بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 30 يناير 2018

حاسة الشمّ ... الحاسة الثانوية!

بالرغم من أهمية حاسة الشمّ فإنها الحاسة التي لا تثير الانتباه إلا نادراً بين الحواس الخمس: السمع والبصر واللمس والتذوق والشمّ. وضعفها أو غيابها لا يثيران الاهتمام بقدر غياب حاسة السمع أو البصر. وهي تتساوى ربما مع حاستي اللمس والتذوق، وإن كانت تبدو ظاهرياً أقل استعمالاً من هاتين الحاستين بالرغم من ملازمتها لعملية التنفس. يمكن لهذه الحاسة أن تكون بديلاً عن السمع والبصر أحياناً، فبعض الحيوانات تستعملها في تتبع فرائسهاً ليلاً، كما أن الإنسان يسير "خلف الرائحة" كما يقال.

للسمع والبصر أجهزة طبية تساعد على مقاومة أثر ضعفهما، وهو ما لا يتوفر لباقي الحواس. السبب هو أن الحواس الثلاثة هذه تكون عبر العصبونات مباشرة بدون وسيط كما هو الحال في السمع والبصر. وفي المجتمعات الصناعية يمكن الحصول على تعويض مالي عن تأثر حاستي السمع أو البصر نتيجة للعمل الذي نمارسه، أما تعرض حاسة الشم للإصابة فلا تعويض مالي له بالرغم من أن إصابتها ممكنة تماماً خاصة عند العاملين في الصناعات الكيمائية، وهي صناعة كبيرة جداً. السبب في ذلك هو أن القوانين السارية حتى اليوم لا تشير إلى أن فقدان حاسة الرائحة يؤثر في الحياة اليومية للإنسان.

مسارات حركة الجزيئات الحاملة للرائحة مع الظهارة الشمية باللون الأحمر
يكون الشم عن طريق تحسس محتويات الهواء التي تنتقل عبر الأنف إلى الظهارة (epithelium) الشميّة الواقعة في التجويف خلف الأنف وعلى مستوى العينين تقريباً. وهذه الظهارة مؤلفة من ملايين العصبونات التي تتأثر بالجزيئات التي يحملها الهواء المرشّح عبر الأنف، أو الجزيئات المتصاعدة إليها (الظهارة) من مؤخرة التجويف الفموي بنوع من التغذية الخلفية، أي أن بعض الرائحة تنتقل عن طريق الفم. وعبر هذه الظهارة تنتقل سيلانات عصبية إلى الجزء الخاص بالشم من الدماغ الذي سيقوم بالتعرف على هذه الرائحة ويحتفظ بأثرها إن كانت جديدة أو يجعلنا نتذكرها إن كان قد عرفها سابقاً. 

وهذا الجزء من الدماغ (الموجود في أسفل الجزء الجبهي من الدماغ) له القدرة على تذكر الروائح وإصدار الأوامر، من نمط إغلاق الأنف أو استنشاق الهواء مديداً بحسب نوع الرائحة من كريهة أو محببة، وتحريض المشاعر، من نمط الإقبال على الطعام أو الإحجام بحسب نوع الرائحة وقبولها أو رفضها، وكل ما يعقب من أفعال تتعلق بالرائحة. خلايا عصبونات الظهارة من أقل الخلايا تبدلاً، وقد لا تتبدل على الإطلاق. وإصابتها يصعب علاجها وقد يستحيل.

يتعرف الناس إلى بعضهم عن طريق الرائحة، وإن كان بدرجات متفاوتة، ومن المؤكد أن الأطفال يتعرفون على رائحة أمهاتهم دون غيرهن. فمن بين مجموعة من السترات الصوفية يمكن للطفل أن يجد سترة أمه ليلتحفها ويتدثر بها. وهذه المعرفة تبدأ من اليوم الثالث للولادة، وهي أولى الحواس نمواً لدى الأطفال يتعرف بواسطتها إلى الحليب، حليب أمه أو الحليب الاصطناعي، ويظهر حركات تفيد بذلك وضوحاً. وهذا أمر أكدته أبحاث قاطعة في هذا الخصوص.

وذاكرة الروائح ذاكرة يمكن تنميتها والاستفادة منها. وهي ككل الذواكر، تتعرض للنسيان والتآكل. فبعض أصحاب "الأنوف الطويلة" المختصين في التعرف إلى روائح العطور، (وهم أناس في الأعم الأغلب من أهل الأرياف، أي أنهم أناس لم تتعرض حاستهم الشمية للمخرشات) لهم القدرة على تمييز مئات الروائح أو العطور. لبعضهم قدرة تمييز تصل إلى 2500 رائحة. وللبعض منهم القدرة على تمييز مكونات بعض العطور، دون تحديد النسب، تصل إلى تحديد أكثر من خمسين مكوناً من مكونات عطر ما. وهذه القدرة تكتسب بالتمرين، وهي تخبو مع التوقف عن الاستعمال. فأصحاب الأنوف الطويلة هؤلاء يحتاجون إلى أكثر من شهر لاستعادة إمكاناتهم العادية على الشم بعد عودتهم من العطلة الصيفية مثلاً.


وحول كل من الحواس ظهرت صناعة أو صناعات. فالنظر مثلاً كل ما يشغل النظر من سينما وتلفاز ومسرح وسياحة يتمتع عبرها النظر بأكثر من غيره من الحواس، هذا طبعاً غير صناعة القراءة وغيرها الكثير. وكذلك الصوت والغناء والموسيقا ومعظم مترافقات النظر. والطعام صناعة لحاسة التذوق والعطور والبخور والهواء العليل صناعة للشم. أما حاسة اللمس فلا صناعة خاصة بها لوحدها، فيما نعرف!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق