بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 يناير 2018

أبيقور... فيلسوف السعادة

هو فيلسوف من القرن الرابع قبل الميلاد، ولد عام 341  وتوفي عام 270. ومما جعل فلسفته تشتهر هو أنه أمضى حياته محاولاً حل اللغز الكبير الآتي: ما الذي يجعل الناس سعداء؟ ناقش الفلاسفة قبله على نجو مطوّل سؤال ما الذي يجعل الناس طيبين، ولكن أبيقور فضل أن ينظر إلى ما هو مثير للفرح، فالحياة لسوء الحظ مليئة بالمرارة والألم. وعندما علم الناس أن أبيقور أقام مدرسة لدراسة السعادة جرى الخبر في كل مكان، وأشيع أن المدرسة كانت تشتمل عشرة دروس عن الموائد والحفلات الخلاعية، وقيل عن أبيقور أنه يمضي ليال حمراء مع فتيات عذارى كل ليلة. طبعاً كل هذا لم يكن صحيحاً. فقد كان أبيقور وأصحابه يدرسون السعادة وكانوا يفعلون ذلك بتقشف حاد. فكل ما كان يملكه أبيقور هو عباءتان وخبز وزيتون يقتات بهما، وقطعة من الجبن عندما يصح له ذلك، أما عن غرفة نومه فقد كان يجيب دائماً بأنه تزوج الفلسفة.

وبعد دراسته السعادة بصبر على مدى سنوات عديدة وصل بنتيجتها إلى خلاصات ثورية لافتة عما يجب فعلاً لنكون سعيداء. وهو يقول بأننا نقترف ثلاثة أخطاء عندما نفكر بالسعادة، وهي: الأول هو افتراضنا أن السعادة مرتبطة بالعشق والعلاقات الغرامية، ولكن أبيقور لم ير السعادة عندما نظر إلى الأزواج من حوله الذين امتلأت حياتهم بالغيرة وسوء الفهم والخداع والغضب. ولاحظ في الوقت ذاته أنه في الصداقات الجميلة ينحوا الناس لأن يكونوا مكرمين من أصدقائهم ومعهم وإيثاريين دون محاولة سيطرة أحدهم على الآخر، لذا فإن الصداقة تضع الطبيعة الإنسانية في أعظم تجلياتها. ولكن المشكلة الوحيدة التي لاحظها أبيقور هي أننا لا نرى أصدقاءنا بما فيه الكفاية. الخطأ الثاني الذي لاحظه أبيقور هو: الظن عادة بأننا نحتاج إلى الكثير من المال كي نكون سعداء. ولكن لا يبدو أننا نزن فعلاً التضحيات التي نقدمها للحصول على المال وكذلك الآثام التي نرتكبها، من غيرة وغدر وساعات عناء طويلة. ولكن الذي يجعل العمل مرضياً فعلاً ليس المال كما يعتقد أبيقور، ولكن القدرة على العمل وحيداً أو ضمن مجموعة صغيرة، مثل العمل في مخبز أو محل لإصلاح القوارب، وعندما نشعر أننا نساعد الآخرين فإننا نساهم في تغير العالم ولو بقدر بسيط وهذا مصدر للسعادة بحد ذاته. أما الخطأ الثالث فتمثل كما لاحظ أبيقور في جموحنا نحو الأشياء الثمينة من بيوت مترفة وأثاث فاخر، ولكن وراء حبنا للفخامة فإن هناك شيئاً آخر نحاول الحصول عليه. وما نريده هو إحساس بالسكينة وصفاء ذهن حر وليس الملل والفوضى. والسؤال الكبير هو: هلل للفخامة أن تصنع السكينة؟ لم يكن أبيقور متأكداً.

وبدراسته السعادة بعمق أعلن أبيقور عن تصورات ثورية تقول بأننا نحتاج إلى ثلاثة أشياء كي نكون سعداء في هذه الحياة.  نحتاج أولاً إلى الأصدقاء من حولنا، وما يهم هو انتظام اللقاء بهم. وهكذا فقد قام أبيقور بفعل ما يحلم معظمنا، إذ اشترى بيتاً كبيراً وعاش فيه مع أصدقائه، حيث كان لكل منهم جناحه مع أماكن مريحة مشتركة، وهذا يؤدي مثلاً إلى وجود شخص ما دائماً في المطبخ يمكنك التحادث معه. ثانياً، على الناس أن يعملوا لصالح بعضهم البعض بنوع من الاكتفاء الذاتي ودون أن يكونوا مضطرين لدفع أموال للحصول على ما يريدون، فللبعض أن يزرع والآخر أن يطهو والبعض الآخر أن  يقوم بالنقل وآخرون بالكتابة وهلمجرا، أي أن يعيشوا حياة جماعية كأسرة واحدة. وثالثاً،  التوقف عن التفكير بأنه يمكنك أن تشعر بالسكينة لمجرد وجودك أمام منظر جميل، وإنما المسألة تحتاج إلى جهد شخصي يبذله المرء على نفسه ولنفسه. لذا كرّس أبيقور ورفاقه أنفسهم للعثور على السكينة في عقولهم وبخلوتهم لبعض الوقت مع أنفسهم في التفكير والكتابة والقراءة والتأمل... كانت هذه التجربة ناجحة لدرجة أن كل أفراد المجموعة كانوا سعداء.


انتشرت هذه الفكرة انتشار النار في الهشيم، وأقيمت جماعات على الطريقة الأبيقورية حول البحر المتوسط كله، وصل عددها في أقصاه إلى نحو 400 ألف جماعة منتشرة من إسبانيا إلى فلسطين. أوقفت الكنيسة هذه الحركة في القرن الخامس. وتحولت مقرات بعض الجماعات إلى أديرة، أديرة لم تكن في الأصل إلا مقرات أبيقورية. ومن بين من اهتموا بدراسة أبيقور كان الفيلسوف الشهير ماركس الذي كان موضوع رسالته في الدكتوراه هو الفلسفة الأبيقورية. وما أشيع لاحقاً عن جماعات شيوعية لم يكن إلا تحويلاً فاسداً لأفكار أبيقور... الخلاصة الإبيقورية هي أن الناس لا يحسنون بلوغ السعادة لأنهم يفكرون أساساً بأن ذلك سهل للغاية، وأن بلوغ ذلك يتمثل في التملك وإشباع الرغبات، ولكنه يؤكد القول بأن جزء كبير من السعادة يكمن في الرضا والصحبة الطيبة.... إن لفلسفته أن تساعد على التفكير بقضايا المال والرأسمالية والمجتمعات الاستهلاكية المستفحلة... لأبيقور مساهمات في مجالات أخرى كان فيها ذو حصافة نادرة. من بين ذلك مبدأه في الأخلاق: الفعل هو أخلاقي طالما أنه لا يسبب ألماً لأحد.

معظم مادة هذه الورقة يمكن الاستماع إليها بالإنكليزية عبر هذا الرابط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق