بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 مايو 2018

مقارنة بين الدماغ الإنساني والحاسوب


يتألف الدماغ، بتبسيط شديد، من مكونين رئيسيين هما: العصبونات والمشابك synapses. والعصبونات هي خلايا عصبية يمكن استحثاثها بإشارات كهربائية من أصل كيمائي أو ما يسمى بالسيالة العصبية. وهي تتبادل هذه الإشارات عبر المشابك التي تصل بين العصبونات. عدد العصبونات في الدماغ الإنساني يتراوح بين 86 و 100 مليار عصبون. ولكل عصبون أن يتصل وسطياً بعشرة آلاف عصبون آخر، مجاور أو لا. أي أن عدد المشابك هو بين 860 و 1000 تريلون مشبك. قطر العصبون يتراوح بين 5 و 120 ميكرون، اي يمكن وضع بين 200 و 8 عصبونات في الميليمتر الواحد. والعصبون يمكن أن يكون في حالتين: حالة الراحة عندما يفقد جهده الكهربائي بفقده المستمر لشوارد البوتاسيوم، أو يكون في حالة فعل حيث يختزن العصبون شحنة أو جهداً كهربائياً عن طريق اكتسابه للشوارد. واكتسابه أو فقده للشوارد يكون بما تحمل إليه المشابك أو تحمل منه إلى عصبونات أخرى. وهي بهذا تشبه عنصر الذاكرة في الحاسوب الذي يمكن أن يحوي أو لا على جهد كهربائي. وهو ما يعبّر عنه عادة برقمي الصفر والواحد. الواحد للدلالة على وجود شحنة كهربائية، والصفر على غياب الشحنة.

وهذا العدد الهائل من العصبونات والمشابك يجعل ذاكرة الإنسان ذاكرة هائلة، لكم أن تقدروا عدد الكلمات التي تعرفونها، ومن ثم الأشياء والأشخاص بأشكالها وسماتها وخصائصها، والذكريات والروائح والأصوات والموسيقى والأغاني وأبيات الشعر وغيرها الكثير الكثير وكلها في هذا الدماغ! وذاكرة الإنسان سريعة للغاية فهي تتعرف إلى الأشياء بمجرد النظر إليها إذا كانت قد عرفتها في الماضي، مثل أشخاص قابلناهم في وقت قريب نسبياً أو التعرف إلى كتاب أو أي غرض مألوف. وهي بذلك ذاكرة موجهة، أي لا تحتاج إلى الكثير من العمليات للتعرف إلى تفاحة مثلاً. في حين أن الحاسوب الذي يتعرف إلى التفاحة سيستغرقه ذلك وقت أطول وسيحتاج إلى آلاف وآلاف العمليات لتحقيق ذلك والقول بأن ما هو موضوع أمامه هو تفاحة وليس إجاصة مثلاً. وهي تتذكر بعض من الشيء أحياناً وليس بالكامل، مثل نسيان لون الكرسي الذي كنا جالسين عليه في بيت فلان من الناس. ومن جزء من شيء تتعرف إلى الشيء بالكامل، مثل رؤية جانب من سيارة لمعرفة بأن هناك سيارة دون رؤيتها بالكامل، وهي هنا تتفوق على الحاسوب تماماً، حتى الآن على الأقل. وهي ذاكرة مرتبة وفق نظام يجعلها تتذكر الأشياء وفق تسلسل ما، كما هو الحال في تذكر كتابة الكلمات من اليمين إلى اليسار وليس العكس. وهنا يمكن لذاكرة الحاسوب أن تتفوق على الذاكرة الإنسانية إذ بإمكانها أن تتعامل مع الأشياء بأي وضع كانت كما في حالة الصور المقلوبة التي لن نتعرف إلى صاحبها بسهولة كما يفعل الحاسوب. ولكن للذاكرة أو الدماغ الإنساني قدرة مرونة وتكيّف لا يتمتع بها الحاسوب. إذا بإمكاننا أن نقرأ نصاً يتضمن أخطاءً إملائية، وبدون أن نعير ذلك أي انتباه أحياناً. في حين أن الحاسوب لن يتمكن من ذلك دائماً، حتى الآن على الأقل.

يتملك الحاسوب عموماً، الذي نتعامل معه حالياً، عدد أقل بكثير من الخلايا والروابط بينها. ولكن الحاسوب يقوم بعملياته بسرعة كبيرة تصل إلى مليون مرة أسرع من العمليات الدماغية، ولكنه يقوم بعملياته بطريقة مختلفة تماماً عن الدماغ كم ذكرنا أعلاه في حالة التعرف إلى شكل ما. ونحن نعرف كيفية عمل الحاسوب بنسبة 100%، فنحن من صنعناه. أما الدماغ فلا نزال نجهل الكثير عن كيفية عمله ولا يزال الطريق طويلاً قبل كشف كنه عمله بالكامل. أما عن التطور الذي يصيب عمل الدماغ فهو تطور هائل، فكل ما أنجزته البشرية هو من تطور المعرفة التي كان الدماغ بطله الأوحد. أما الحاسوب فلا يزال يعمل بما خصص له، حتى الآن على الأقل، وإن كان الذكاء الصنعي يعد بثورة كاملة يستطيع الحاسوب بفضلها الاستقلال عن مبرمجه ويصبح قادراً على برمجة نفسه، أي أن يتعلم من تلقاء نفسه.

ولكن الحاسوب، حتى الآن، يحتاج إلى طاقة بأكثر مما يحتاج الدماغ الإنساني للقيام بعمليات مماثلة. هذا الأمر في تغير متسارع مع مشروع لشركة آي بي إم ووزارة الدفاع الأمريكية، بدأ في عام 2014 لبناء دارة إلكترونية مصغرة تحاكي التركيب الدماغي من حيث ربط ما يشابه العصبونات وبعدد مليون دارة عصبون، عبر 256 مليون مما يشابه المشابك، اي ربط كل عصبون إلكتروني بنحو 256 عصبون آخر. حجم هذه الدارة لا يزيد عن 3*4 سم وتضم نحو 5.4 مليار ترانزستور ولا تستهلك من الطاقة إلا 73 ميلي واط. والهدف النهائي كما تقول الشركة هو الوصول إلى دارة تضم عدد عصبونات الدماغ الإنساني ومشابكه. وهذا سيكون خطوة رئيسية على طريق الانتقال إلى ما يسمي بمرحلة بعد الإنسان transhumanism أو الإنسان المحسّن.

وأياً ما كان من أمر، فهل سيكون للحاسوب مهما تقدمت به التقانة من أن يعي مجمل المنظر الذي نراه من نافذتنا التي تطل على باحة مدرسة بصفوفها وتلاميذها وثيابهم المختلفة الأشكال والألوان، وتلك الشجرة المزروعة من عشرات السنين في زاوية الباحة والتي ركن حول جذعها دراجات بعض الطلاب، ومنظر ذلك الطالب الذي يتسلق جدار الباحة للهرب من المدرسة وضوحاً... نحن نعي ذلك عندما نراه في الحال وننسج حوله قصة وقصصاً، فهل للحاسوب أن يفعل ذلك يوماً!... ربما، من يدري!... ولكنه لن يبتسم  الحاسوب لمرأى ذلك الطالب الهارب، وربما سيُعلم إدارة المدرسة عما يحدث بكل "خسّة"!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق