بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 15 يناير 2017

فان غوغ... وقصة أذنه



قلائل هم الرسامون الذين حظوا بشهرة كشهرة فان غوغ. سبب ذلك جمال لوحاته وفرادتها بالتأكيد، ولكن لأذنه وقطعها علاقة ما بهذه الشهرة. فلما قطعها وكيف حدث ذلك؟ لا شيء ولا أحد لديه الجواب النهائي والقاطع. وهو لم يكن يعرف أن مثل ذلك سيسبب له مثل تلك الشهرة، كما أنه لم يكن يعرف أن لوحاته ستباع بالأسعار التي تباع بها الآن، وهو الذي مات فقيراً أو شبه فقير. فلوحته المسماة "دكتور غاشيه" بيعت بمبلغ 152 مليون دولار مثلاً!
 
لوحة الدكتور غاشيه
وفان غوغ هذا هو هولندي الأصل من مواليد عام 1853 لعائلة برجوازية، أراد في مقتبل شبابه أن يكون تاجر تحف فنية، ولكنه لم ينجح في ذلك، إذ كان يرفض أن يكون التعامل مع الفن تعاملاً تجارياً. حاول من ثم مهنة الكهنوت ولكنه رسب في امتحان المعارف الدينية. وبحلول عام 1880 اتجه نحو الرسم وغادر هولندا ليقطن في فرنسا حيث تعرف إلى رسامين فرنسيين كبار وتعرف إلى فن الرسم وتحليل الرسوم، وزار متاحف الرسم. كل هذا أدى به إلى رسم لوحات فريدة تعكس بحثه الدائم في اللون والخط والمعرفة الفنية. وهي لوحات تعكس شخصه المضطرب نتيجة الأزمات التي عاشها وجعلته يعيش حالة عدم استقرار عقلي. وانتهى به الأمر إلى الانتحار ليموت في فرنسا عام 1889 وكان له من العمر 37 عاماً. رسم خلالها أكثر من ألفي لوحة. ولكن ذلك لم يمنحه شهرة في حياته، شهرة حصل عليها في الربع الأول من القرن العشرين.

عانى فان غوغ من اضطرابات عقلية برزت بشكل واضح في السنوات الأخيرة من حياته، عكف على دراسة حالته النفسية أكثر من 120 طبيب نفسي، تباينت تشخيصاتهم من انفصام الشخصية إلى الاضطراب الثنائي وإلى الاضطرابات الناجمة عن السفلس والصرع، ومرض "منيير" الخاص بالأذن الداخلية وغير ذلك. وهي أمراض تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي خاصة إذا إلى أضيف إليها سوء التغذية والتعب وقلة النوم وميل للكحول. كان الدكتور غاشيه (الذي باسمه بيعت أغلى لوحة لفان غوغ) يصف له أدوية لمقاومة الصرع.

لوحة رسمها فان غوغ لنفسه يظهر فيها ضماد أذنه اليسرى
وفي عام 1888 زاره الرسام الشهير غوغان (صاحب أعلى لوحة في العالم) للعمل معاً على سلسلة من اللوحات في مدينة آرل جنوبي فرنسا. وبسبب اختلاف أسلوبهما في العمل واندفاعهما فيه، غالباً ما نشأت بينهما أزمات كانت تقود إلى شجارات، مما أدى بفان غوغ في إحدى المرات أن يقطع أسفل أذنه اليسرى. وقيل إن سبب ذلك، بحسب شهادة مفترضة لغوغان، هو أن فان غوغ هدده بشفرة في يده مما جعل غوغان يلوذ بالفرار، وربما نتيجة هذيان فان غوغ قطع هذا الأخير أسفل أذنه بدون وعي منه. وفي هذيانه هذا يحمل فان غوغ أذنه المقطوعة ليذهب ويقدمه هدية لعاهرة في الحي!
 
تقرير الطبيب الفرنسي المعالج
لا تبدو القصة منطقية في الكثير من تفاصليها، مما حدا بكاتبة إيرلندية (برناديت مورفي) للبحث في قضية قطع فان غوغ لأذنه. أمضت هذه الباحثة سبع سنوات تجمع المعلومات من هنا وهناك، وتراجع الرسائل الكثيرة (أكثر من 800 رسالة) التي كتبها فان غوغ في حياته، وتقرير الطبيب الذي ضمّد جرح فان غوغ، وما تناقلته أسرة "العاهرة" عبر الأجيال من قصتها. لتصل هذه الباحثة في النهاية إلى أن فان غوغ قطع أذنه بالكامل وليس فقط أسفلها، وقدمها لامرأة كانت عاملة تنظيف في بيت دعارة، امرأة سقيمة بائسة، تعاني من جرح عميق نتيجة لعضة كلب. وتقول الباحثة إن فان غوغ لم يقطع أذنه عقب شجاره مع غوغان، وربما فعل ذلك في لحظات هذيانه تعاطفاً مع هذه المرأة بأن قدم لها شيئاً من جسده، خاصة وأن مثل هذا معهود في مدينة آرل التي تجري فيها مصارعة الثيران ويقدم للبطل الفائز أذني الثور الصريع!

بقي أن نقول إن نتيجة البحث هذه تبدو الأكثر منطقية حتى الآن، وإن كان هناك من يعارضها... ولكن الأهم من ذلك هو البحث عن إجابة على سؤال بخصوص أمر لا يبدو مقنعاً كما عُرض منذ يومه ... أي ضرورة مساءلة الأحداث المروية، وعدم قبول رواياتها وكأنها حقائق ثابتة، وضرورة البحث عن إجابات مقنعة... ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى ذلك مع فيض المعلومات المغرضة والمغلوطة التي تغص بها الإنترنت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق