بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 يونيو 2018

رحلة بنطال الجينز... من المزارع إلى المزارع

وهو أشهر بنطال ارتداه الإنسان، القديم والمعاصر وأكثرها شعبية. يباع منه في الوقت الحاضر نحو 2.3 مليار بنطال سنوياً في مختلف أرجاء العالم. بدأت قصته مع التاجر الأمريكي ليفي ستراوس والخياط جاكوب ديفيس. إذ خاط هذا الأخير بنطالاً من قماش أزرقاً مقوى بمسامير نحاسية في الأماكن الحساسة التي يمكن أن تتعرض للتمزق بأكثر من غيرها. ولمّا لم يكن لهذا الأخير إمكانية تسجيل بنطاله كاختراع باسمه، عرض على ليفي الاشتراك معه وتمويل تسجيل الاختراع على أن تكون أرباح تجارة هذا البنطال مناصفة بينهما. وكان ذلك في عام 1873.

ولكن قصة قماش الجينز تعود إلى أبعد من ذلك، وإلى القرن السابع عشر عندما بدأت مدينة جنوا (ومنه اسم الجينز) الإيطالية بصناعة قماش من خيطان القطن والقنب وبحياكة تكسب القماش سماكة ومتانة، وصبغته باللون الأزرق. وانتشر في أوروبا، وحاولت شركة فرنسية في مدينة نيم تقليد هذا القماش ولم تفلح. ولكنها قامت بحياكة مختلفة قوية وبسيطة وذات ملمس أملس، إذا كان قماش جنوا مخملي الملمس. وصبغت قماشها هذا باللون الأزرق أيضاً، وسمي بقماش "دونيم"، وهي تسمية متداولة حتى اليوم. وعاد أهل جنوا واعتمدوا الحياكة الجديدة. واشتهر هذا النسيج في صنع الملابس والخيام والأغطية. لكن شهرته الكبيرة تعود إلى استخدام جاكوب ديفيس لهذا القماش.
وهذا القماش يستخدم فيه حالياً القطن بشكل رئيسي، قطن يزرع في الأمريكيتين وأفريقيا والصين والهند. ثم يغزل في باكستان وإيطاليا وتركيا وغيرها، ثم يصبغ بالأزرق. بعدها يحوّل نسيجاً في مناطق مختلفة أشهرها الصين. وخياطته تكون في الصين نفسها أو بنغلادش أو تونس وغيرها لأسباب انخفاض كلفة اليد العاملة. وفي كل الأحوال فإن عدد الدول التي تساهم في صناعة بنطال الجينز لا تقل عن عشر دول. دولة يزرع فيها القطن وأخرى يغزل فيها خيوط القطن وأخرى يصنع فيها النسيج ودولة يصنع فيها اللون الأزرق، وأخرى يصنع فيها المسامير النحاسية وأخرى يصنع فيها خيوط الخياطة وأخرى يصنع في سحّاب البنطال وأخرى يكون فيها التصميم ودولة أخيرة يكون فيها التصنيع الذي يكون لصالح شركة موجودة في دولة أخرى يباع البنطال على أنه من صادراتها. ومجمل هذه العمليات تجعل المسافات التي قطعها القطن من منشأه إلى أن يصل إلى المستهلك كبنطال تزيد وسطياً عن محيط الأرض! البنطال إذن  كمنتج نهائي مثال عن عولمة الضرورة.

وهي عولمة مؤذية في معظمها. فزراعة القطن تحتاج إلى الكثير الكثير من المياه. فإنتاج كيلو من القطن يحتاج على الأقل إلى خمسة آلاف لتر من الماء في الأحوال التقليدية، وبما أنه من المطلوب الوصول إلى أقل الكلف لذا يجب زيادة الإنتاج. وزيادة إنتاج القطن تحتاج إلى أسمدة ومياه أكثر تصل إلى 25000 لتراً للكيلو الواحد من القطن. وهذه الزراعة تستهلك الكثير من المبيدات الحشرية والفطرية، وهي لوحدها حالياً تستهلك ربع المبيدات المستعلمة في العالم. وغير ضررها للتربة فهي غالباً ما تستعمل في الدول النامية بدون أية إجراءات حماية أو وقاية بكل ما ينجم عن ذلك من إصابات مؤذية للمزارعين. وغير ذلك فهذا القطن يتطلب نقله بالسيارات والسفن وفي هذا استهلاك للوقود وطرح لثاني أوكسيد الكربون في الجو. وصناعة البنطال في مراحلها المختلفة تستهلك كمية لا بأس بها من الماء والمواد الكيمائية الضارة بالبيئة. أي أن هذا البنطال الجميل والعملي هو في الحقيقة من أكثر الملابس الملوثة للطبيعة. أما الدول التي تصنّع فيها هذه البناطيل فإنما اختيرت لرخص أجر اليد العاملة فيها وهي لا تزيد عن 200 دولار شهرياً، وهذا يعادل ثمن بنطالين أو ثلاثة في أحسن الأحوال في الدول الغربية.


كلمة أخيرة: تعود ملابس الجينز التي لم تستهلك في أوروبا ولكن أصحابها يتخلون عنها لأسباب مختلفة، إلى الأفارقة يشترونها بأسعار رخيصة (بالة)... وهم الذين زرعوها قطناً!... ويسألونك عن الإنصاف!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق