بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 يناير 2018

كيف غيّرت الحرب العالمية الأولى الشرق الأدنى


فيما يلي ترجمة لمقال/دراسة للباحثة الفرنسية/التونسية ليلى دخلي موجود على هذا الرابط في مجلة "الشرق 21". تحاول فيه الكاتبة رسم بعض جوانب الحياة السياسية والمعيشية في منطقة الشرق الأدنى إبان الحرب العالمية الأولى. وفي هذه الدراسة اعتمدت الكاتبة على بعض ما كتبه فرنسيون ومفكرون مشرقيون عن بعض مجريات تلك الفترة، والرسالة الأهم برأينا هو ضرورة النبش في تاريخ وأحداث تلك الفترة من مختلف الجوانب باعتبارها الفترة المؤسسة للعالم العربي السياسي، على أن يكون هذا النبش علمياً، لما له من إمكانية المساعدة على فهم جذور وأصول الكثير من المشاكل التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط... وفهم المشاكل هو الخطوة الأولى المساعدة على إيجاد الحلول.
ملاحظة: ورت بعض الأشعار في النص الفرنسي لشعراء عرب، وللأسف لم نتمكن من العثور على الأصل العربي.



كيف غيّرت الحرب العالمية الأولى الشرق الأدنى
قومية عربية وآلام خرساء

كانت الحرب العالمية الأولى وراء رسم جديد للحدود في أوروبا والشرق الأدنى. وحددت الطريقة التي تشكلت فيها تلك المنطقة، خصوصاً ما يتعلق بمخطط تقسيم مناطق النفوذ المعروف باسم اتفاقيات سايكس-بيكو. يظهر الجدل الحالي الدائر حول الحدود الموروثة الناجمة عن هذا الوفاق بين البريطانيين والفرنسيين ورفضها مدى استمرار هذه الكدمات، ولكننا لا نعرف غالباً حجم الآثار غير الجغرافية للأزمة العالمية الأولى في منطقة الشرق الأدنى.  إن قراءة وفهم المنطقة التي نشأت أثناء الحرب وانهيار الإمبراطورية العثمانية عقب ذلك هما قضية بحالها.


نقلت الحرب العالمية الأولى، التي أعلنتها تركيا إلى جانب قوى المركز، الأزمة إلى مناطق بلاد الشام، وهي سوريا الكبرى التي تتضمن جبل لبنان وسوريا الحالية وجزءٌ من فلسطين والأردن (لن ندرس هنا عواقب هذه الحرب على دول الخليج). ولكن الحرب ليست الأثر المباشر الذي استحوذ على النفوس في هذه المنطقة نتيجة للمعارك (التي لم تكن موجودة في الواقع في بداية هذه الحرب). ولكن هذه الحرب هي المرادف للجوع والخراب والتقتير والنهاية المباغتة لفترة رخاء نسبي، التي كانت قد تأثرت سلباً بالأزمة التي كانت تهز الإمبراطورية منذ حروب البلقان. النتيجة المباشرة لهذه الأزمة هو قطع العلاقات مع قوى الحلفاء الذي أدى إلى تلاشي الفرص التجارية الثمينة.
وفي سرديات تلك الفترة، فإن الذل والمجاعة كانا مسيطران. ولمواجهة هذه الحالة، كان التضامن بين المشرقيين الذين بقوا في البلاد وهؤلاء الذين انتشروا في الأرض على أشده حيث نرى هؤلاء الأخيرين يجمعون المال لمساعدة عائلاتهم التي بقيت في البلاد. وهناك كان الضباط الأتراك ينفذون حكم الإعدام بشخصيات اشتبهت بالخيانة ويهجرون ويطردون عائلات بأكملها من أماكن عيشها ويهددون المسيحيين بالخدمة الإلزامية الذين كانوا معفيين منها حتى ذلك الوقت. وحاولت القوى الاستعمارية من طرفها إغراء القوميين العرب بالحصول على دعمهم، إضافة لصلاتها التقليدية بالمسيحيين واليهود. الشرق الأدنى هو حقل عمليات معقدة جداً والمجتمعات بمجملها تحولت بسبب هذه المعاناة وتلك التغيرات.

بين الولاء ونزعات التحرر
المنطقة المعنية هنا هي منطقة ما يسمى بالعربية "بلاد الشام". وهي تشكل قلب الأقاليم العربية في الإمبراطورية العثمانية وفيها مدن مثل حلب ودمشق والقدس في الداخل، ويافا وعكا وحيفا وبيروت في الواجهة البحرية. حاز هذا الفضاء منذ منتصف القرن التاسع عشر على هوية خاصة، قوامها شبكة تجارية وثقافية وجامعية تجعل منه منطقة يؤمها التجار والطلاب والعلماء. ويتقابل فيها تجار مسيحيون من مختلف المذاهب، وأرمن ويهود ودروز ومسلمون سنيون وشيعة، ورحّل وحضر. لكل منهم دوره في اقتصاد يتجه شيئاً فشيئاً نحو الخارج. ومدن الموانئ تجذب أكثر فأكثر عمالاً من سكان الداخل، وأحياناً من أوروبا (إيطاليا). نشحن منها القطن والحرير والصابون والبرتقال...كما قطنت جماعات مشرقية عديدة في ما وراء البحار لمتابعة تجاراتها. وفي نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر تشكّل ما سُميّ حينها "المشرق" داخل الإمبراطورية العثمانية ومحيطها، الممتد من سالونيك إلى الإسكندرية.
العالم المشرقي هو ليس فقط مكان تجاري "سعيد" متعدد الأعراق، ولكنه أيضاً وليد أزمات ونزاعات رئيسية لوّنت المنطقة في الفترة الواقعة بين 1840 و 1860 (التي بلغت ذروتها بالتأكيد مع مذابح عام 1860 في جبل لبنان[1])، واعتراضات صادرة عن علماء (عريضة عام 1881؛ أزمة "الدارونيين" للكلية البروتستانتية في بيروت). ومع هذه الأزمات والتحولات التي تصيب المنطقة، أخذت الإمبراطورية العثمانية بإصلاح ذاتها اعتباراً من عام 1876 (التنظيمات) مقيمة تقسيماً جديداً للأقاليم واستقلالاً ذاتياً جديداً. يمكن أن نترجم ذلك ببروز مطالبة بهوية وطنية، ضمن إطار عثماني، الذي أخذ بإصلاح نفسه لتقبل رغبات التحول والتحديث هذه. وأطلق التساؤل عن هذه الإصلاحات اعتراضات قوية في الإمبراطورية، حتى باسم تطبيق دستور عام 1876 (الذي أعيد العمل به لفترة وجيزة أثناء ثورة تركيا الفتاة عام 1908).
وعند اندلاع الحرب العالمية في المتوسط كانت التحولات في الإمبراطورية عديدة: الحروب البلقانية في أوروبا، حرب ليبيا في أفريقيا[2]. وانفتحت حلقة الأزمات الدولية عبر حروب الأقاليم وحروب "الهوية" على هوامش الإمبراطورية.

الحرب قبل 1914
كان الشرق الأدنى يعيش في تسلسل زمني آخر للحرب. ففي الأقاليم العربية كانت الحرب الليبية لحظة هامة. وتأسّس الخطاب العربي المناهض للاستعمار في جلّه خلال تلك الفترة. فمفكرون أمثال شكيب أرسلان يعبرون عن ارتباطهم بالإمبراطورية العثمانية باعتبارها الضامن لوحدة مجتمع عربي وإسلامي. ومنذ عام 1911 فإن الإخلاص للعثمانية يتجلى في تجربة الارتباط بمكاسب عام 1908 (حرية واستقلال ذاتي نسبيان) وأيضاً في تحدي القوى الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا.
ومن المهم فهم أن مقومات ذلك البديل لم تكن واضحة إلا في تلك السنوات، وبقيت متذبذبة عندما نظّم في عام 1913 "مؤتمر السوريين العرب" الأول في باريس. الذي عقد في جمعية الجغرافيا، وقدم صورة مدهشة عن حالة المسائل الوطنية وعن العلاقة التي كان يعيشها المفكرون والمناضلون العرب مع الإمبراطورية التي اتهمت بتحولها التسلطي. نظم هذا المؤتمر المهاجرون وجمع ممثلين عن الجماعات السورية في أوروبا وأمريكا ومصر. التياران الرئيسيان الممثلان بنيا حول قطبين:
·         اللامركزيون: المخلصون للإمبراطورية والمطالبون بلامركزية جذرية واستقلال ذاتي للأقاليم العربية (الناتج غالباً عن حركة الفتاة، "الشباب العرب")، المناهضون غالباً للتحالف مع القوى الأوروبية؛
·         الإصلاحيون: المستعدون لطلب دعم القوى الأوروبية للحصول على الاستقلال الذاتي والاستقلال عن الإمبراطورية.
وبالطبع فمن الممكن وجود تنويعات متعددة وجدل في داخل كل قطب.
لا يمكن إهمال هذه الصراعات والتوترات لفترة ما قبل الحرب لأنها تحدد جذرياً المواقف التي اتخذها هذا الطرف أو ذاك خلال الأزمة وبدءاً من اللحظة التي بنيت فيها المواقف الأوروبية (الفرنسية والبريطانية) والعثمانية. يفسر جزء من انهيارات الإخلاص للعثمانية في الأقاليم العربية نتيجة خيبة أمل النخبة العربية بجمعية الاتحاد والترقي التي دعموها منذ ثورة تركيا الفتاة عام 1908.
كان هذا هو المناخ الذي استهل به المخبرون السوريون العاملون في خدمة جوسان. فقد راقب المخبر أ. ناصر[3]، المقيم في القاهرة والذي أوكلت إليه مهمة إعداد تقرير عن "المسألة السورية"، جماعة الشوام، وكتب في تقريره:
كانت الخيبة كبيرة وتعددت عمليات الفرار؛ وقريباً حتى في داخل البرلمان العثماني الجديد، فإن مؤيدي جمعية "الاتحاد والترقي" التي سميّت بـ"الاتحاديين"، واجهت معارضات كثيرة من مجموعة جديدة ولدت باسم "الحزب الليبرالي" الذي كان رئيسه العجوز كامل باشا. لم يبق هذا الحزب في السلطة سوى شهرين، أثناء الحرب البلقانية، عندما كانت تركيا المهزومة تطلب السلام بأي ثمن وتضرع لأوروبا لإنقاذها. كان الاتحاديون قد أطلقوا عنان الحرب البلقانية التي جاءت بالبلغاريين في وقت قصير إلى أبواب القسطنطينية. وعندما رأى الاتحاديون أنهم مهزومون لا محالة تخلوا عن السلطة لكامل باشا ولليبراليين لإيقاف الغزو والوصول إلى اتفاقية سلام. ولكن كامل باشا لم ينجح في خفض الادعاءات البلغارية في مسألة أندرينوبل وانتهى الأمر بالإطاحة به في انقلاب جاء بأنور الذي ذبح بيديه نظيم باشا وزير الحربية.
(...) ومن ذلك الوقت كان الاتحاديون في السلطة وتكاثرت مآثر نظامهم السيئة.
وعلى إثر سقوط عبد الحميد، كان عدد المنتسبين إلى جمعية "الاتحاد والترقي" كبيراً جداً في سوريا، وخاصة بيروت التي كانت المركز الفكري لسوريا. كان المسيحيون بعدد المسلمين "وكانوا" كلهم صادقين في قناعتهم. ولكن "زيف" الاتحاديين سينكشف مستفيدين من إنشاء الحزب الليبرالي، وانتسب كل السوريين تقريباً إلى الحزب الجديد بحماس. وفي أنفسهم النائمة منذ زمن طويل، استيقظت أفكار الحرية والمساواة والعدل.
أخذت الصحافة في الكتابة بحرية وكلمات الاستقلال الذاتي وحقوق العرب التي كان يفكر فيها سابقاً بدأ تداولها بصوت عال.

نرى في ذلك مباشرة أهمية الحروب البلقانية في الرابط الذي أرسي مع السلطة العثمانية في سنوات ما قبل الحرب. والرابط أقيم مباشرة بين الخيارات القائمة قبل الحرب وانبثاق فكرة القومية العربية. ووجهة النظر المعتمدة هنا من قبل مخبر يعمل في خدمة فرنسا لا يجب اعتبارها كحقيقة بسيطة، فهي شكلت بطريقة بحيث يمكنها إطلاق تحالف ممكن مع بعض العرب. يكشف باقي التقرير بوضوح بأنه يجب العزف على القيثارة اللبنانية –تلك المتمثلة في الاتحاد اللبناني لاسكندر عمون وداوود بركات وأنطون جميّل وأمين بستاني، وهم مفكرون مارونيون مقيمون في القاهرة.
وفي أثناء الحروب البلقانية بدأ التحالف بين اللامركزيين والجمعية اللبنانية للإصلاح على أرضية مشتركة. وأنشئت هذه الأرضية  لتوحيد مطالب الجماعات المختلفة: وهي أساساً الاستقلال الذاتي الإداري للأقاليم، حق تحديد ميزانية وتأمين بعض العائدات الضريبية، وتسمية القضاة والموظفين، والاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية، وفرض تعليم العربية في المدارس، وحرية التعليم. وإلى هذه المجموعة يجب إضافة اختراع أول شكل لحكومة طائفية مع ممثلين عن كل الطوائف في البلديات (ففي بيروت مثلاً كان لها 83 ممثلاً منهم 42 مسلمين و 39 مسيحيين ويهوديان) واعتمد برنامج الإصلاحات من قبل الممثلين كلهم في كانون الثاني عام 1913.

إعدامات الفترة بين 1915 و 1916
وضمن هذا السياق فإن دخول الإمبراطورية الحرب لم يكن بدون توترات. ولكن الولاء بخصوص الباب العالي لا يبدو أنه اهتز فعلاً قبل 1915-1916. تمركز ذلك حول شخصية حاكم سورية جمال باشا الذي سميّ بـ"الجزار"، الذي يبدو ليس فقط باعتباره جلاد القوميين العرب، ولكن أيضاً كشخصية خائنة. فقد كان شخصية محترمة بالأحرى من قبل رجال الأدب والأعيان في المنطقة بسبب دوره في ثورة عام 1908 وشخصيته الاستثنائية، ولكنه أصبح خلال الحرب جلاداً دموياً.
وهو مسؤول عن حلقات العنف الأكثر بقاء خلال الحرب في المنطقة: الإعدام العلني لأشخاص اتهموا بخيانة الإمبراطورية في عامي 1915 و 1916. وهم مناضلون من رجال الأدب والدين أحياناً الذين أودعوا في البداية في سجن عاليه (جبل لبنان) ومن ثم عُرضوا في الساحات المركزية في بيروت (ساحة الاتحاد) ودمشق (ساحة المرجة) لإعدامهم مع يافطة حول أعناقهم تشير إلى اتهامهم بالخيانة. نصوص عديدة تشير إلى تلك الحلقة المؤلمة، مثل قصيدة شكري غانم الخاصة بشنق الأب الماروني يوسف الحويك:
(...) آخرون ماتوا مذاك. تساوي المشنقة الجميع.
بحارة المرفأ القديم، زعماء لبنان القدامى،
مشايخة مسنين بعمائم خضراء، ودروز بعمائم بيضاء
يتجاورون في الموت مع رجال الكنيسة
وكلهم، مهما كانت أصولهم، كلهم،
على شاكلة الراهب، بنفس مشتركة،
صنعوا من المشنقة الشنيعة منبراً،
أعلن من أعلاه بعضهم إيمانه، وآخرون عبروا عن استيائهم.
(Correspondance d’Orient, n° 214, avril 1919, in Écrits Politiques. — p. 185-187.)
وعند النظر راهناً إلى ما كان، فقد أكد الجميع الدور الموحد لهذا القمع. وولد حول الشهداء وعي بالقومية وبالانتماء المشترك. وكما كتب ذلك المفكر أمين الريحاني، "السوري اليوم هو رجل واحد، والمشانق نفسها تقول ذلك. لأن اللبناني والدمشقي والبيروتي والحلبي والفلسطيني والمسلم والدرزي والمسيحي واليهودي ليست إلا أسماء أولى. أما اسم العائلة، عائلتنا، فهو سوريا"[4].
وهذا ما عبّر عنه أيضاً الوطني السوري عبد الرحمن الشهبندر بخصوص سليم الجزائري الضابط في الجيش العثماني الذي شنق بتهمة الخيانة العظمى: "الضابط الكبير الذي انتقد في عام 1908 جمعية الأخوان العرب [بسبب عدم إخلاصهم للإمبراطورية] ذهب إلى المشانق التي أقامها أحمد جمال باشا لرجال العرب الكبار في السادس من أيار عام 1916. وهذا التبدل هو الذي فتح عيناي على الخطر المحيط بالوطن العربي. لذا اتخذنا ذلك الطريق القومي الجديد"[5].

البقاء في زمن المجاعة
العنصر الثاني المصيري في تحوّل فترة 1915-1916 هو تفاقم ظروف المعيشة في المنطقة وسياسات المصادرة للجيش العثماني. وإذا كانت النخبة قد ذعرت من سياسة جمال "الجزار" القمعية، فإن سمعته مقرونة بالمجاعة التي حاقت بالناس، خاصة في جبل لبنان، والتي يعتبر المسؤول عنها. كانت الشائعات المتناقلة كثيرة كما أشار إلى ذلك مخبرو الأب الدومينيكاني أنطوان جوسن، المسؤول عن المخابرات الفرنسية في المنطقة أثناء الحرب.
ويمكن مثلاً بخصوص القدس في كانون الأول عام 1915 قراءة الهموم الرئيسية للسكان: غلاء المعيشة، ونقص حاد في المواد الأساسية، والمصادرات.
"الناس التي لم يعد بينها من يعمل، أصبحت في حالة بؤس. المواد الغذائية باهظة الثمن: فمثلاً حقة السكر بسبعة قروش، وحقة البترول بأربعة قروش، ورطل الطحين بين سبعة وثمانية قروش، وفقدت القهوة وكذلك الأرز.
مات خلق كثير جوعاً. ووزع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية للمحتاجين من طائفته بما في ذلك الرهبان والراهبات والحجاج المعوزين رغيف خبز في كل يوم. وفعل مثله رؤساء الجماعات الدينية الأخرى. كانت الحكومة قاسية مع الفلاحين الذين استُغلوا ونُهبوا بلا رحمة من قبل العسكر. وفي خلال السنة، وحتى مغادرة الألمان، فقد عانى اليهود من إهانات لا تصدق وبما لا يمكن وصفه، بحسب أحد الشهود.
تقرير 3 كانون أول 1915، فانسين، أرشيف البحرية"
كما أن مسألة الخدمة العسكرية هي من أهم المخاوف، مثلما كانت قبل الحرب لممثلي الجماعات غير المسلمة. وفي الواقع فإن تحديث الإمبراطورية الذي أعقب إعادة العمل بدستور عام 1908 بُني على إعادة الخدمة الإلزامية للجميع منهياً مبدأ حماية الأقليات غير المسلمة. فكانت حينها أهم مطالب المسيحيين باستمرار إعفائهم.
وهذا ما كتبه الأب جوسان في كانون الأول عام 1915:
"الناس صامتون قانعون ولكنهم ينتظرون بقلق ساعة خلاصهم. لقد كان هناك قبل بضعة أشهر موضوع دعوة كل اللبنانيين القادرين على حمل السلاح. وقد تم التخلي عن هذه الفكرة بعد المقابلة التي جرت بين البطريرك الماروني وجمال باشا. ولم يدع للخدمة أي لبناني حتى اللحظة. الميليشيا اللبنانية موجودة ومؤلفة دائماً من متطوعين، ولكنها الآن تحت قيادة ضابط تركي[6]."
شكل عام 1915 عتبة فاصلة. فقد أشار المخبرون الفرنسيون إلى أن "العرب المسلمين، مثلهم مثل المسيحيين، قد ضاقوا ذرعاً بالنظام التركي وكذلك من المضايقات والمصادرات التي يعانون منها منذ أكثر من سنة: سيستقبلون أي أجنبي محرر يتقدم إليهم"[7]. وفي هذا التاريخ ظهرت أولى الإشارات لسياسة تجويع متعمدة، استخدمت خصوصاً في جبل لبنان (كسروان ومنطقة جبيل-بيبلوس خصوصاً) ضد المسيحيين. وتابع المخبرون ذلك بالقول: "الهدف هو جعل الناس تحت رحمتهم، والتمكن من تجويعهم إلى حد الخطر تاركين للأعداء، في حالة إنزال قواتهم، مهمة إطعامهم"[8]. ووضعوا تفاصيل خطة تتألف من قف الإمدادات الغذائية والقيام بعمليات تفتيش على كل يغادر بيروت إلى الجبل للتحقق من أنه لا يحمل مؤوناً (كلفة الخبز في الجبل أربعة أضعاف كلفته في بيروت)، ومنع الصيد البحري. ويمكن أن نقرأ في هذا التقرير روايات عدة عن حالة لبنان.
" (...) كل إجراءات المضايقة هذه ضد اللبنانيين هي نتيجة خطة مرسومة مسبقاً عبر عنها بطريقة فظة أنور باشا عند زيارته عاليه. فقد قال "لا يمكن للحكومة العثمانية أن تحصل على حريتها قبل تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن واللبنانيين. لقد دمرنا الأرمن بالسيف، وسندمر اللبنانيين بالجوع". كان جمال باشا برفقة أنور باشا عندما نطق هذا بخطابه الشهير. (...) نقدر عدد من ماتوا بنحو 80 ألف شخص بسبب المجاعة في لبنان وجواره منذ شهر كانون الثاني الأخير[9]".

الثورة الكبرى
حددت مجموعة هذه العوامل من مجاعة وقمع على نحو كبير انضمام مجموعة من القوميين العرب إلى الثورة التي أطلقها الشريف حسين من مكة بمساعدة البريطانيين. وإذا كان من الممكن اعتبار مؤتمر عام 1913 كلحظة مؤسسة للقومية العربية فإن ثورة عام 1916 هي المعركة الحقيقية الأولى. فقد تجمع المقاتلون شيئاً فشيئاً حول الدعوة إلى استقلال الشعوب والقبائل العربية القابعة تحت النير العثماني. وقد دعم البريطانيون هؤلاء المقاتلين وساهموا في قيادتهم (العقيد الشهير إدوارد لورنس –"لورنس العرب"-، ومن مصر الجنرال إيدموند اللنبي وجيشه)، وانضم إليهم شيئاً فشيئاً مقاتلون من الدروز، وكذلك بعض من المتطوعين الأرمن الناجين من مذابح الأناضول، وانضم إليهم أيضاً فارون من الجيش العثماني. وهذه المجموعة المتنوعة هي التي تتقدم شيئاً فشيئاً في المنطقة، من الجنوب إلى الشمال، منطلقة من مكة عابرة الصحراء وضامة إليها قبائل البدو لفتح المدن شيئاً فشيئاً والمكوث في دمشق في أيلول عام 1918 لتأسيس المملكة العربية. وبين 1916 و 1920، أحدث جيش وعلم أيضاً وزي رسمي ونشيد وطني لتوحيد كل هؤلاء المقاتلين.
طلب من الملازم ثاني المستشرق لويس ماسينيون تقديم تقرير عن الحالة في عام 1917 جاء فيه "(...) هذا الشعور القومي، المستقل عن أي اعتبار طائفي، اختار كنشيد وطني قصيدة لرفيق رزق سلوم، مسيحي عربي من حماه، أعدمه الأتراك عام 1915، مطلعها: "لن ننحني للذل لأننا أبناء قحطان". وهذا النشيد الذي يُدرّس منذ سنتين لجيش العقبة العربي، يغنيه الفيلق منذ الخامس من تشرين الأول"[10]. واختيرت الألوان الأربعة: الأسود والأخضر والأبيض والأحمر الموجودة حتى الآن في الكثير من أعلام المنطقة (سوريا والأردن والعراق وفلسطين)[11].
أعلن فيصل ابن الشريف حسين ملكاً. وفي دمشق تشكلت حكومة. وهذه التجربة البرلمانية العربية، التي دامت لعدة أشهر (نحو سنتين) في سوريا هي تجربة مؤسسة لجيل من الرجال والنساء المنخرطين في الشؤون العامة. وهنا صنعوا أول أسلحتهم وأول تعلمهم للسياسة ضمن إطار مستقل بالرغم من ضغوط القوى الأوروبية[12].
بدأت "فترة شريفية" في المنطقة بوصول الجيش البريطاني بقيادة اللنبي والجيش العربي إلى دمشق في تشرين الأول علم 1918. وهذه الفترة قادها المقاتلون العرب وكذلك الأعيان المحليون الذين استلموا سلطات البلديات لوضعها في خدمة النظام الجديد ومحاولة مقاومة تسلط القوى الأوروبية. ولكن سرعان ما برزت بعض المسائل مثل حقوق المرأة[13] وشكل الحكومة والتعليم العربي ... وفي مدن الشرق الأدنى ارتديت لفترة الملابس الحجازية برحابة صدر، مع الكوفية التي كانت محصورة حتى ذلك الوقت بأهل الريف والبدو، والتي كان يهزأ منها أعيان المدن، الذين يعتمرون الطربوش أو الشابو. وفي شوارع دمشق نرى "أجانب" وفلسطينيين وعراقيين وشباب طوباويين ارتبطوا بمصير فيصل، الذين سيتبعونه لاحقاً إلى العراق[14].
انتهت هذه التجربة مع معاهدة سان ريمو ومغادرة فيصل وجزء من حاشيته إلى العراق وأنيط بسورية إلى الوصاية الفرنسية.
بعد تجربة المملكة العربية المؤسسة وقع الانتداب الفرنسي (سورية ولبنان) والبريطاني (فلسطين والعراق) في المنطقة. لم تأخذ قوى الانتداب بالإطار العثماني ولكنها بنت هيمنتها على تعريف قومي ضيق يستند على رؤية للمنطقة على أساس أنها فسيفساء من جماعات تعيش داخل هذه الحدود. كانت الأزمة العالمية ومؤتمرات السلام مناسبات لتثبيت مثل هذه الرؤية للمنطقة، متيحة ليس فقط رسم حدود جديدة ولكن أيضاً لتعريفات لهويات وقوميات الانتماءات.
وفي ذاكرة الأحداث، فإن للقراءة القومية الخصوصية نفسها. وسميت الساحات الرئيسية لمدينتي بيروت ودمشق منذ ذلك الوقت باسم "ساحة الشهداء" تخليداً لذكرى القوميين الذين أعدموا في عامي 1915 و 1916. وحوفظ على الرموز المصاغة خلال الثورة العربية من ألوان الأعلام ومختلف عناصر القومية العربية ذات الطابع السياسي حتى وإن تشكلت الحدود الوطنية عبر التجارب السياسية التي مرت بها[15].
ذكرى أخرى أكثر إيلاماً واضحة أيضاً تتمثل أولاً في وجود الأرمن في بعض المدن مثل حلب والقدس وبيروت لاجئين بعد المذابح العثمانية. وكذلك ذكرى المجاعة الحاضرة غالباً في الذاكرة في جبل لبنان والخوف من الأوبئة ومن ظروف الحياة الرهيبة للمسيحيين. يبقى لزاماً كتابة هذا التاريخ غير البطولي، وهو يُتناقل اليوم عبر الحكايات العائلية وبعض النصوص الأدبية، ولكنها ليست مسجلة في الشوارع ولا يظهر تقديرها في المناسبات الرسمية.

ليلى دخلي





[1] Massacres des chrétiens par les druzes, qui déboucheront sur une expédition française.
[2] Elle met aux prises l’empire et l’Italie en 1911-1912 et aboutit à une victoire de Rome.
[3] بحسب التقرير الذي وقعه بنفسه، فمن الممكن أن يكون "مسيحي من الروم الكاثوليك من أصل بيروتي يسكن القاهرة له ارتباط ببورصة السلع، مندوب من قبل جمعية الإصلاحات لدى السلطات البحرية الفرنسية، وكان عليه العمل في سورية" معلومات قدمها
(Le Caire, 25 mars 1916), Vincennes, archives de la Marine, SSQ 78.
[4] Amin Al-Rihani, « Al-Hayat wa-l-hurriyya wa-l-sayf » (La vie, la liberté et le glaive), prononcé à New York en 1917, in al-Qawmiyyat. — p. 122-131.
[5] Abd al-Rahman Shahbandar, « Ahammu Hadith athara fi majra hayati » (L’événement qui a déterminé le cours de ma vie), Al-Maqâlât (Articles), Damas, 1993. —p. 137.
[6] Rapport inséré dans une lettre du 8 décembre 1915, de « M. A. Defrance, Ministre de France en Égypte, à son excellence Monsieur A. Briand, Président du Conseil, Ministre des Affaires étrangères à Paris. » Vincennes, Archives de la Marine, SSQ 78.
[7] Note n° 33 de Saint-Quentin, ministère des affaires étrangères, A Paix, 174, 84 et suivantes.
[8] المرجع السابق
[9] المرجع السابق
[10] « Le sous-lieutenant Massignon à Gaston Maugras, adjoint au Commissaire de la République dans les territoires occupés de Palestine et de Syrie », 26 octobre 1917. Carton 2367, archives MAE, Nantes.
[11] :
 لاحقاً، كتب بيير روندو الذي كان حاضراً في ذلك اليوم "أصبح للحركة القومية منذ ذلك اليوم علماً يضم الألوان العربية: الأخضر لون النبي والخلفاء الأول، والأبيض لون الأمويين والأسود لون العباسيين، والأحمر لون الهاشميين؛ وبتشكيلها بطرق مختلفة، سيكون من الممكن للدول العربية في المستقبل بناء مناطق مستقلة مع التأكيد على وحدة عاطفية. يضاف إلى هذا الغموض غير المتوقع آنذاك، أمر آخر أكثر خطورة منذ البداية: هذا العلم العربي هو من صنع دبلوماسي بريطاني عارف جيد بالتاريخ المشرق هو السير مارك سايكس، الذي كان في الوقت نفسه يفاوض حلفاء بلاده على تقاسم الأراضي العربية" Pierre Rondot, ( Destin du Proche-Orient, Paris, 1959.
[12] Leila Dakhli, Une génération d’intellectuels arabes. Syrie et Liban, 1908-1940,Paris, éditions Karthala-IISMM, 2009 ; Matthieu Rey, « Un parlementarisme oriental ? Éléments pour une histoire des assemblées au Moyen-Orient des années 1850 aux années 1970 », Parlement[s], Revue d’histoire politique,2012/1 n° 17, p. 162-176.
[13] Elizabeth Thompson, Colonial Citizens. Republican Rights, Paternal Privilege and Gender in French Syria and Lebanon, New York, Columbia University Press, 2000.
[14] Terme utilisé par Muhammad Kurd Ali dans ses mémoires, Mudhakkarat,vol. 1. — p. 232 ; il désigne les fondateurs du mouvement al-Fatat, Muhammad Rustum Haydar, Auni Abd al-Hadi, Ahmad Qadri, et des cadres de l’armée.
[15] Matthieu Rey, « Le parlementarisme en Irak et en Syrie, entre 1946 et 1963 : un temps de pluralisme au Moyen-Orient », thèse de l’École des hautes études en sciences sociales (EHESS), Paris, 2013.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق