بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 23 مايو 2018

بطرس الكبير... أكبر أباطرة روسيا

وهو ليس أكبرهم من حيث الطول، إذ بلغ طوله نحو مترين، ولكنه الكبير لكبر ما فعله ببلده ونقله من العصور الوسطى إلى زمنه الذي كان يعيش فيه. والبعض يقول إنه لولا بطرس الكبير هذا لكانت روسيا اليوم في عداد الدول النامية.


بطرس الكبير، أو بطرس الأول ولد عام 1672 وتوفي عام 1725، أي أنه عاش نحو 53 عاماً، كانت حافلة بالإنجازات والمغامرات والمآسي. فقد توفي أبوه وله من العمر أربع سنوات، وورثه أخاه من أبيه فيودور الثالث الذي لم يطل به العمر، إذ توفي في عام 1682 بلا وريث. عين مجلس الأعيان بطرس وأخاه من والده إيفان الرابع قيصران على روسيا في سابقة لا مثيل لها وذلك في ظل ظروف غريبة، ذلك أن إيفان هو أكبر من بطرس سناً ولكنه كان ضعيفاً عقلياً ويعاني من أمراض.

قامت أخته من أبيه بالوصاية على العرش ودخلت في تحالفات ومعاهدات وحروب لم تكن بالموفقة دائماً، وكانت تطمح بالطبع إلى عزل بطرس أو جعله قيصر ظل. ولكن هذا الأخير استفاد من فشل حملتها على القرم عام 1689 وأجبرها بمساعدة بعض خلصائه على اعتزال السلطة التي عادت له مع أخيه المريض ولتصبح خالصة له مع وفاة هذا الأخير عام 1696. وفي خلال تلك الفترة تعرف إلى بعض المتنورين الغربيين ممن لهم خبرة في الجيش وفنون الحروب والهندسة والإبحار مما ولّد لديه اهتماماً بأوروبا وحضارتها الروحية والعلمية والفنية.

لم يكن لروسيا موانئ تقريباً. وحدودها البحرية هي إما في البلطيق الذي كانت تسيطر عليه الإمبراطورية السويدية أو في البحر الأسود الذي كانت تسيطر عليه الدولة العثمانية. لذا قاد عام 1695 حملة ضد قلعة أزوف التي كان يحتلها الأتراك في البحر الأسود. لم يتمكن في البداية من احتلالها بالرغم من حصارها الطويل فقد كانت تحصل على مؤنها من البحر. وقام هنا ببناء أسطول بدائي قادر على حمل المدافع والجنود ليفوز في النهاية بهذا الحصن وبالانتصار في أولى معاركه. ولكن هذا لم يفتح له باب البحر الأسود لأن الأسطول العثماني كان الأقوى والمهيمن بلا منازع. ولكنه أبرم مع العثمانيين معاهدة القسطنطينية عام 1700 التي تعلن وقف الحرب الروسية التركية التي بدأت عام 1686 وحصل روسيا بالمقابل على اعتراف الباب العالي بسيطرتها على أزوف والميناء التابع لها. هذه المعركة جعلت من روسيا بلداً هاماً في نظر الأوروبيين وأتاحت لبطرس الأول الانتقال إلى جبهة البلطيق.

وفي غضون هذه الحرب التي دامت خمس سنوات قام بطرس الأول بزيارة أوروبا عدة مرات، وهذه كانت أول مرة يغادر فيها قيصر روسيا بلاده إلى الخارج. زار خلالها معظم دول أوروبا ومكث في هولندا فترة لا باس بها، تعلم خلالها بناء السفن في أمستردام، وعزز معرفته هذه أثناء زيارته لبريطانيا. زار فينيا وقابل إمبراطورها الذي خيب ظنه، أما ملك فرنسا لويس الرابع عشر فقد رفض استقباله لأن روسيا "أمة وضيعة غارقة تماماً في بربريتها"، ولكن يجب أن نعرف أن فرنسا هي الدولة الوحيدة تقريباً بين دول أوروبا التي لم تدخل في حرب مع الدولة العثمانية التي كان بطرس الأول في حرب معها. 

عاد إلى روسيا عام 1698 وهو على مشارف البندقية لقمع عصيان يهدف إلى إعادة أخته من أبيه إلى الحكم. عصيان قمعه بقسوة. طلّق زوجته التي اتهمها بالتآمر ضده ووضعها في دير للراهبات، وأبعد عنها ابنه الوحيد الصغير ألكسي الذي أمضى حياته أسير صورة ذلك الفراق المؤلم.

بعد "انتصاره" في البحر الأسود، انتقل إلى بحر البلطيق الذي كانت تسيطر عليه السويد. وفي عام 1700 دخل في معركة ضد الجيش السويدي الذي كان يقوده الملك الشاب الصغير شارل الثاني، جيش قوامه 8000 مقاتل في مواجهة 38000 ألف جندي روسي. خسر بطرس الأول المعركة خسارة فادحة أمام جيش صغير منظم ومدرب على القتال وفنون الحرب وملك بارع في التخطيط للمعارك. تابع هذا الملك طريقه واحتل بولونيا وجزءاً من ألمانيا. وعاد في عام 1708 إلى روسيا قاصداً موسكو التي كانت تحت سيطرة بطرس الأول. ذلك أن بطرس الأول قام بين عامي 1700 و 1708 بالاستيلاء على أراض في منطقة البلطيق وأسس مدينة سانت بطرسبرغ عام 1703 على خليج فنلندا وجعلها عاصمته بدلاً من موسكو. هزم شارل الثاني بطرس الأول في معركة أولى ولكن بطرس الأول استخدم في الأيام التالية سياسة الأرض المحروقة التي لم يترك فيها للسويديين ما يأكلونه، وتواجه الجيشان بعد ثلاثة أشهر تمكن خلالها بطرس الأول من تحطيم ميمنة الجيش السويدي الذي وجد نفسه مضطراً للانسحاب دون أن يعلن الهزيمة. ولكن الشتاء القاسي والاستعداد الكبير للجيش الروسي مكنا بطرس الأول من هزيمة الجيش السويدي هزيمة نكراء في العام التالي اضطر إثرها شارل الثاني إلى اللجوء للسلطان العثماني أحمد الثالث الذي أعلن الحرب على روسيا 1710-1711. حرب انتهت باستعادة الأتراك لميناء أزوف وقبول السلطان بطرد شارل الثاني وعدم تدخله في الأزمة بين روسيا والسويد. أزمة انتهت مع قبول شقيقة شارل الثاني عام 1721 التوقيع على نهاية حرب الشمال الكبيرة والاعتراف بسيطرة روسيا على شواطئ فنلندا الواقعة على البلطيق.

كان الهمّ الشاغل لبطرس الأول بعد عام 1716 تحضير ابنه لوراثته. ولكن ابنه لم يكن طموحاً بالعرش ولا يرغب فيه. وهذا ما أثار حنق أبيه. هرب ابنه الكسي إلى جنوب إيطاليا باحثاً عن الهدوء والسكينة، ولكن أباه أعاده إلى موسكو بالخديعة والاستعطاف. لم يكن رفض ابنه مفهوماً بالنسبة له واعتبره مؤامرة من ابنه لتقويض كل ما بناه. ومات ابنه تحت التعذيب الشنيع. لذا ورثه في الحكم زوجته الثانية كاترين الأولى، ثم حفيده بطرس الثاني.

وغير معاركه وجعل مكانة لروسيا في أوروبا وعالم ذاك الزمان، فقد قام بطرس الأول بإصلاحات عديدة من بينها فرض ضرائب على الأغنياء (100 روبل) وجعلها زهيدة على الناس العاديين (كيبيك واحد). وكذلك إيقاف وراثة النبالة، فالنبيل هو بحسب الوظيفة الموكلة إليه ليس إلا. ومن بين أوامره "الغريبة" وضع ضريبة على اللحى، ذلك أن اللحية بالنسبة له كانت رمزاً للتخلف. وعلى كل من يريد الاحتفاظ بلحيته (لأنها برأيهم هي من صورة الخالق) فعليه دفع ضريبة تتراوح بين 100 ريال و نصف كيبيك وذلك بحسب المرتبة الاجتماعية لصاحب اللحية. ولتجنب سخط الناس عفا رجال الدين من هذا القانون. ومنع كذلك ارتداء القفطان لصالح الملابس الأوروبية. وحاول في غير ذلك إصلاح القوانين الروسية، ولكنه لم يفلح في ذلك بالرغم من أخذه بالنموذج السويدي والدانمركي. شجع الصناعة والتجارة. واعتمد الروبل عملة لروسيا. وأرسل البعثات إلى أوروبا للتعلم، واعتمد السنة اليوليانية بداية للسنة المحاسبية، وأدخل تبسيطات على الأبجدية السيريلية واستخدم الأرقام العربية وطبعت في أيامه أول جريدة روسية على مطبعة غوتنبرغ التي أدخلها إلى بلاده عام 1700. عارضت الكنيسة إصلاحاته واعتبرتها مناهضة للتقاليد الروسية. وعند موت البطريرك الروسي عام 1700 لم يعيّن بطرس الأول خليفة لها، وإنما قام في عام 1721 بتأسيس مجمع من رجال الدين لإدارة الكنيسة، وكان هذا آخر إصلاحاته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق