بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 24 فبراير 2017

كارثة العلم ...والإيديولوجيا

امتزج علم الوراثة بالسياسة طوال هذا القرن العشرين. وبمثل ما عارضت الكنيسة قديماً أفكار غاليلو كونها مخالفة للعقيدة، فقد نبذ الشيوعيون علم الوراثة كونه يتعارض مع مبادئ الشيوعية. بدأ هذا النبذ منذ نهاية العشرينيات. فباسم الديالكتيكية أقام أعداء نظرية التطور السوفييت وراثة جديدة سموها وراثة الصفات المكتسبة، وهي صفات يمكن اكتسابها دون تدخل الوراثة في ذلك، كأن يجعل القمح ينضج شتاءً مثلاً. وإنما قاموا بذلك مسلحين بنصوص لأنجلز وليس بدلائل علمية. وكان بطل هذه الحملة المهندس الزراعي تروفيم ليسنكو. اعتبر ليسنكو أن نظريته في الصفات المكتسبة هي نظرية لا يمكن للهندسة الوراثية أن تفسرها. وقام بمهاجمة مدرسة الوراثة السوفيتية اللامعة في وقتها.

ومن قراءة تصريحات ليسنكو، يُظهر المضمون والأسلوب وضوحاً ضعفه العلمي وجهله، ليس في البيولوجيا البسيطة فقط، وإنما في المنهجية العلمية نفسها. وهي تذكر بالكتيبات التي كانت تطبع على نفقة مؤلفيها العصاميين المقتنعين بأنهم قد وجدوا سر الحياة أو دواء السرطان. ولكن المخيب، وهذا ما أظهر حذق ليسنكو، أنه حصل على دعم ستالين ومعه كل السلطات السوفيتية والدولة والحزب والعدالة والصحافة. وبفضل ذلك حصد نصراً مؤزراً على خصومه. ومنع تعليم الوراثة في الاتحاد السوفيتي وقتها. وكان مصير من يخالف نظرياته النفي إلى سيبيريا من حيث لم يعد الكثيرون. وبالطبع ما انطبق على الاتحاد السوفيتي كان ينطبق على الدول التي كان واقعة تحت سيطرته، إذ حورب علم الوراثة في كل الديموقراطيات الشعبية. فقد حملت في كلية بودابست مجموعة ذبابات الخل التي كانت تستخدم في البحث والتعليم ليلقى بها في القمامة أمام طاقم إدارة الجامعة ورئيسها. وفي برنو ألقي بتمثال الراهب مندل. أما البازلاء التي استخدمت في تجارب مندل فقد اقتلعت من حديقة الكاتدرائية التي عمل فيها منندل. فلم يكن القصد الضحد وإنما الهدم.

وكان المدهش الأكثر في هذه الحالة هي الحجج التي استعملها ليسنكو وأنصاره. وكانت مقالته، عندما كان يتحدث عن البيولوجيا، من الضحالة لدرجة تثير السخرية وتهدم أي نصيب، مهما كان صغيراً، من المصداقية التي كان ممكناً أن تخصص بها ادعاءاته الزراعية. كان رجلاً عنيداً يتلفظ، دون أن يرجف له جفن، بحماقات من نوع: يوجد نوعان من الغلوكوز، نوع للنباتات وآخر للحيوانات! أو: تفيد الأحماض الأمينية أولاً في التوازن التناضحي (الارتشاحي) للخلايا! أو ثانية: إن هيولى الخلية هي التي تعطي للنواة في الخلايا خواصها! ولا يوجد لأي من هذه المقولات أي نوع من البيّنة.

إن مفهوم النوع بالنسبة إلى ليسنكو ومؤيديه لم يكن إلا فكرة بورجوازية. ولم يكونوا ليترددوا في توفير أكبر دعاية للتجارب التي سمحت لهم بتحويل نوع إلى آخر: كالقمح إلى سلت والشوفان إلى شعير. والهدف من هذه العمليات كان الشهادة بنجاح العلم التقدمي! وفي الواقع فإن الجدل الحقيقي كان أيديولوجيا وليس علمياً. فالحجة التي كان يستخدمها بلا انقطاع ضد علم الوارثة هي عدم توافقها مع الديالكتيك المادي. وكان هذا بالنسبة له الرهان الحقيقي وأصل المسألة، وهي الأرضية الوحيدة التي تمكنه من الحصول على دعم ستالين وكل السلطة السوفيتية. وهنا، وفقط هنا كان له حظ في النجاح وسيطرة أفكاره ودحر أعدائه. وفي الواقع فقد كان ليسنكو محقاً في عدم توافق الديالكتيك المادي وعلم الوراثة. إذ لا يمكن موافقة نظرية المورثات مع ديالكتيك أنجلز. وبالقدر نفسه الذي لا يمكن فيه موافقة الديالكتيك مع النظرية الداروينية، نظرية الانتقاء والتطور، التي كان ليسنكو يرفضها. وبالنسبة له فإن نظرية الخصال المكتسبة، التي كان يظن أنه برهن صحتها، تسمح بتغيير الطبيعة تغيراً له صفة الديمومة، وعليه تطابقها مع العقيدة الماركسية.  وهذا يعني موافقة ستالين.

بقي ليسنكو أمداً طويلاً في وظيفته وبما يكفي لهدم البيولوجيا وعلم الزراعة في بلده التي لم تتعافى بعد من آثاره. لقد امتد به العمر إلى ما بعد ستالين. ولكنه اختفى في بداية الستينيات تحت وطأة هجمات الفيزيائيين السوفييت. فقد كان لهؤلاء، على العكس من زملائهم البيولوجين، وبسبب السلاح النووي، حرية السفر والمشاركة في المؤتمرات في خارج الاتحاد السوفيتي. ولم يغب عن علماء الفيزياء الغربيين الاهتمام بالبيولوجيا الجزيئية في بداياتها، ولعب بعضهم الأدوار الأولى. وبنتيجة احتكاك الفيزيائيين الروس بزملائهم الغربيين أدركوا بسرعة ضرر مواقف ليسنكو. وتمكنوا من إقناع السلطات السوفيتية. وبعد أخذ ورد انتهى الأمر بنزع ألقاب ليسنكو وعزله. وأعيد وضع تمثال مندل على قاعدته في برنو التشيكية. وزرعت البازلاء مجدداً في حديقة الكاتدرائية.

ومع أن قصة لينسكو قد انتهت كما كان لها أن تنتهي، إلا أن العالم لا يزال ينجب أمثال لينسكو، ليس في العلم ولكن في جوانب أخرى مو مواضيع الحياة والمعتقدات،... وبغطاء علمي إن احتاج الأمر.

بتصرف، من محاضرة لفرانسوا جاكوب، جائزة نوبل في البيولوجيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق