بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 مايو 2017

الإنترنت وجوانب من تشكيل الرأي السياسي

للمعلومات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم دورٌ محوري، فلهذه المعلومات أن تستخدم لتبرير سياسات الحاكم إزاء المحكوم وكذلك توجهات الحكم، وتشكيل ما اصطلح عليه منذ فترة قريبة بـ"الرأي العام". كانت وسائط هذه المعلومات تاريخياً التناقل عبر رواة الأخبار، ثم جاءت المطبوعات التي استعملتها القوى المتعارضة سياسياً أو عقائدياً، كما كان الأمر بين إصلاحيي القرن السادس عشر الدينيين في أوروبا أمثال مارتان لوثر وإيراسموس وفي مواجهتهما الكنيسة الكاثوليكية، وأصبحت الكتب حاملة للمعرفة والأفكار، والجرائد والمجلات منابر للحوار ومصادر للأخبار. 

جاءت بعد ذلك وسائط الاتصال الكهربائي والإلكتروني من تلغراف وهاتف، ثم وسائط مذياع وتلفاز. وهذه الأخيرة أيضاً أصبحت منابر للحوار إضافة إلى كونها وسائط للأخبار والمعرفة كذلك. وفي النصف الثاني من القرن العشرين كان للمذياع والتلفاز والجرائد والمجلات الدور الأبرز في تشكيل الرأي العام. هذه الوسائط هي وسائط يديرها ويشكل محتواها وموادها قلة من المختصين بالتعاون مع ما يسمى بـ"قادة الرأي"، من مفكرين وسياسيين وصحفيين وغيرهم. وهذه الوسائط ليست حرة إلا فيما ندر، فهي ترجح وجهات نظر مموليها أولاً. وهي تخاطب جمهورها العريض دون أن يكون لهذا الجمهور أي دور فاعل، هو متلقي، له أن يشكل قناعاته بمفرده أو مع الوسط المحيط به لا أكثر.

ومع ظهور الإنترنت التفاعلية، أو الجيل الثاني من الإنترنت، أخذ دور وسائط التواصل السابقة في التراجع في مسألتي الوصول إلى المعلومات وتشكيل الرأي العام. فقد أصبح بإمكان الناس التعبير عن رأيها ونشر هذا الرأي على الملأ، وخاصة مع انتشار المدونات من جهة وشبكات التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. وهذه الشبكات أصبحت مصدراً من أهم مصادر المعلومات للناس. ففي بلد مثل فرنسا كانت الإنترنت مصدراً للمعلومات لـ 49% من الفرنسيين  في عام 2012، أما في عام 2016 فقد أصبحت الإنترنت مصدراً لـ 59% من الفرنسيين. كما استخدمها الرئيسان الأمريكيان، أوباما وترامب، على نحو كبير للتأثير في الناخبين وطلب مساعدتهم في حملاتهما الاتخابية.

وهذا يعني أن دور التلفاز والمذياع والجرائد والمجلات تراجع على نحو كبير. وبذلك تم التراجع عن منصات محدودة العدد ومسيطر عليها أمام منصات متعددة لا رابط بينها وغير مسيطر عليها. ومن ثم تراجع إمكانية تشكيل الرأي العام من قبل الوسائط التقليدية. قد يبدو هذا جيداً للوهلة الأولى ولكن الخطورة تكمن في مصداقية المعلومات المتبادلة بين مستخدمي هذه الشبكات. فقد كانت للوسائط التقليدية المهنية أن تقدم المعلومات بأكبر مصداقية ممكنة، وإن كان تشكيل الرأي يتم عبر تفسير المعلومات وربطها ببعضها وطريقة عرضها. أما الآن، ومع شبكات التواصل الاجتماعي فلا ضابط ولا إمكانية لتحري صدقية المعلومات، بالرغم مما تحاوله هذه الشبكات من إنشاء مرشحات لمنع المعلومات التي تثير الكراهية والنعرات وغير ذلك مما هو سيئ، إلا أنها لا تملك وسائل حكم نهائية ولا تملك وسائل للتدخل والتصحيح؛ إضافة إلى أن الشركات التي تقف وراء هذه الشبكات (فيسبوك وغوغل مثلاً وغيرها) هي شركات خاصة، تحركها الأرباح قبل الصالح العام. وهذه الشبكات تعمل وفق خوارزميات وضعها القائمون عليها وتتيح ما تسمح به هذه الخوارزميات. وبحسب البعض فإن هذا سيسبب عائقاً للحرية وسيحطم قاعدة الالتزام الديموقراطي. فعند السير في الشارع يمكن أن نقابل كل الناس، أما في شبكات التواصل فلها أن تساهم في خلق جزر مغلقة ومنفصلة عن بعضها ضمن المجتمع الواحد، وهو أمر مناف للديموقراطية التي تتشكل من مساهمة الجميع.

وفي هذه البيئة فكيف السبيل إلى إقامة فضاء تناقش فيه القضايا السياسية ضمن مجتمع واحد انطلاقاً من إطار مشترك ومن فهم متبادل للوقائع بغية تشكيل قناعات تؤهل للفعل السياسي! يقول البعض بأن علينا أن نفكر في طريقة خلق المعايير والقيم الخاصة بعالم يسيطر عليه القطاع الخاص، كما علينا أن نفكر بالقيم التي نفقدها بالسماح للفضاء السيبراني بالسيادة على تفكيرنا إضافة للحكومات. طبعاً هذا لا يعني أن لا ميزات إيجابية لوسائط التواصل الجديدة، فقد ساعدت هذه الوسائط في السنوات الأخيرة أهل إيسلندا في كتابة دستور جديدة بمشاركة شعبية كبيرة أدت إلى نسخة من الدستور حازت على موافقة أكثر من 70% من الناس... مسائل كثيرة تستدعي التفكير، فتقانة الاتصالات الحالية قد تسير بالسياسة إلى أدغال مجهولة ليست سلبية بالضرورة، ولكن الأمر يحتاج إلى الكثير من التفكير الناقد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق