بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 13 مارس 2017

غودل... عالم المنطق والمصحة العقلية

كيرت غودل هو عالم رياضيات نمساوي من مواليد برنو التشيكية لعام 1906، حيث كان والده يملك مؤسسة صغيرة للنسيج. درس في برونو وأنهى فيها المرحلة الثانوية بتفوق، وكانوا يسمونه "السيد لماذا". درس الرياضيات والفلسفة في جامعة فيينا. ومنها حصل على شهادة الدكتوراه في المنطق الرياضياتي. وقبل تحضير بحثه في الدكتوراه شارك فيما كان يسمى بحلقة فيينا التي كان يساهم فيها ألمع فلاسفة النمسا في ذلك الوقت. وحضر أيضاً محاضرات في مدينة بولونيا الإيطالية للعالم الرياضياتي الألماني الأشهر هيلبرت.

كان هيلبرت يعتقد بإمكانية برهنة صحة أو خطأ أية دعوى رياضياتية بشرط أن نجد مجموعة مسلمات كاملة. ذلك أن كل نظرية في الرياضيات يبرهن عليها انطلاقاً من مجموعة المسلمات المعروفة. ولكننا، كما كان يعتقد هيلبرت، لا نعرف كل المسلمات الخاصة بكل موضوع من مواضيع الرياضيات، مثل الهندسة (الخطان المتوازيان لا يلتقيان...) والأعداد (لكل عدد عد يتلوه...) وغيرهما. وما علينا بحسب رأيه إلا أن نجد مجموعة المسلمات الكاملة حتى نتمكن من برهنة أية دعوى: برهنة صحتها (لتصبح نظرية) أو خطأها لترد نهائياً على أعقابها.

يبدو كلام هيلبرت مغرياً، خاصة وأن من يقول به أحد أهم علماء الرياضيات. إلا أن غودل أثبت أنه حتى لو تمكنا من إيجاد كل المسلمات اللازمة فإن هناك حالات لا يمكن القرار فيها، أي لا يمكن تأكيدها ولا نفيها. ونسف بذلك حلماً كبيراً من أحلام أهل الرياضيات باكتمالها، وسمى نظريته بنظرية عدم الاكتمال. ولتبسيط الفكرة يمكن التفكير بالمثال الآتي: لنتصور أن شخصاً من أهل قبرص مثلاً يقول: إن كل قبرصي هو كذاب! ... فهل يمكن لهذه الدعوى أن تكون صحيحة أو تكون خاطئة؟ (إذا افترضنا أنها صحيحة فسنصل إلى عكس ذلك، وإن افترضنا أنها خاطئة فسنصل إلى عكس ذلك!) ... ولكن لحسن حظ أهل الرياضيات فإن معظم النظريات التي يعملون على برهنتها لا تقع ضمن دائرة الدعاوى التي لا يمكن نفيها أو تأكيدها. لغودل نظريات أخرى تتعلق بالتجانس وبالمنطق ... فقد أمضى حياته ساهماً مفكراً كما كانت تقول زوجته في قصة جميلة بعنوان "ربة الانتصارات الصغيرة".

أمضى النصف الثاني من حياته في أمريكا التي سافر إليها في فترة الحرب العالمية الثانية. وعمل في جامعة برنستون، حيث التقى بآينشتاين، وأصبحا صديقين حميمين. كان آينشتاين يقول إنه يذهب إلى الجامعة لكي بعود متمشياً بصحبة غودل. فقد كان غودل غزير المعرفة واسع الاطلاع والثقافة، وصاحب فطنة، متماسك التفكير. تطلب وجوده وإقامته في أمريكا حصوله على الجنسية الأمريكية. ومن متطلبات الجنسية مقابلة القاضي. وصدف أن هذا القاضي كان من أصحاب آينشتاين، فقرر هذا الأخير مرافقة غودل. ولدى سؤال القاضي لغودل عن معرفته بالدستور الأمريكي، أجاب غودل على أسئلة القاضي دون أي خطأ، واشتد به الحماس ليضيف أن الدستور الأمريكي يشتمل على بعض الأخطاء المنطقية وأن بإمكانه برهنة ذلك، وهنا تدخل آينشتاين وبادر القاضي بحديث جانبي موعزاً لغودل بطرف عينه بأن يصمت، ليمر الأمر بسلام وليحصل غودل على الجنسية الأمريكية.

وغير أن غودل كان من مناطقة عصره إلا أنه كان شديد الحساسية والتأثر ويعاني من أمراض نفسية مذ كان في النمسا. أمضى جزءاً من شبابه في المصحات النفسية، وكان يخاف من أن يُدسّ له السم في الطعام، كانت زوجته الشخص الوحيد الذي يثق به، وهي من كانت تشرف على طعامه. إلا أن هذا لم يمنع من أن تنتهي حياته في أمريكا في مصحة نفسية، حيث توفي عام 1978، كان وزنه لا يزيد عن 30 كيلوغراماً، ذلك أنه في أواخر أيامه لم يعد يثق حتى بزوجته!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق