بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

توزيع الثروات... من مقدمة ترأس المال في القرن الواحد والعشرين... توما بيكيتي

إن توزيع الثروات هو إحدى القضايا الأكثر حيوية ونقاشاً في أيامنا الراهنة. ولكن ماذا نعرف حقيقة عن تطور هذا التوزيع على المدى البعيد؟ وهل يقود تراكم رأس المال الخاص بما لا يمكن تجنبه إلى تركيز أكبر دائماً للثروة والسلطة في بعض الأيدي كما اعتقد ماركس في القرن التاسع عشر؟ أو أن القوى التي توازن النمو والتنافس والتقدم التقني تقود عفوياً إلى خفض التفاوت بين الناس وإلى استقرار متناغم في المراحل المتقدمة من التنمية كما ظن ذلك كوزنيتس في القرن العشرين؟ وما الذي نعرفه فعلاً عن تطور توزيع العوائد والثروات الوطنية منذ القرن الثامن عشر، وما هي الدروس المستقاة للقرن الواحد والعشرين؟

إنها الأسئلة التي أحاول الإجابة عليها في هذا الكتاب. ولنقل من الآن: إن الأجوبة المقدمة ناقصة وغير كاملة. ولكنها مؤسسة على بيانات تاريخية ومقارنة، أكثر اتساعاً من كل الأعمال السابقة، وتمتد على مدى ثلاثة قرون وأكثر من عشرين بلداً، وعلى إطار نظري محدّث يسمح بفهم التوجهات والآليات المساهمة على نحو أفضل. 

سمح النمو المعاصر وانتشار المعارف بتجنب الجهنم الشيوعية، ولكنهما لم يغيرا البنى العميقة لرأس المال والتفاوت بين الناس –أو على الأقل ليس بقدر ما أمكننا تخيله في العقود المتفائلة وما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ أن كانت نسبة مردود رأس المال تتجاوز دائماً نسبة نمو الإنتاج والدخل، وهو ما كان عليه الحال حتى القرن التاسع عشر وما يهدد بقوة أن يصبح الناظم للقرن الواحد والعشرين، وقد أنتجت الرأسمالية آلياً تفاوتات غير محتملة وعشوائية، مسقطة على نحو جذري قيم الجدارة التي بنيت عليها مجتمعاتنا الديموقراطية. ومع هذا فتوجد وسائل بحيث تتمكن الديموقراطية والصالح العام من استعادة التحكم برأس المال والمنافع الخاصة، وكل هذا مع استبعاد للنكوص إلى مذاهب الحمائيات والقوميات. يحاول هذا الكتاب أن يقدم مقترحات بهذا الاتجاه استناداً إلى الدروس والتجارب التاريخية التي تشكل سرديتها النسيج الأساسي للكتاب.
جدل بلا مصدر؟
اعتمد الجدل الفكري والسياسي خلال فترة طويلة حول توزيع الثروات على كثير من الأفكار المسبقة والقليل من الوقائع. ومن المؤكد أنه سيكون من الخطأ التقليل من أهمية المعارف الحدسية التي يطورها كل واحد، في زمنه، بخصوص المداخيل والإرث في غياب تام لإطار نظري وإحصائيات معبّرة. سنرى مثلاً أن السينما والأدب، وعلى نحو خاص الرواية في القرن التاسع عشر، تغص بمعلومات دقيقة للغاية عن مستويات الحياة وعن ثروة الجماعات الاجتماعية المختلفة، وخاصة البنية العميقة للتفاوتات ومبرراتها وآثارها في حياة كل فرد. فروايات جان أوستن وبلزاك، على نحو خاص، تقدم لنا لوحات مؤثرة عن توزع الثروات في المملكة المتحدة وفرنسا في السنوات 1790-1830. وكان لكلا الروائيان معرفة وثيقة بتراتبية الإرث الموجود حولهما. ويعرفان تماماً حدوده الخفية، ويعرفان العواقب الصارمة على الرجال والنساء، وعلى استراتيجياتهم في التحالف وعن آمالهم وبؤسهم. ويعرضان ما يترتب على ذلك بصدق وقوة استدعاء لا يمكن لأي إحصاء أو تحليل دقيق أن يعادلهما. 
وعليه فإن قضية توزيع الثروات هي قضية هامة لا يجوز تركها لعلماء الاقتصاد والاجتماع والمؤرخين والفلاسفة لوحدهم. وهي لحسن الحظ قضية تهم الجميع. والحقيقة الواقعية والجسدية للتفاوت تظهر جلية لهؤلاء الذين يعيشونها، وتستثير على نحو طبيعي أحكاماً سياسية قاطعة ومتناقضة. فكل من الفلاح والمالك والعامل والصناعي والموظف أو صاحب المصرف، ومن موقع المراقبة الذي يشغله، يرون أشياء هامة عن ظروف الحياة لهذا المرء أو ذاك، وعن علاقات السلطة والهيمنة بين المجموعات الاجتماعية، ويشكلون مفهومهم الخاص عما هو عادل وعما هو ظالم. وسيكون دائماً لقضية توزيع الثروة هذه البعد الذاتي والنفسي البارز، وهو بُعدٌ سياسي ومولد للأزمات بما لا يمكن اختزاله، ولا يمكن لأي تحليل يدعي العلمية أن يخفف من وطأته. لحسن الحظ أن الديموقراطية لن يحل محلها أبداً جمهورية الخبراء.
ومع هذا، فإن قضية التوزيع تستحق أيضاً أن تُدرس بطريقة منتظمة ومنهجية. وفي غياب المصادر والمناهج والمفاهيم المعرّفة بدقة، فإنه من الممكن قول أي شيء ونقيضه. والتفاوتات بالنسبة للبعض هي متزايدة دائماً، وأن العالم بالتعريف هو عالم غير عادل. وبالنسبة لآخرين فإن التفاوتات هي متناقصة طبيعياً، أو أنها متناغمة عفوياً، ويجب على وجه الخصوص عدم القيام بأي شيء يؤدي إلى تعكير صفو هذا التوازن السعيد. وفي مواجهة جدل الطرشان هذا، حيث يبرر غالباً كل معسكر كسله الفكري بالكسل الفكري للمعسكر المقابل، يوجد دور لعملية بحث منتظم ومنهجي – إن لم يكن علمياً بالمعنى الكامل للكلمة. ولن يضع التحليل الدقيق أبداً حداً للأزمات السياسية الحادة التي تثيرها التفاوتات. إن البحث في العلوم الاجتماعية هو، وسيكون دائماً، متعثراً وغير كامل. ولا يدعي أنه سيغير الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ لتكون علوماً دقيقة. ولكن بإرساء الوقائع والثوابت بأناة وعبر التحليل الواعي للآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تبرز التفاوتات، يمكن لعلم الاجتماع أن يزود الجدل الديموقراطي بمعلومات على نحو أفضل ليركز على الأسئلة الجيدة. ويمكنه أن يساهم باستمرار بتعريف مصطلحات الجدل، وأن يكشف عن الثوابت الجاهزة والخدع، وأن يعاد اتهام كل شيء ووضعه موضع التساؤل. وبالنسبة لي فإن هذا هو دور يمكن ويجب على المفكرين أن يمارسوه، ومن بينهم الباحثين في العلوم الاجتماعية، والمواطنين وآخرين، من هؤلاء المحظوظين بأن لديهم من الوقت أكثر مما لدى الآخرين لتخصيصه للدراسة (ويمكن أن يُدفع لهم أجور بهذا الخصوص –وهو حظ كبير).
ولكن، وعلى مدى وقت طويل، فمن الواضح أن الأبحاث الدقيقة المخصصة لتوزيع الثروات تقوم نسبياً على قليل من الوقائع الراسخة، وعلى الكثير من التكهنات النظرية البحتة.

بقي أن نقول إن هذا المقال والمقالات الثلاث السابقة (مالتوس، ريكاردو، ماركس) هي جزء من مقدمة كتاب توما بيكتي بعنوان "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" وهو مترجم إلى العربية وإلى نحو 15 لغة أخرى. كتاب جدير بالقراءة لأصحاب الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق