بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 20 مايو 2018

جلجامش...ما الذي نعرف عنه ومنذ متى


في عام 1872 وفي منطقة نينوى في العراق، وأثناء تنقيب باحث بريطاني عن قصر آشوري، اكتشف العمال فتحة في الأرض لم تكن سوى مدخل لقاعة تضم آلاف الرقم الصلصالية جمعها أحد الملوك في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد. قرأ خبير الكتابة المسمارية البريطاني جورج سميث بعضاً من هذه الرقم ووجد فيها لأول مرة اسم "جلجامش"، ومن يومها بدأت تتوضح معالم هذه القصة/الأسطورة السومرية. وهي أسطورة كتبت وأعيدت كتابتها مرات ومرات طوال فترة امتدت لنحو ألفي عام، جامعة بذلك أكثر من ثلاثة آلاف بيت من الشعر الملحمي. وبالتأكيد فإن استخراج الرواية كاملة ليس بالأمر السهل، خاصة وأن الرقم التي تروي بعض أطراف هذه الأسطورة مبعثرة في متاحف العالم.

بعض الرقم تصف جلجامش بأنه في ثلثيه إله وفي ثلثه بشر. ولم يكن جلجامش في شبابه إلا ملكاً يحب متاعه ويعامل رعاياه بتعال. كان عنيفاً مع خصومه، وكان حاكماً يقمع شعبه، الذي فقد الأمل فاتجه نحو السماء علها تساعده، والتي استجابت بإرسال إنكيدو. إنكيدو الذي كان يعيش بتناغم مع الطبيعة والوحوش، تأتي به غانية إلى المدينة لمواجهة جلجامش بعد أن أمضت معه سبع ليال من الغواية. وفي أوروك العاصمة يتقابل الرجلان: جلجامش الملك الإله وإنكيدو الرسول. يمضيان الليل في عراك دامٍ بسبب منع إنيكدو لجلجامش من تمضية الليلة الأولى مع عروس من أتباع جلجامش الذي كان يفعل ذلك دائماً باعتباره حق له. ومع بزوغ الفجر دون حسم المعركة لصالح أحدهما، يستلقيان على الأرض منهكين. تكافؤ قوتهما تجعلهما صديقين. وهنا يكتشف جلجامش محدودية قوته ويعرف بأن عليه ألا يفرط في استخدام سلطته. سلطة على المدينة أصبحت من حق الاثنين معاً.

أخذ الاثنان في التفكير في توسيع مملكتهما فكانت رحلتهما معاً إلى جبال الأرز ومقارعة حارس الغابة هومبابا وقتله. والهدف هو الحصول على خشب الأرز اللازم لسقوف القاعات الكبيرة للقصر الملكي والقوارب، خشب غير المتوفر في جوار أوروك.
يقيم جلجامش معبداً مهيباً لإنانا عشتار، آلهة يجلها أهل أوروك ويقدمون لها القرابين لحمايتها للمدينة وأهلها. وفي كل عام يقام احتفال الخصوبة في هذا المعبد، من بين طقوسه مضاجعة جلجامش لكاهنة عذراء. وهو ما كان يُعدّ لجلجامش بعد عودته منتصراً من جبال الأرز. وأثناء التحضيرات تظهر إنانا عشتار التي تحاول إغراءه واتخاذه زوجاً، ولكن جلجامش يرفض لأنها كانت تغري عشاقها ومن ثم تقتلهم. تختفي إنانا عشتار غاضبة حانقة حاقدة. وفي الحال تقرر إصابة إنيكدو بحمى قاتلة انتقاماً من جلجامش، الذي يصاب بحزن شديد على صديقه. وهنا يدرك جلجامش حتمية الموت.

يتخلى جلجامش عن كل اهتماماته في القتال واللهو وينصرف للبحث عن الخلود. ويذهب في رحلة طويلة منهكة للبحث عن الشخص الوحيد القادر على مساعدته في مسعاه. يصل إلى طرف الأرض حيث تهجع الشمس خلف هضبة، وحيث يرى بقعة قاتمة في منتصف الهضبة، إنه باب طريق الشمس، عالم آخر غير عالم البشر. وبعد رحلة حافلة بالمعارك يصل جلجامش إلى شاطئ مياه الموت. وعلى جزيرة غير بعيدة يعيش رجل حكيم خالد (أوتنابشتيم) نجا وزوجته من الطوفان بفضل القارب الذي بنياه. يطلب جلجامش معرفة تفاصيل الطوفان وكيفية الوصول إلى الخلود. فيجيبه أوتنابشتيم بأن ما يطلبه محال، وطلب منه البقاء يقظاً سبع ليال متتالية. ولكن جلجامش يفشل في اختباره. فإذا لم يكن قادراً على مقاومة النعاس الذي هو نصف الموت، فكيف له أن يطلب الخلود! وفي محاولة لمواساته يخبره الحكيم عن نبتة الخلود، فيذهب جلجامش ويجلبها من عمق المحيط. ويستلقي على الشاطئ يرتاح من عناء المغامرة ويغفو لبرهة. تقترب أفعى من مكمنه وتلتهم النبتة، ومن يومها يتجدد جلدها وشبابها!

هنا يكتشف جلجامش سراب حلمه وأنه بشر ليس إلا. يعود إلى أوروك حاملاً معه الدرس الكبير الذي تعلمه، الذي في أحد جوانبه هو حماية شعبه وتحقيق متطلباته. عاد ليصبح راعياً وهو الذي كان يريد أن يكون خالداً، وأدرك أن الخلود يكون في ما يتركه المرء من أعمال. لذا فعند عودته إلى أوروك يأمر بصنع مليون قرميدة لاستخدامها في بناء جدار حماية للمدينة بطول 11 كم وارتفاع 9 أمتار وبناء مدينة عظيمة ببيوتها وبساتينها. وهو أثر يمكن التعرف إلى بقاياه اليوم وبعد خمسة آلاف سنة من إنشائه. وهو ما أكدته بعثة ألمانية عام 1936 وقالت بأن تاريخ بنائه يعود إلى الفترة بين 2900 و 2600 قبل الميلاد. كما عثر على رقم يرد فيها اسم جلجامش في المنطقة نفسها. واليوم تؤكد الدراسات الجيولوجية أن أرض أوروك كانت عامرة بالبساتين والسواقي وقنوات المياه المتصلة بالفرات مما يسمح بالقول بأنها تستحق تسميتها بـ"بندقية الصحراء".

روت بعض الرقم الجديدة كيفية موت جلجامش ودفنه مع خدمه في قبر (في الفرات) أعده جلجامش بنفسه. ومع هذا فلا شيء يؤكد محتويات هذا الرقم بالرغم من توفر مقابر يظهر منها أنها كانت لملوك دفنوا مع خدمهم، ... وكل هذا ليس كافياً لمعرفة فيما إذا كان جلجامش قد وجد حقاً وفعلاً أم أن الموضوع مجرد أسطورة ... أسطورة رائعة المضامين على كل حال، وهي، بحسب أقواله في الرواية، أجمل ما بقي منه إن كان قد وجد فعلاً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق