بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 يناير 2017

الدخل الأساسي ... للجميع



بدأت تساؤلات عديدة تطرح منذ منتصف القرن الماضي عن أسس العدل في المجتمعات، خاصة في ظل عدم تساوي الفرص بالنسبة للجميع. فهذا غني وذاك فقير. كذلك هذا موهوب وذاك أقل موهبة. وهذا تتضافر مجموعة من الصدف تساعده على الحصول على عمل والنجاح، وذاك على العكس، وغير ذلك من أمور. وهذا يعني أن الجميع لن يكون لهم الفرص نفسها في التعلم والعمل والوصول إلى مستويات حياة مقبولة مما يضع المجتمعات ككل أمام أزمات تعوّق تقدمها وتنغص تناغم العيش فيها. أثارت هذه المسألة اهتمام مفكرين كثر، كان من بين أهمهم في القرن العشرين الفيلسوف السياسي جون رولز الذي ترجم كتابه "العدالة كإنصاف: إعادة صياغة" إلى العربية.

متظاهرون في بيرن (سويسرا) يطالبون بإجراء استفتاء على الدخل الأساسي للجميع
ولمواجهة هذه المسائل وتوابعها فقد جرى اقتراح أن تقدم الدول لمواطنيها راتباً أساسياً basic income يقابل المصاريف الأساسية للحياة. البعض قال بأن مثل هذا الراتب يجب أن يُصرف لكل المواطنين، من أصحاب الدخل أولا، ولكل الأعمار وإن كان بمبالغ مختلفة بحسب العمر. وبعض الدول قالت لا، بل يصرف مثل هذا الراتب لمن لا عمل له فقط. وفي كل الأحوال فإن الهدف من كل ذلك هو احترام إنسانية الإنسان وعدم ترك أي كان يعيش ضائقة الحاجة. البعض يقول بأن مثل ذلك سيشجع الكسل والاستهتار. ولكن آخرون يجيبون بأن هذا غير صحيح، ذلك أن هذا الراتب لا يسمح ببناء حياة بكل مقتضياتها من بيت وسيارة وغير ذلك، ومن ثم فهم سيبحثون عن عمل، ويؤكدون بأن النسبة العظمى من الناس لا تريد العيش بلا عمل، وهو ما تؤكده تجارب كثيرة. ويضيف هؤلاء بأن مثل هذا الدخل سيسمح بمتابعة التعليم لمن يريد بدون أن يكون مرغماً عن التخلي عن دراسته الجامعية مثلاً وفي هذا خير للمجتمع، الخ. 

ولكن من أين سيؤتى بالأموال اللازمة لتمويل ذلك؟ هناك أفكار كثيرة من بينها التوزيع العادل للثروات الطبيعية للبلد على مواطنيه لأنها ثروات مشتركة للجميع، ...، وأن مثل هذا الراتب الذي سيعطى للناس سيزيد من الاستهلاك والإنفاق بما يعود إلى الخزينة بجزء لا بأس به عن طريق ضرائب الاستهلاك... وهنا يعكف اقتصاديون كبار على دراسة المسألة ويؤكدون إمكانية تمويلها.

جُرّبت هذه المسألة في مدينة دوفان الكندية في سبعينيات القرن الماضي على مدى أربع سنوات ولم يظهر أي أثر سلبي يذكر بخصوص البحث عن عمل (وهذا ما أكدته أيضاً تجربة أمريكية مماثلة في الثمانينيات)، وظهرت نتائج إيجابية غير متوقعة مثل زيادة فترة الدراسة لدى الشباب وانخفاض الجرائم وحالات الاستشفاء. كما أجريت تجربة مماثلة في بلدة هندية عام 2011 أعطى فيها لكل بالغ 200 روبية ولكل طفل 100 روبية، ظهر فيها بعد سنة نتائج إيجابية فيما يتعلق بالتغذية والصحة والتعليم والبنية الأساسية والنشاط الاقتصادي. كما بدأت تجربة في فنلندا هذا العام على عينية من 2000 شخص اختيروا عشوائياً من أوساط مختلفة، وعلى ضوء هذه التجربة سيقرر الفنلنديون مستقبل مثل هذا الدخل الأساسي في بلدهم.

وأيا ما كان، فيبدو بإن أول من قال بمثل هذه الفكرة هو المشرّع والفيلسوف والمفكر الديني الإنكليزي توماس مور (1478-1535) الذي أعدمه ملك بريطانيا هنري الثامن، لأن مور عارض طلاق الملك والصلاحية الدينية التي أعطاها هذا الملك لنفسه. وهي فكرة عاد إليها كثيرون من بعده وهي اليوم محل سجال سياسي في الكثير من الدول المتقدمة.... بأمل أن تصل هذه الأفكار إلى بلادنا والعمل بالقول المأثور: "العدل أساس الملك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق