بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 يناير 2018

متى بدأ العلم؟

لا جواب قاطع على هذا السؤال. إضافة إلى اختلاط بين معنى المعرفة ومعنى العلم. فالعلم هو معرفة يمكن برهانها. وهو برهان يستند إلى فرضيات ومفاهيم وتتابع منطقي في خطوات البرهان حتى اكتماله. وعليه أن يحوز على موافقة كل من يراجع البرهان.  ولكل امرئ اكتساب العلم بالعمل والدراسة والاجتهاد، كما يمكن لكل امرئ أيضاً أن يعمل في مجال العلم دون أن يقترن ذلك بالضرورة بإضافة جديدة. أما المعرفة فهي تخص مجالاً أوسع من العلم وليس لكل امرئ أن يصل إليها. فالعزف على آلة موسيقية هو معرفة، وليس لكل الناس إمكانية تعلم العزف وإجادته، وليس متاح لأي كان أن يصبح موسيقاراً، وكذلك الأمر في الألعاب الرياضية وغير ذلك.

وبهذا المعنى، فمتى بدأ العلم؟ لا شيء مؤرخ مكتوب يسمح بالإجابة. هل يمكن القول بأن البداية كانت مع فيثاغورث (القرن السادس قبل الميلاد) ونظريته في المثلث القائم الزاوية، التي تسمح بحساب طول ضلع أحد أضلاع المثلث إذا عرف الضلعان الآخران؟ لا يمكن قول ذلك. ففيثاغورث قال بهذه النظرية، وهي كانت معروفة لدى البابليين لعدة قرون قبله، وهو زار بابل وربما عرفها هناك ونقلها أو أن تلامذته (اصحاب المدرسة الفيثاغورثية) نسبوها إليه، وهو لم يبرهنها ولم يفعل البابليون أيضاً. ولكن من برهنها كان إقليدس المتوفى في القرن الثالث قبل الميلاد. فهل كانت البداية مع إقليدس؟ ولكن لو عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا شخصاً مثل ديموقريطس الذي قال بأن المادة تتألف من ذرات atomos) كلمة تعني ما لا يمكن تقسيمه إلى ما هو أصغر منه). وبرهن على ذلك بالقول: لو أخذنا حجراً وكسرناه نصفين، فإن كل نصف هو حجر أيضاً، ثم أخذنا أحد النصفين، وكسرناه نصفين أيضاً، وتابعنا الأمر على هذا المنوال فإننا سنصل في لحظة ما إلى شيء من حجر لا يمكن كسره وهو ما أسماه بالذرة. وأن كل مادة تتألف من ذرات من النوع نفسه. ونشأت حول ذلك مدرسة سميت بمدرسة "الذريين". فهل كانت البداية هنا؟


يصعب قول ذلك لأن ديموقريطس أنهى برهانه بالتصور وبدون أن يقدم سبباً مقنعاً لعدم إمكانية متابعة التقسيم إلى ما لا نهاية، أو سبباً لحتمية وصولنا في النهاية إلى جسيم مشابه للمادة نفسها بدون أن يكون هذا المشابه مؤلفاً من مكونات أخرى أصغر منه وتختلف عن المادة التي نحن بصدد تقسيمها، كما هو الأمر في الجزيئات. ربما لم يكن بإمكان ديموقريطس وقتها الإجابة على أسئلة كثيرة من هذا النوع. كما أن فكرته لم تلق قبول معاصريه أو حتى من أتى بعده، إذا سخر منها أرسطو الذي كان يؤمن بأن الكون مؤلف من أربع مواد فقط هي: التراب والماء والهواء والنار. ولكن تبقى فكرة التقسيم المتتالي لمادة ما كأول محاولة للبرهان على فكرة. 

يبقى إذن إقليدس الأكثر ترجيحاً لأن يكون العلم قد بدأ معه من وجهة النظر المعاصرة. فلم يكن العلم معروفاً بالشكل الذي قدمنا له، وإنما كانت الفلسفة أولاً، وهي الكلمة التي كان فيثاغورث أول من استعملها فيما يقال، وهي كلمة تعني "محب الحكمة"، ولكن الحكمة لدى فيثاغورث كانت من صفات الآلهة، أما الناس فلم يكن لهم سوى "حب الحكمة". صحيح أن فيثاغورث كان واسع المعرفة، حكيم بصير، كما وصفه تلامذته، ولكنه كان أقرب إلى أن يكون رجل دين ومصلح منه إلى أي شيء آخر، لم يترك أي أثر مكتوب، لذا فإن نسب كلمة "فلسفة" إليه فيه الكثير من الشك. ومع إقليدس بدأ الانفصال عن الفلسفة مع كتابه "عناصر الرياضيات" الذي ضمّنه مسلمات وفرضيات وبراهين في الهندسة المستوية والمجسمات والحساب التي لا تزال تدرس حتى اليوم دون تغيير، اللهم إلا في الصياغة.

لم يعرف العلم تقدماً مضطرداً، ولكنه سار ضمن قفزات وفترات ركود. لكل فترة نموذجها السياقي الخاص بها. يقول البعض بأن العلم "الحديث" يعود إلى كوبرنيكوس، الراهب الذي قال بكروية الأرض وبلا مركزيتها وإنما بمركزية الشمس. ولكن هذا مخالف لتعريف العلم أعلاه، إذ لم يقدم كوبرنيكوس أي برهان، ولم تكن لديه اية معطيات تدفعه إلى القول بذلك سوى رغبته بكون متناغم متجانس وجميل. فكون الشمس هي المركز يجعل مسارات الكواكب حولها مسارات دائرية بسيطة جميلة متناغمة على نقيض نموذج بطليموس الذي تتداخل فيه المسارات ويضيع التناغم!... وأكثر من ذلك أن كوبرنيكوس لم ينشر كتابه إلا في أواخر أيام حياته، ربما لأنه لم يكن مقتنعاً جداً بصحة أفكاره التي احتاجت إلى براهين غاليليو وجرأة جيوردانو.


هناك تعليق واحد:

  1. كوبرنيكوس مثل انطلاق الثورة العلمية.
    فرانسيس بيكون مثل انطلاق العلم القائم على التجربة.

    ردحذف