بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 مايو 2018

بابلو نيرودا... البشر


أتذكر ذاك الرجل،
مضى قرنان مذ رأيته
لم يغادر على حصان أو عربة
ولكن ببساطة كان يجتاز المسافات على قدميه،
لم يكن يحمل سيفاً أو ترساً،
شِباك فقط على كتفيه،
فأساً أو مطرقة أو معولاً،
لم يكن يقاتل أحداً من أشباهه:
كانت إنجازاته في الماء والأرض،
مع القمح الذي تحول خبزاً،
مع الأشجار الباسقة تحولت خشباً،
مع الجدران لفتح الأبواب،
مع الرمل لبناء الجدران،
ومع المحيطات لتحمل.

عرفته ولم أمحه من بالي.

تفتت العربات في قطع،
والحرب حطمت الأبواب والجدران،
والمدينة أصبحت حفنة رماد،
كل الثياب تحولت إلى غبار،
وبقي هو لي،
حيّاً في  الرمل،
عندما بدا كل شيء من قبل باقٍ إلا هو.

وفي ذهاب وإياب العائلات
كان أحياناً أبي أو نسيبي
أو ربما كان بالكاد هو أو لا
الذي لم يعد إلى بيته
لأن الماء أو الأرض ابتلعته
أو شجرة أو آلة قتلته،
أو أنه كان النجار المحزن
الذي سار وراء التابوت بلا دموع،
شخص بلا اسم في نهاية المطاف،
باستثناء تلك التي للمعادن والأخشاب،
والتي نظر الآخرون إليها من عل
بدون رؤية ما النملة بالنسبة لعش النمل
وعندما كانت قدمه بلا حراك،
لأن المسكين مات من التعب،
فهم لم يروا أبداً ما لم يروه من قبل:
فقد كانت هناك قدم حيث كان هو.

القدم  الأخرى هي قدمه،
واليدان الأخريان،
بقي الرجل:
وعندما بدا الآن لماذا جُعل
فقد كان مرة أخرى هو نفسه،
كان يحفر من جديد على الأرض،
ثياب مهلهلة، بلا قميص
هناك كان ولم يكن، مثلما من قبل
سقط وكان من جديد،
ولمّا لم يمتلك يوماً مقابر،
أو قبوراً، ولم يكن اسمه منقوشاً
على حجر عَرِقَ لاستخراجها،
لا أحد كان يعرف أنه أتى
ولا أحد كان يعرف متى مات،
بحيث أنه فقط عندما يمكن للرجل المسكين
يعود للحياة مرة ثانية، بدون أن يلحظ ذلك أحد.

كان هو الرجل بلا شك، بلا إرث،
بلا مواشٍ، بلا عَلَم،
ولم يكن تميزه عن الآخرين ممكنناً،
كان الآخرون هو،
كان رمادياً من الذؤابات مثل أسفل الأرض،
مدبوغاً مثل الجلد،
كان أصفراً يحصد القمح،
كان أسوداً في المنجم،
كان بلون الحجارة على الحصن،
في قارب الصيد بلون سمك التونة،
وبلون الأحصنة في البرية:
كيف كان لأي أحد تميزه
إن كان غير قابل للفصل، أولي،
أرض، فحم أو بحر كلها متاحة للرجل؟

عاش أينما كان
رجل ملموس كَبُر:
الحجارة الجارحة،
شذبتها يداه،
طلبها آخرون
واحدة بعد أخرى شكلت
الوضوح الجلي للمبنى،
صنع خبزاً بيديه،
وحرك الآلات،
والمسافات سكنتها المدن،
رجال آخرين كبروا،
وصل النحل،
وبفضل إبداع الإنسان وتربيته
جاء الربيع إلى ساحات الأسواق
بين المخابز والحمام.

نُسي صانع الأرغفة،
هذا الذي ارتحل وارتحل عاركاً
فاتحاً الثلم، وناقلاً الرمل،
وعندما كان كل شيء موجوداً لم يعد موجوداً،
تخلى عن وجوده فقط،
ذهب إلى مكان آخر للعمل،
وفي النهاية مات، متدحرجاً
مثل حجر إلى النهر:
حمله الموت قدماً.

أنا، الذي عرفته، رأيته ينزل
حتى أنه لم يكن ما كان عندما غادر:
الطرقات التي بالكاد يستطيع أن يعرفها
بيوت لن يعيش فيها أبداً.

استدرت لأراه

في قبره حيّاً أراه.

لقد ميزته من بين الجميع أمثاله
ويبدو لي ذلك مستحيلاً
هكذا، نذهب إلى لا مكان،
لا مجد في البقاء هكذا.

أعتقد أن هذا الرجل
معتلياً عرشاً وفي قدميه حذاء وعلى رأسه تاج.
أعتقد أن هؤلاء الذين صنعوا مثل هذه الأشياء
يجب أن يكونوا سادة كل هذه الأشياء.
وأن من صنعوا الخبز يجب أن يأكلوا!

وأن من يعيشون في المناجم يجب أن يوفر لهم الضوء!

يكفي الآن من رجال شيب مستعبدين!
يكفي "ممن فقدوا"!

لا رجل آخر يمر إلا باعتباره ملكاً.

ولا امرأة واحدة بدون تاجها.

قفاز ذهبي لكل يد.

ثمار الشمس لكل المجهولين!

عرفت هذا الرجل عندما كان لي ذلك،
عندما كانت عيونه لا تزال برأسه،
عندما كان له صوت في فمه
بحثت عنه بين القبور،
وقلت ماسكاً بذراعه التي لم تصبح غباراً بعد:
"كل شيء سيمضي وتعش أنت،

لقد أوقدتَ الحياة.

لقد صنعت ما هو لك".

إذاً، لا تدعوا أحداً يقلق
عندما أبدو وحيداً وأنا لست بوحيد،
أنا مع لا أحد وأتحدث عن الجميع:

البعض يصغي لي، دون أن يعرف،
ولكن لهؤلاء الذين أغني، هؤلاء الذين يعرفون
استمروا في الولادة واملئوا الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق