بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 نوفمبر 2018

الحقائق التخيلية

يبدو العنوان غريباً، بل متناقضاً. كيف يمكن للحقائق أن تكون تخيلية، فالحقيقي حقيقي وغير متخيل؟ نعم هذا صحيح كما يبدو لأول وهلة، فهناك حقائق لا يرقى إليها الشك أبداً مثل أني أكتب هذه الورقة أو أنك تقرأها. أو وجودنا جميعاً فهو من الحقائق وليس من التخيل. وأشياء كثيرة نفعلها في حياتنا هي كذلك. وهناك حقائق لا نلمسها لنقص في أدواتنا الحسيّة، العطالية مثلاً في حالة دوران الأرض الذي لا نشعر به لذا نعتقد أنها ثابتة. أو الذرة ومكوناتها بسبب عدم قدرة النظر والقدرة التميزية لأدواتنا التقانية! وأما التخيل فهو بين الأحلام وأضغاثها، أو التوهم، أو الظن، أو التصور لأشياء موجودة أو لا وجود لها. وتصور الأشياء الموجودة هو عمل ذهني يستخدم صوراً مخزّنة في الذهن، كتصور بيت أحدهم من مجرد وصفه لهذا البيت، وهو تصور وليس رؤية حقيقية. أما التنين ذو الرأسين أو طائر الفينيق فهي تصورات لأشياء غير موجودة. وهذه وغيرها هي من الخيال.

ولكن ما هي الحقائق التخيلية؟ هي أشياء "تعيش" بيننا ونحن من يعطيها قيمتها وبدون ذلك فلا قيمة لها. أي أنها أشياء في الأصل لا تمثل شيئاً أو لم تكن موجودة ونحن من أوجدها وأعطاها قيمة وأصبحت من "الحقائق". مثال ذلك الأوراق المالية. نحن من ابتكرها، ونتعامل فيها، ونعطيها من القيم ما نريد، ونتعامل فيها على أساس هذه القيم، ويمكن أن نتخلى عنها وتعود لا قيمة لها. وهي في الحقيقة الحقيقة مجرد ورق ليس إلا، قيمتها تساوي قيمة ورقها فقط لا غير. فالمارك الألماني كان ما كان له من قيمة، وكان من أقوى العملات، تم التخلي عنه مع استعمال اليورو الذي أُعطي ما أعطي من قيمة. ولهذا اليورو أو أية عملة أخرى أن تتحول إلى أوراق لا قيمة لها إن تخلينا عنها أو أنكرنا قيمتها. الأمر نفسه بالنسبة للدولار الذي يستمد قيمته من عوامل شتى أولها قبولنا للقيمة المعلنة له والتي سيفقدها فيما إذا قرر البشر وقف التعامل بالدولار. واليوم لدينا العملة الرقمية، البيتكوين، الذي لا يستند إلى أية قيمة سوى القيمة التي نعطيها له وإن توقفنا عن ذلك سيتحول إلى سراب. سراب قد يتحول إلى خراب، إذ أنه أمر حقيقي من صنع الخيال.

أمر آخر من بين الحقائق التخيلية هو الدول والأوطان والحدود. فهي من اخترع وتصورات أبنائها وليست من الحقائق الدامغة. فالناس اخترعت الحدود والدول والممالك والأوطان، لمصلحة البعض ربما كدافع أولي، أصبحت من الحقائق المتخيلة. والثقافات، بمعنى المعتقدات والعادات والتقاليد والقيم والسلوك، هي بالنسبة لأبنائها حقائق لا يجوز الشك فيها ولكنها في الواقع ليست إلا من صنع أبنائها. ولذا كان الاختلاف بين الثقافات. فالبقر مقدس لدى أبناء الهندوس وهو طعام أساسي لدى شعوب الغرب مثلاً. والثقافة تتغير مع مرور الوقت. فقد كان الفراعنة أنصاف آلهة أو أبناءها، وهذا كان ضمن اعتقاد الناس الذين تمحورت حياتهم حوله. ولم يكن للفراعنة أن يبنوا الأهرامات لولا اعتقاد المصريين بألوهية فراعنتهم وقبولهم المشاركة عن طيب خاطر ببناء أهرامات (قبور) لآلهتم حيث ستقيم في الحياة الثانية! وهذه المعتقدات كانت تمثل حقائق لقدماء المصريين، وهي حقائق تخيلية. يبدو لنا اعتقاد المصريين الفراعنة مضحكاً اليوم، ولكن قد لا نكون بأحسن حال منهم وإن كان بتجليات أخرى.

عاش الإغريق دهراً يبنون حياتهم على أساطيرهم، أساطير اخترعوها وشذبوا فيها، وصنعوا عبرها آلهات بتراتبيات مختلفة. وقدموا لها القرابين تقرباً أو زلفى لتعينهم في حياتهم وأعمالهم ومعاركهم. وهذا هو أغامنون يقدم ابنته إيفجيني قرباناً للآلهة كي ترضى ولا تعيق انتصاره في حرب طروادة. حرب شاركت فيها الآلهة وأنصاف الآلهة مثل أخيل. آلهة سادت على مرّ أكثر من ألف عام، تخيلها الإغريق و"عاشت" بينهم على أنها حقائق لا يرقى لها أدنى شك. فزيوس عاش بين ظهراني الإغريق كأنه فرداً منهم برتبة إله، أو أكبر الآلهة... يمكن لسلسلة الحقائق التخيلية أن تطول بمجرد تذكر القيمة التي تعطى للحلي أو اللوحات الفنية التي تستمد حقيقتها من تخيلاتنا دون غيرها، ولولا اكتراثنا بها لما كان لها أية قيمة. ولو وضعت لوحة الجيوكندا بين أيدي بعض قبائل الأمازون لأوقدوها ناراً يدفئون بها. السند الأهم للحقيقة التخيلية هو الكلام أو ما شابهه، والكلام هو من يصنع حقيقتها. وكثير مما يدور حولنا هو من صنع الكلام، النجومية الفنية والسياسية والاجتماعية مثلاً هي من صنع الكلام أولاً.

بعض التخيل ضروري لتجسيد الحقائق. فلولا تخيلنا أن الآخرين سيساعدوننا لما حدثت أشياء كثيرة. ولو تخيلي بأن البعض سيقرأ هذه الورقة لما كتبتها. وهذا التخيل مهم جداً في التحرك إلى الأمام. وهو تخيل يمتاز به الإنسان عن باقي الكائنات، وربما هو الفارق الأكبر... وبعض التخيل قد يكون ضاراً جداً، أو قاتلاً ربما، كما هو الحال في تخيلنا أن الحياة على الأرض ستستمر بالرغم من كل ما نرتكبه من حماقات نغمض أعيننا عنها بأمل أن يتحقق تخيلنا الذي، كما تشير كل المعطيات الحالية، ليس إلا وهماً دون الحقيقة.

يمكن، لمن يريد، مشاركة هذه الورقة... مع جزيل الشكر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق