بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 14 مايو 2017

بثينة بنت حبا العذرية ... الرواية!


كثيرة الروايات في التاريخ العربي التي لم يتم التحقق منها، ومن ثم فهي مجرد روايات تبقى مقبولة لجمالها وما تحتويه من استثارة للمشاعر بالرغم من إمكانية التساؤل عن تفاصيل لا يمكن لأحد أن يؤكد صحتها وإنما هي قيل عن قال. مثال ذلك رواية بثينة وجميل كما جاءت في كتاب "أعلام النساء" لعمر رضا كحالة 

 [بثينة]شاعرة من شواعر بني عذرة اشتهرت بأخبارها مع عشيقها جميل بن معمر العذري. وفي شعرها رقة ومتانة. وكانت صدوقة اللسان جميلة الوجه حسنة البيان عفيفة البطن والفرج. وأول ما علق جميل بثينة أن جميلاً خرج في يوم عيد والنساء إذ ذاك يتزين ويبدو بعضهن لبعض ويبدون للرجال في كل عيد فوقف جميل على بثينة وأختها أم الحسين في نساء من بني الأحب فرأى منهن منظراً وأعجبنه وعشق بثينة وقعد معهن. ثم راح وقد كان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول:
عجل الفراق وليته لم يعجل                وجرت بوادر دمعك المتهلل
طربا وشاقك ما لقيت ولم تخف            بين الحبيب غداة برقة محول
وعرفت أنك حين رحت ولم يكن          بعد اليقين وليس ذاك بمشكل
لن تستطيع إلى بثينة رجعة               بعد التفرق دون عام مقبل
ولما علمت بثينة أن جميلاً قد نسب بها حلفت بالله لا يأتيها على خلاء إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخوتها حتى نمى إلى رجالها أنه يتحدث إليها إذا خلا منهم وكانوا أصلافاً غيارى فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلاً. وجاء ناقته الصهباء حتى وقف على بثينة وأم الحسين وهما يحدثانه وهو ينشدهما يومئذ فقال:
حلفت برب الراقصات إلى منى           هوى القطا تجتزن بطن دفين
لقد ظن هذا القلب أن ليس لاقيا            سليمى ولا أُم الحسين لحين
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي            وهموا بقتلي يا بثين لقوني
فبينا هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم. فرماهم بها فسبقت به وهو يقول:
إذا جمع الاثنان جمعاً رميتهم              بأركانها حتى تخلى سبيلها
ثم إن بثينة واعدت جميلاً أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها. وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه. فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجرة وأنا خائف عليكم أن يسلبوا إبلكم. فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده. فلما أسفر له الصبح انصرف كئيباً سيء الظن بها ورجع إلى أهله. فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها. فقال في ذلك:
فأجبتها في القول بعد تستر                حيي بثينة عن وصالك شاغلي
أبثين إنك قد ملكتِ فأسجحي               وخذي بحظك من كريم واصل
فلرب عارضة علينا وصلها               بالجد تخلطه بقول الهازل
لو كان في صدري كقدر قلامة            فضلاً وصلتك أو أتتك رسائلي
ويقلن إنك قد رضيت بباطل               منها فهل لك في اجتناب الباطل
ولباطل مما أحب حديثه                    أشهى إلي من البغيض الباذل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني              وإذا هويت فما هواي بزائل
ومن شعر جميل في بثينة أنه قال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة              بوادي القرى إني إذاً لسعيد
وهل ألقين فرداً بثينة مرة                  تجود لنا من ودها ونجود
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل           إلى اليوم ينمى حبها ويزيد
وأفنيت عمري بانتظاري وعدها          وأبليت فيها الدهر وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً               ولا حبها فيما يبيد يبيد
ولقي جميل بثينة بعد تهاجر بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلاً فقالت له: ويحك يا جميل اتزعم انك تهواني وأنت الذي تقول:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فأطرق طويلاً يبكي ثم قال: بل أنا القائل:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني بثينة لا يخفى علي كلامها
وسعت أَمة لبثينة إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلاً عندها الليلة.
فأتياها مشتملين على سيفين فرأياه جالساً يحدثها ويشكو إليها بثه. ثم قال لها:
يا بثينة أرأيت ودي إياك وشغفي بك إلا تجزينيه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيداً منه ولئن عاودت تعريضاً بريبة لا رأيت وجهي أبداً. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تحبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد أو ما سمعت قولي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي             لو أبصره الواشي لقرت بلا بله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى               وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي        أواخره لا نلتقي وأوائله
فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما.
            وما زال جميل يقول فيها الشعر حتى أشهرها فضاق أهل بثينة بجميل ذرعاً فشكوه إلى السلطان. فأهدر لهم السلطان دم جميل وأباحهم قتله. فمشيت مشيخة حي بثينة إلى أبي جميل وكان يلقب صباحاً وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله فشكوه إليه وناشدوه الله والرحم وسألوه كف ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم. فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع. ثم انصرفوا. فدعا به فقال له: يا بني! حتى متى أنت عَمِه في ضلالك لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل ثم تقوم من تحته إليك فتغرك بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمنه الحرة لمن ملكها فيكون قولها لك تعليلاً وغروراً فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة إن هذا لذل وضيم ما أعرف أخيب سهماً ولا أضيع عمراً منك فأنشدك الله إلا كففت وتأملت أمرك فإنك تعلم أن ما قلته حق ولو كان إليها سبيلى لبذلت ما أملكه فيها ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له وفي النساء عوض. فقال له جميل: الرأي ما رأيت والقول ما قلت فهل رأيت قبلي أحداً قدر أن يدفع عن قلبه هواه أو ملك أن يسلي نفسه أو استطاع أن يدفع ما قضى عليه والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت. ولكن لا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمداً وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه وقام وهو يبكي. فبكى أبوه ومن حضر جزعاً لما رأوا منه ثم قال جميل:
ألا من لقلب لا يمل فيذهل                 أفقْ فالتعزي عن بثينة أجمل
سلا كل ذي ود علمت مكانه               وأنت بها حتى الممات موكل
فما هكذا أحببت من كان قلبها             ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل
فيا قلب دع ذكري بثينة إنها               وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتهجمت              ولليأس إن لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلاً قبل بينها                   وابخل بها مسئولة حين تسئل
وكيف يرجي وصلها بعد بعدها                       وقد جُذَّ حبل الوصل ممن تؤمل
وإن التي أحببت قد حيل دونها            فكن حازماً والحازمُ المتحول
ففي اليأس ما يسلى وفي الناس خلة       وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل
بدا كلف منى بها فتثاقلت                   ومالا يرى من غائب الوجد أفضل
هبيني برياً نلته بظلامة                    عفاها لكم أو مذنباً يتنصل
فتاه من المرّان م ا فوق حَقوها             وما تحته منها نقا يتهيل
ثم خرج جميل إلى الشام. فلما أراد الخروج هجم على بثينة وقد وجد غفلة فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف؟ فقال لها:
هذا وجهي إلى الشام إنما جئتك مودعاً. فحادثها طويلاً ثم ودعها وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكيا طويلاً، ثم قال لها وهو يبكي:
ألا لا أُبالي جفوة الناس ما بدا              لنا منك رأي يا بثين جميل
وما لم تطيعي كاشحاً أو تبدلي             بنا بدلاً أو كان منك ذهول
وإني وتكراري الزيارة نحوكم             بثين بذي هجر بثين يطول
وإن صباباتي بكم لكثيرة                   بثين ونسيانكم لقليل
ثم إن جميلاً طال مقامه بالشام ثم قدم. وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه. فسار إليها وحدثها طويلاً وأخبرها خبره بعدها. وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما. فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب. وناشدته بثينة الله إلا انصرف وقالت له: إن أقمت فضحتني ولعل الحي أن يلحقوك فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعا ما أحبوا فلم تزل تناشده حتى انصرف وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة.
ثم ضاقت به الدنيا ذرعاً فكان يصعد بالليل على رمل يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني                  أهيم وإنني بادي النحول
هبي لي من نسمة ريح بثن                ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي                قليلك أو أقل من القليل
فإذا أوضح الصبح انصرف. وكانت بثينة تقول لجوار الحي عندها:
ويحكن إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران فيقلن لها: اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له. ثم كانت بثينة تراسله مع بعض نساء تذكر شوقها إليه ووجدها به طلبها للحيلة في لقائه. وقيل لبثينة: هذا جميل لما به. فهل عندك من حيلة تنفسين بها وجده؟ فقالت ما عندي أكثر من النظر إلا أن ألقاه في الدار الأخرى أو زيارته وهو ميت تحت الثرى. ولما حضرت الوفاة جميلاً قال:
صدع النعي وما كنا بجميل                وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى             نشان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل                  وابكي خليلك دون كل خليل
ثم دعا رجلاً فقال له؟ هل أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك. فقال الرجل: نعم. قال: إذا مت فخذ حلتي فأعزلها جانباً ثم ارحل إلى رهط بني الأحدب من عذرة وهم رهط بثينة فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات. فلما قضى جميل نحبه وواراه الرجل أتى رهط بثينة ففعل ما أمره به جميل. فما استتم الأبيات حتى برزت إليه امرأة يتبعها نسوة قد فرقتهن طولاً وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة حتى أتت فقالت: يا هذا والله لئن كنت صادقاً لقد قتلتني ولئن كنت كاذباً لقد فضحتني. قال: والله ما أنا إلا صادق وأخرج حلته.
فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها. واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشياً عليها ساعة ثم فاقت وهي تقول:
وإن سلوي عن جميل لساعة               من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر  إذا مت بأساء الحياة ولينها
ثم اجتمع نساء الحي وأنشدتهن الأبيات. وترحموا عليه وقالوا: انه كان عفيفاً صدوقاً. وأخذت بثينة على نفسها بعد وفاته أن لا تكتحل بإثمد ولا تفرق رأسها بمخيط ولا مشط ولا تدهنه إلا من صداع خافت على بصرها منه ولا تلبس خماراً مصبوغاً ولا ازاراً.

            ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها: والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً لما يقول جميل. قالت: يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك وفي رواية: قال لها عبد الملك: ويحك يا بثينة ما رجا فيك جميل حين قال فيك ما قال. قالت: الذي رجت منك الأُمة حين ولتك أمورها. فما رد عليها عبد الملك كلمة وتوفيت بثينة بعد جميل بقليل سنة 83هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق