بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 26 أغسطس 2017

مي زيادة... يا حنيّنة

عرفت باسم "مي" الذي اتخذته اسماً نهائياً بعد أن كانت توقع مقالاتها باسم باحثة البادية أو إيزيس كوبيا، و"مي" هو الأقرب إلى اسمها الحقيقي "ماري". وهي صحفيّة أديبة باحثة من مواليد الناصرة لعام 1886، أمضت الجزء الأول من شبابها في لبنان ثم ارتحلت مع أهلها عام 1907 إلى القاهرة حيث عمل والدها في الصحافة وكان صاحب جريدة "المحروسة" لفترة من الزمن. كتبت مي في هذه الجريدة وفي الأهرام وغيرها من جرائد ومجلات مصر ولبنان. كتبت في شؤون مجتمعها الذي كانت تحلم برؤيته متقدماً. كانت تجيد عدة لغات من بينها الفرنسية والإنكليزية وتلم بعدد آخر مثل الإسبانية والألمانية والإيطالية واللاتينية وغيرها. وغير الأدب والصحافة فقد كانت تحب الموسيقى والغناء واشترت عوداً من دمشق رافقها في حياتها.

أنشأت في القاهرة صالوناً أدبياً دعت إليه شباب تلك الفترة المفكرين والأدباء من أمثال أحمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس العقاد وغيرهم كثير. وهذا الصالون لم يكن سوى صالون بيتها الذي كانت تعيش فيه مع والدها ووالدتها، وكان يخصص كل ثلاثاء لمدعوي مي يناقشون أفكارهم وهمومهم في فترة كانت أول الطلق في المخاض العربي الطويل. لم يكن المدعوون دائماً من اتجاه فكري وحيد، فمنهم الليبرالي ومنهم التقليدي الذي يطالب بالمحافظة على الأصول. ولكنها كانت تعرف كيف تجعل صالونها مكاناً للحوار والاحترام. وفي بعض الأحيان كان طه حسين يبقى بمفرده معها لتقرأ له بالعربية ما لم يكن بإمكان زوجته الفرنسية أن تفعله وكانت سهراتهما تنتهي بالموسيقى وبأغنية "ياحنيّنة" التي كان طه حين يحب سماعها بصوت مي.

أحبت مي جبران خليل جبران على مدى عشرين عاماً، منذ عام 1911 وحتى وفاته عام 1931. لم يتقابلا أبداً ولكنهما كانا يتكاتبان. رسائلهما تكشف عن حب عميق، حب إنساني وشغفي، لم يخلو من اختلاف، ولكنه اختلاف الأحبة، اختلاف حبيبان يعيشان مع بعضهما حب فريد في تاريخ البشرية، كانت رسائلهما تجعلهما يشعران أنهم سيلتقيان غداً. كثيراً ما كانت مي تعود إلى رسائل جبران بعد وفاته تستمد منها عزيمة في محنتها التي عاشتها بسبب طمع أقاربها بمقاسمتها إرث أبويها اللذان توفيا قبل فترة من وفاة جبران وكان حزنها بذلك عظيماً.

حاول أبناء عمومتها في بيروت السطو على كامل إرثها واصطنعوا لذلك قصة إصابتها بخلل عقلي نتيجة أحزانها وأدخلوها المصحة العقلية في بيروت بعد أن وضعوها تحت الوصاية في القاهرة، إلى أن اكتشف وضعها أحد أصدقاء أبيها من سكان حيفا فساعدها على الخروج من محنتها، كما قامت الصحافة اللبنانية بكشف تفاصيل القصة ووقف بجانبها صديقها القديم أمين الريحاني إلى أن تمكنوا من إنقاذها من أولاد عمومتها وأعيدت حقوقها إليها وعادت إلى مصر لتقف على أوضاع تركتها حيث توفيت عام 1941.

هجرها أصدقاؤها أثناء محنتها، فقد استنجدت بعباس العقاد وهي في القاهرة فلم يفعل إلا القليل القليل وهما اللذان أشيع يوماً أنها كانا عاشقين، وكذلك لم يستجب أحد من أصدقائها لرسائلها عندما أدخلت المصحة العقلية في بيروت من لطفي السيد أو طه حسين وغيرهما تطلب مساعدتهم، ولكن أحداً منهم لم يتحرك حتى ولو بكلمة... اتصل طه حسين بها بعد عودتها الأخيرة إلى القاهرة معرباً عن رغبته برؤيتها ولكنها رفضت بالرغم من أنها كانت “حنيّنة” جداً... إذ ليس المثقفون بالضرورة هم أكثرأبناء مجتمعهم شجاعة وشهامة!

* معظم مادة هذا المقال مأخوذة من كتاب صدر بالفرنسية لمؤلفته دارينا الجندي بعنوان "سجينة المشرق"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق