشياء تسير في الكون وفق حتمية لا مجال فيها للصدفة. وهناك من أجابه على ذلك. أولهما فيما يقال الفيزيائي الألماني الشهير بلانك موجهاً كلامه إلى آينشتين: "ألبرت، توقف عن إملاء ما على الله أن يفعله" بمعنى أنه لا يمكن أن تعرف قصد الله. وفي رواية أخرى فإن من أجابه على هذه الجملة كان الفيزيائي الدينماركي بوهر: "ومن أنت حتى تملي على الله ما يفعله!"، وذلك في سياق مناظرة عبر مقالات علمية عن حتمية الطبيعة وعدم اكتمال رؤية بوهر الكمومية للطبيعة، وهي مناظرة انتهت في النصف الثاني من القرن العشرين لصالح بوهر ولكن آينشتين كان قد توفي، وعاش بوهر لمشاهدة بداية صواب رأيه في تلك المناظرة.

أما الفرنسي جاك مونو، الحائز على جائزة نوبل في البيولوجيا، فقد وضع كتاباً بعنوان "الضرورة والمصادفة" يؤكد فيه أن الصدفة هي الأصل في الحياة ولا شيء غيرها يمكنه أن يفسر مجريات الكون. ولكن الكاتب الفرنسي جورج برنانو (1888-1948) كان قد كتب بأن الصدفة هي "منطق الرب"، بمعنى أنه تركها كهامش حرية في مسيرة الكون كي يتدخل وقت الحاجة دون المساس بالحتمية!

أما في الإنكليزية فإن الكلمة تكتب hazard بمعنى المخاطرة أكثر منها بمعنى المصادفة. والمخاطر في الإنكليزية هي أيضاً risk، وهنا اجتهد البعض بالقول بأن هذه الكلمة مأخوذة من العربية أيضاً، ألا وهي "الرزق"، وفي الرزق والحصول والمحافظة عليه مخاطركثيرة. ولكن للكلمة الإنكليزية مقابل إغريقي هو risikon، وهي كلمة استخدمها هوميروس في الأوديسة في القرن الثامن قبل الميلاد.


غاية الكلام أنه من الصعب القول الفصل بأصول الكلمات بالرغم من التوثيق والبحث الكبيرين الذين جريا في اللغات اللاتينية والإنغلوسكسونية، ولا مقابل له للأسف في العربية على ما نعلم. ذلك أن الناس لم تتوقف عن الاتصال ببعضها منذ الأزل لأسباب مختلفة، ربما من أهمها التجارة، ... التجارة التي برع فيها الفينيقيون منذ ثلاثة آلاف عام، وجابوا بلاد عالم زمانهم حاملين معهم كلماتهم إلى الآخرين وآخذين من هؤلاء كلماتهم ... واختلط الكلام متقارباً على خلاف أسطورة برج بابل.

وبالصدفة سمع كاتب هذه الورقة بكلمة hasard فكتب هذه الورقة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق