بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

كلمات رنانة تحتاج إلى مساءلة

ظهرت في الخمسين سنة الماضية كلمات رنانة اعتقد مطلقوها ومستخدموها أن فيها الدواء والعلاج للكثير من المشاكل والعثرات التي تعيشها مجتمعات اليوم. وبما أن مجتمعات اليوم تسير وراء الاقتصادي أكثر منها وراء الاجتماعي أو حتى السياسي، فمعظم هذه الكلمات/المصطلحات أتت من خلفية اقتصادية. ولما لا، فالحديث عن التنمية يقصد به النمو الاقتصادي ومعدلاته. والتطور هو اقتصادي وهو هدف المجتمعات كلها، المتقدمة وكذلك النامية. وكلها تتحدث عن معدلات النمو، الصين حققت كذا وتركيا حققت هذا وأمريكا تحقق ذاك. وكأن التطور السياسي والاجتماعي سيكون تحصيل حاصل بمجرد تحقيق النمو الاقتصادي. ولكن لا شيء من هذا والصين خير مثال. والصين اليوم تستثمر في البحوث العلمية جداً، وهي أول المستثمرين اليوم في الذكاء الصنعي مثلاً. وليس سبب الاستثمار لما يعود من الذكاء الصنعي على المجتمع وإنما على الأرباح والاقتصاد. وقد يكون الذكاء الصنعي سبباً لأزمات اجتماعية أو لا، ولكن هذا ليس في أولويات المستثمرين في هذا المجال. والأزمات الاجتماعية ليست من الكلمات الرنانة.

ومن بين الكلمات الرنانة كلمة المرونة flexibility التي يقصد بها ليس فقط القدرة على التكيف مع كل الظروف وإنما أيضاً الاستعداد للقيام بأعمال متعددة ليست بالضرورة من صلب العمل الرئيسي. والسبب في هذه المرونة المطلوبة هو تحقيق أكبر قدر من الإنجاز بأقل الكلف. مثال ذلك موظف أو موظفة (وهي الأكثر) الصندوق في المحلات التجارية الكبيرة. فهؤلاء يطلب منهم العمل في أشياء أخرى في ساعات يقل فيها الزبائن حيث تتوقف بعض الصناديق ويُبقى على العدد الكافي. وهؤلاء الذين توقفت صناديقهم لبرهة يطلب منهم مثلاً الانتقال إلى نقل البضائع من المخزن ووضعها على رفوف المحلات، وبعد فراغهم من ذلك يطلب منهم القيام بتنظيف المتجر أو أشياء أخرى. وهذه المرونة وضوحاً تؤدي في نهاية المطاف إلى اختزال عدد العاملين في المتجر بقصد التوفير في الأجور بغية المنافسة والربح. ولكن من يدفع ثمن هذه المرونة هم هؤلاء العاملون الذين يصابون بالإعياء والإنهاك في آخر النهار. وهذه المرونة لا تترافق مع زيادة في الرواتب، أبداً. ولهذه المرونة أن تمنع بالضرورة إمكانية توقف العاملين للثرثرة قليلاً بكل ما للثرثرة من فائدة خلق صلات اجتماعية، فهؤلاء الموظفون مراقبين جداً.

وهذه المراقبة تجري بطريقة "متوحشة" في مؤسسات كثيرة منها المصارف. فموظف المصرف الذي يستقبل الزبائن مراقب بكاميرات مرتبطة بأنظمة ذكية تراقب حركات وسكنات الموظف وتحصي عليه انضباطه أو عدمه في الالتزام بموضوع مقابلة الموظف للزبائن. وبالرغم من الكلمة الطنانة التي تقول بأن "الزبون ملك"، لكن المصرف يتعامل مع موظفه على أساس عدد العقود التي أنجزها في اليوم أو في الأسبوع. ومحاولة الموظف القيام بتصرفات استلطاف تهدف إلى خلق نوع من المودة بين الموظف والزبون لن تكون مقبولة إذا تجاوزت دقائق محدودة لأن على الموظف أن يحترم الخطة الزمنية التي يضعها المصرف لموظفيه كل يوم. والخروج عن الخطة، إن تكرر، قد يؤدي إلى خروج الموظف من المصرف بلا عودة. والخطة أيضاً من بين الكلمات الرنانة. وهذه العملية تؤسس على كلمات رنانة أيضاً مثل "الفاعلية efficiency" التي ترتبط بمقدار الإنجاز. وهنا يتقوقع الإنساني أمام الاقتصادي.

والإنتاجية productivity هي أيضاً من الكلمات الرنانة. فهذا إنتاجيته عالية وهذا إنتاجيته أقل. والحديث يكون عن أفراد أو فرق عمل سيان. ومن بين عوامل زيادة الإنتاجية عامل "كسب الوقت"، وهو أيضاً من الكلمات الرنانة، أو تلافي إضاعة الوقت باختصار عمليات تسبب إضاعة الوقت في إنجاز عمل ما. التجول مثلاً داخل مخزن مع ورقة دونت عليها أشياء مطلوبة موجودة على رفوف المخزن ويجب إحضارها وإرسالها إلى زبون ما. فتكرار النظر في الورقة والبحث عن الرفوف فيه إضاعة للوقت. لذا قامت إحدى الشركات العالمية بإنتاج السماعات الرقمية. وهذه السماعات يضعها الموظف العامل على أذنيه، وهي متصلة بحاسوب يملي عليه المواد المطلوبة ويحدد له مكان وجود كل منها. والحاسوب
هنا لا يتوقف عن إملاء طلبات الواحد تلو الآخر. الإنتاجية هنا عالية جداً، ولكن العامل يعود إلى بيته يردد صدى الطلبات التي قال بعضهم إنه يسمعها في أحلامه... وفي مصنع رينو الفرنسي للسيارات انتحر أحد عمال إنتاج السيارات، أثناء عمله معلى مرأى من زملائه، لشدة وطأة إيقاع العمل بضغط الإنتاجية. وما حدث أن رفاقه لم يأسفوا جداً على موت صاحبهم لأنه كان يبطئ العمل في خط الإنتاج وكان من الأفضل له ولنا الاختفاء كما قالوا!!...هذه الكلمات أصبحت جزءاً من ثقافة معاصرة يتراجع فيها الإنساني أمام الربحي والاقتصادي بشكل همجي.

كلمات رنانة كثيرة لا يتسع المجال للحديث عنها كلها، وهذه إنما هي عينة. هناك كلمة تستخدم اليوم كثيراً وهي التجديد innovation  والابتكار. والهدف هنا هو الاقتصادي أيضاً، ولكن هذا الهدف يمكن تحقيقه بالتجديد في حياة الناس وسبل جعلها أقل قلقاً وقلاقلاً والأرض أكثر استقراراً... لكن هذا لن يحدث لأن الاقتصادي الاقتصادي طغى على الاجتماعي الاجتماعي، وما لم يعد التوازن فنحن نسير في المجهول...دمتم بخير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق