بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 سبتمبر 2017

لولا الصفر ... لما كانت أشياء كثيرة

لولا الصفر لما كانت تلك العلامة المقيتة التي يلوّح بها الأستاذ في المدرسة، ولما كان معيار البرد المرتبط بالصفر مئوي وما دونه والذي نشعر بالبرد لمجرد سماعه. ولما كانت تلك الأعداد التي نستخدمها بشكلها الحالي.  ولما كان لتعابير مثل "عاد صفر اليدين" المعنى الذي لها. ولما كانت أشياء كثيرة نستخدم فيها الصفر وكلمة الصفر،... ولكن كل هذه أشياء من الممكن تجاوزها، ويمكن الاستعاضة عن الصفر بأشياء أخرى. ولكن لولا الصفر لكنا واجهنا، ربما، مشكلة في البناء الرياضياتي ولكانت الرياضيات شيئاً آخر مع كل ما لذلك من تبعات. وإليكم "التسلية" الرياضياتية الآتية مثالاً التي سنصل بها إلى اللامعقول بسبب عدم الانتباه إلى الصفر:
1-      لنفترض أن: a = b = 1 
2-     وكتابة أن: a2 = a2  هي تحصيل حاصل
3-     وكذلك الأمر:  b2 = ab
4-     وبطرح السطر الثالث من السطر الثاني نجد:  a2  -  b2  =  a2  - ab
5-     وبالتفريق السطر الرابع إلى مضاريب نجد: (a + b) (a – b) = a (a – b) 
6-     لنقسم الطرفين بالحد(a - b)  ، فنجد أن: a + b = a 
7-     وهنا المشكلة، وذلك لأن a=1 و b=1، أي أن الطرف اليساري للمساواة الأخيرة يساوي 2 في حين أن الطرف اليميني يساوي1 ، أي أننا وصلنا إلى أن 2=1!!! فأين المشكلة؟ المشكلة أنه في السطر السادس يوجد صفر متمثل في الحد: (a – b)   وقسمنا به طرفي المساواة في السطر الخامس! فكيف يمكن توزيع تفاحات على لا أحد (الحدa – b)  ) هو بمعى لا أحد؟ إنه اللامعقول بعينه.
أول تعريف للصفر كان في القرن السابع الميلادي وفي عام 628 بالتحديد كما أكدت ذلك دراسة جديدة لمخطوطات تعود للرياضياتي الهندي براهماغوبتا (598-660)، وهو قال بأن الصفر هو طرح عدد من نفسه، أي بلغة رموز اليوم: a-a=0، وحل هذا الهندي بعض المعادلات الجبرية وتحدث عن الأعداد الموجبة مسمياً إياها بالأملاك، وتحدث عن الأعداد السلبية بأنها "الخسائر" أو "الديون"، وجعل الصفر الحد الفاصل بين الأعداد الموجبة والأعداد السالبة، أي أنه جعل من الصفر عدداً بالمعنى الكامل. كان الهنود قد استخدموا الصفر في نظام العد العشري للإشارة إلى الخانة كما هو الحال في العدد 107، أي أنهم استخدموه أيضاً للترقيم. 

أخذ عنهم العرب ذلك بفضل الخوارزمي، الذي عاش أيام المأمون ووضع علم الجبر مطوراً ما صنعه الهنود، وأتاح بذلك انتشاره في العالم عن طريق الدولة العربية التي كانت تمتد حتى إسبانيا. وقام بنقل الصفر إلى أوروبا الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي عام 1202 وكان قد درس الرياضيات على يد بعض علماء الجزائر، وسمى الصفر   zefiro الذي أصبح فيما بعد zero . ومن الصفر اشتقت أيضاً كلمة chiffre الفرنسية وكلمة ciphering الإنكليزية للإفادة بمعنى التشفير. ذلك أن التشفير أمر صعب لم يكن يماثله في الصعوبة إلا صعوبة فهم الصفر، فاقترن التشفير به. 

إذ كيف يمكن للاشيء (الصفر) أن يكون شيئاً! لم يقبل الإغريق الفكرة، ولا الكنيسة لاحقاً، لذا واجه الإيطالي فيبوناتشي صعوبة في جعل الكنيسة تقبل بالفكرة، حتى الأرقام العربية التي نقلها أيضاً هذا الإيطالي لم تَسُد في أوروبا إلا منذ مطلع القرن السادس عشر. مع أن الصينيين والبابليين وأهل الأنكا استخدموا الصفر، ولكن صفرهم غير صفرنا، فقد كانوا يستخدمونه في الترقيم بجعل فراغ مكانه إن جاء داخل العدد كمثل 107، وتوقف استخدامهم له على ذلك، أي أنهم لم يعرفوه عدداً وإنما فراغاً وإن خصه البابليون برمز خاص.

لم يكن الصفر بالنسبة لهندي براهماغوتبا إلا تعبيراً عن بلوغ الانحلال في النيرفانا، وهو القائل أيضاً بأن قسمة أي عدد على الصفر (في الواقع على عدد صغير جداً وليس الصفر الممنوع القسمة به) ينتج عنها عدد كبير هو اللانهاية، وهو أمر قبلت به الفلسفة الهندية على عكس الإغريقية التي كانت لا تؤمن إلا بالمحدود والموجود، أي لا لانهاية ولا عدم (الصفر).

بقي أن نقول إن حاتم الطائي عرف صفر آخر عندما خاطب زوجته (ماويّة) التي كانت تلومه على كرمه البالغ:

أماوِيَّ إنَّ المال غادٍ ورائحٌ
ويبقى مِن المال الأحاديثُ والذِّكرُ
أماوِيَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ
إذا جاء يومًا: حلَّ في ما لنا نذرُ
أماوِيَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يومًا وضاق بها الصَّدرُ
ترى أنَّ ما أنفقتُ لم يكُ ضرَّني
وأنَّ يديَّ ممَّا بخلت به صفرُ
وقد علم الأقوامُ لو أنَّ حاتمًا
أراد ثراءَ المالِ كان له وفرُ

وبهذه الأبيات استشهد لسان العرب ليقول إن الصفر هو "الشيء الخالي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق