بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 16 سبتمبر 2017

تكوّن المجتمع... الصيد

إذا كان عمر البشرية نحو ثلاثة ملايين عام، فيما يمكن اعتباره بداية للإنسان أو الذي تحدر منها الإنسان الحالي، فإن لعيشه في جماعات الأثرالأكبر في بقائه ومتابعته مسيرة الحياة وتطوره. إذ ليس للإنسان بمفرده قدرة مقاومة الظروف الطبيعية التي لم تكن يوماً بالمواتية للحياة، فهو لم يعرف السكن ولا الملبس إلا في أطوار جد متأخرة، كما أنه لم يعرف الزراعة إلا منذ فترة وجيزة مقارنة بطول زمن مساره. تأمين الطعام هو الباعث الأول على الخروج من جحره، كما كل الكائنات. طعام الإنسان كان اللحم والثمار. ولكن الثمار لم تكن دائماً بالمتوفرة، فهي عرضة لتقلبات الطقس، وهي موسمية، وهو لم يكن يعرف حفظها، لذا كان اللحم مصدراً دائماً. وفي سنوات الجفاف التي يعز فيها الثمر تكثر فيها الحيوانات النافقة التي كان يتغذى بها.

نعم كان الإنسان منذ البداية من أكلة اللحوم، مثله مثل كل الثدييات الرئيسة. يستدل على ذلك من المستحاثات المتوفرة التي تُظهر أن فكي الإنسان والعضلات الفموية كانت لإنسان يأكل اللحم الذي يحتاج إلى المضغ المديد بعكس الثمار، وكذلك تشير الأسنان وما بقي عليها من خدوش إلى ذلك، وكذلك بعض المواد الكيمائية المترسبة في العظام ذات المنشأ الحيواني. لم يكن يعرف الصيد في البداية، وإنما عرف ذلك متأخراً جداً ومنذ فترة تعود لنحو 120 ألف سنة فقط. قبل ذلك كان يأكل من لحم الحيوانات النافقة حديثاً، أو من بقايا ما تصطاده الحيوانات المفترسة وما تخلفه وراءها. بعض الأنثروبولوجيين وعلماء المستحاثات يقولون بأن دماغ الإنسان الأول لم يكن يسمح له بالتفكير في اختراع وابتكار طرق للصيد لذا اكتفى بما تجود به الحيوانات المفترسة.

ولكن حتى مشاركته الحيوانات المفترسة صيدها كان يحتاج إلى عمل جماعي، فهو تعلم كيف يخيف هذه الحيوانات ويبعدها عن صيدها، وعرف تقاسم المهمات بين من يقوم بالحراسة ومن يقوم بنزع اللحم عن العظم والجلد بأدوات جد بدائية من حجر وعصي مدببة. وكان عليه أيضاً أن يعرف أين يكون صيد الحيوانات ويعرف سلوكها وبأسها. عدد من كان يشارك في البحث والاستيلاء على الفريسة لا يقل عن عشرين شخصاً، ذكور على الأغلب. أخذ بصيد الحيوانات الصغيرة منذ نحو ثلاثمائة ألف عام. كان صيداً يجري بالضرب بالحجارة أو بقرع الحيوان على الأرض لقتله. في هذا الوقت كان الإنسان قد اكتشف النار وتعلم استخدامها في طهي طعامه، الأمر الذي حسنّ في صحته العامة، ذلك أن الطعام المطهو أسهل للمضغ وللمعدة ويفيد في تخليص اللحم من جزء كبير من البكتيريا.

مع الصيد طور الإنسان أدواته، فجلود الحيوانات تحتاج إلى وسائل فعالة لاختراق جلدها وقتلها بمثلما تفعل مخالب وأنياب الحيوانات المفترسة، فاخترع العصا التي ربط إليها حجراً صواناً مدبباً بما يشبه الرمح يطلقه مباشرة أو بأداة دفع خاصة تكسب الرمح قوة اندفاع تمكنه من اختراق جلد الحيوان المزمع صيده، مثل أنواع الوعل أو الرنة أو الثيران. وصنع ما يشبه السكين لكشط اللحم عن العظم من الصوان أيضاً أو من عاج الفيلة. وصنع القوس والسهام للصيد ولردع الحيوانات المفترسة من الاقتراب من طرائده أو من فرائسه. هذا كله كان يحتاج بالطبع إلى جهد جماعي، كما كان يحتاج إلى تفكير مستمر طور به وعبره الإنسان قدراته المعرفية. كان عليه أن يتعلم طبائع الحيوان، وعليه أن يتعلم مساراته ومواسم تكاثره، وكيف ومتى يصطاد، وأن يتعلم كيف يدفع عن نفسه أذى الحيوانات المفترسة وكيف يتعايش معها وكيف يطوعها، وكيف يستخدمها وكيف يجعل منها أو من بعضها حيوانات أليفة. هذا كله علّمه أن يعيش مع الآخر ويشكل التجمعات الأولى التي تطورت لاحقاً إلى قرى مستقرة، وتعلّم كيف يحفظ الطعام لمواجهة أيام الجدب والقحط.

وكما قال عالم المستحاثات ريتشارد لايكي في كتابه "ولادة الإنسان": إن بيولوجيا الإنسان وكذلك سيكولوجيته وعاداته الخاصة به التي تميّزه عن القردة الكبيرة وكل خصائصه إنما تعود إلى ذلك الصياد الأول.

لا يزال الصيد هو العمل الأول لدى الإنسان الحالي، ولكنه صيد من نوع آخر!


تنويه: هذه الورقة مأخوذة في معظمها من كتاب "أكلة اللحوم" للباحثة الفرنسية مارلين باتو-ماتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق