بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 19 أبريل 2015

السندباد البحري: السفرة الرابعة



حدثتني نفسي أن أعاود السفر، فإن في السفر معرفة بأحوال البلاد والعباد، وزيادة في العلم والمعرفة، وكسباً للأصدقاء والأخوان، وعلماً بعادات الناس وأخلاقهم.
أنزلت بضاعتي في مركب على أهبة السفر، سار بنا الأيام والليالي في جوّ جميل، ريحه طيبة رخاء، تسوق المركب على سطح الماء. وفجأة انقلب الجو، وهاج البحر وماج، فاضطربت السفينة وترنحت، وأخذ الموج يتقاذفها، الذي كان يزداد علواً وعتواً،
وهجم الماء على السفينة فملأها وفغر البحر فاه ليبتلعها، وأخذ يغيبها في بطنه شيئاً فشيئاً. أخذت أغالب الأمواج أنا وبعض الرجال، وساق الله لنا لوحاً خشبياً، فأمسكناه واتخذنا من أرجلنا مجادف، وسرنا بالتيار حتى انقضى الليل وقد تعبت أجسامنا وتصلبت أطرافنا، وأقبلت علينا موجة عالية كالجبل المرتفع، وقذفت بنا قذفة هائلة، فأصابتنا منها غشية، ثم انتبهنا بعد قليل فوجدنا أنفسنا مبعثرين على أرض رطبة، ونظر بعضنا إلى بعض مبهوتين، أأموات نحن أم أحياء؟! وقرع آذننا زئير البحر ورشقنا برذاذ مائه فعرفنا أن البحر ألقى بنا في تلك الأرض. ثم ابتدأنا نبحث عن مخرج لنا.
وجدت نفسي وحيداً، أسير في طريق به بعض النباتات والأعشاب، فاقتلعت منه ما آكله وأمسك به رمقي، وبقيت على هذه الحال سبعة أيام. وفي صبيحة اليوم الثامن طوحت بي رجلاي بعيداً وأمعنت في السير، لاح لي شبح من بعيد، فاتخذت جانب الحذر، فقد علمتني التجارب التي مرت بي وجوب الاحتراس والتحرّز.  استبان لي رجال ينتشرون في أرجاء المكان ويجمعون حب الفلفل من الأشجار، فقصدت إليهم فما رأوني حتى أحاطوا بي وسألوني: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ فأخبرتهم بحالي وبما مرّ معي، وبما قاسيته، ودعوني إلى مشاركتهم طعامهم. ولما أزمعوا الرحيل أخذوني معهم إلى بلادهم.
كانت مدينتهم واسعة، عامرة كثيرة الأسواق، مزدحمة بالسكان، استأنست بأهلها. ولاحظت أنهم يركبون الخيل دون سروج، فهم لا يعرفونها. فصنعت سرجاً وجعلت له أهداباً من الحرير، وانتقيت جواداً من أكرم الخيول وشددت عليه السرج وعلقت فيه الركاب وألجمته وقدمته للملك، ولما ركب عليه فرح به فرحاً كبيراً، ومنحني هبة كبيرة.
وصنعت سرجاً للوزير، وقصدني الناس بعد ذلك من أرباب الدولة والأعيان. وربحت مالاً كثيراً، وأصبح لي عندهم منزلة رفيعة.
وذات يوم قال لي الملك: أريد أن أزوجك من عندنا زوجة حسنة، ذات مال ودين، فيطيب لك مقامك عندنا. فأمر بإحضار القاضي والشهود وزوجني من امرأة كريمة الحسب والنسب، على غاية من الجمال والبهاء. وكانت مثال الزوجة، وقلت في نفسي: إذا قدر لي أن أعود إلى بلدي فلا بد أن آخذها معي لأني أصبحت لا أطيق الحياة بدونها.
مرضت زوجتي مرضاً عضالاً، فأخذت أعالجها بكل ما وسعتني حيلتي، ولكن حمّ القضاء ففاضت روحها.
قال لي جاري بأن العادة في بلادنا إذا ماتت الزوجة يدفون معها زوجها وهو على قيد الحياة. فقلت متحسراً وقد اشتد بي العجب واستبد بي الأم: يا ويلاه.
جاء الملك ليواسيني، واجتمع الناس يعزونني، وأحضروا الغاسلة، وألبسوا زوجتي أفخر ثيابها، وحلوها بأغلى حليها وساروا جميعاً وأنا أسير بينهم كالحالم من فرط الذهول. ووصلنا الجبل، ورفعوا الصخرة عن فوهة الجب، وألقوا بالمتوفاة فيه، ورأيت أصحابي وأهل زوجتي يودعونني، فصحوت من سباتي وجرفتني موجة من البكاء والصراخ، وأخذت أصيح فيهم: أنا رجل غريب، ولا دخل لي بعاداتكم. وتقدم نفر منهم فأمسكوني، ليربطوني بالحبل، وبعد أن خارت قواي، أنزلوني في الجب مع سبعة أقراص من الخبز وإناء من الماء. وألقوا عليّ الحبال، وانصرفوا بعد أن سدوا فوهة الجب.
وفي الجب رأيت من حولي جثثاً مكدسة ينبع من أكثرها رائحة كريهة، أقشعر جسدي من رؤيتها، فانتبذت ناحية وجلست أبكي نفسي وأرثيها. ومكثت على هذه وقتاً لا أدرك مدته. غثيت نفسي وساءت حالي ومات أملي، فطرحت نفسي على الأرض أنتظر الموت وأستعجله، ورحت في نوم لا أدري كيف أتاني رغم كل ما بي. وصحوت بعدها وفي فمي مرارة كمرارة العلقم، فجاهدت حتى استويت، وشربت جرعة ماء رطبت جفاف لساني، وأخذت كسرة من الخبز. ثم نهضت قائماً وسرت في المغارة أتحسس جدرانها علني أجد ما أنشده، وعدت منخذلاً إلى زادي فأخذته وبحثت لي عن مكان بعيد عن الجثث، وجلست أنتظر ساعتي.
وبينما أنا أفكر يوماً فيما سيصير إليه حالي بعد فراغ مؤونتي. إذا بصوت فرقعة شديدة وضوء نافذ قد غشى بصري، فعرفت أن ضيفاً جديداً سيحل بالمغارة.

وجالت بخاطري فكرة طارئة: لماذا لا أريح هذا الطارق من شر العذاب. كان الميت هو الزوج والضحية هي الزوجة. فتناولت قصبة رجل وهويت بها على أم رأسها. وأخذت زادها وعدت إلى مكاني، وقد أزمعت الاقتصاد في تناوله حتى يأتيني صيد جديد.
ما أحببت الشر، وما كنت من الأشرار يوماً، ولكن الحياة غالية، لا يسترخصها الإنسان؛ وإن الضيوف الذين ينزلون هذا الجب قد أسلموا أنفسهم للموت فلا بأس أن عجلت بهم لأعيش. وإلى هذا التفكير ارتاح قلبي. وقضيت بالجب زمناً طويلاً، انقلبت فيه إلى وحش جائع. عشت كذلك وقتاً ما، وحشاً ضارياً، طالت أظفاره واسترسل شعره، وبشع منظره.
وبينما أنا أعاني هذا الصراع المحتدم في دخيلة نفسي، سمعت صوت حركة خفيفة من الجانب الآخر من الجب. وتقدمت أتفرس في الظلام، فأبصرت شبحاً أسود يولي عند ما أحس حركة سيري، وأدركت أنه وحش أتى ينهش جثث الموتى. وتبعت هذا الشبح الهارب، فلاح لي من بعد وسط هذا السواد، ووضح لي الضوء، وصرت كلما اقتربت منه زاد أمامي اتساعاً، ووجدته فجوة صغيرة رجح لي أن الوحوش قد ثقبتها لتنفذ منها إلى داخل المغارة لتأكل جثث الموتى. أخذ أصفق وأرقص وأنط وأثب من موجة الفرح التي غمرتني.
عالجت خروجي من الثقب، وتلفت حولي أشبع عيني من الفضاء الواسع وأمتعها بضوء الشمس البهيج، وأيقنت بالحياة بعد الموت.
صعدت من الثقب إلى ظهر الجبل، وجلست أترقب مرور سفينة بعرض البحر لتأخذني معها. ومكثت في هذا الانتظار زمناً طويلاً، إلى أن لمحت سفينة في عرض البحر، فنشرت شراعي الذي أعددته لهذه الغاية ألوّح بها يميناً وشمالاً لأوجه نظر ركاب السفينة إليّ، وسرعان ما رأوني وحولوا سير السفينة ناحيتي.
وكانت لي فرحة ما فرحتها طول عمري، وانتشيت نشوة ما تذوقت حلاوتها في حياتي....
وأخرجت لصاحب المركب مما جمعت من الجب من درر وجواهر الأموات، وقلت له يا سيدي: أنت سبب نجاتي من هذا الجبل، فتقبل هذا مني مقابل صنيعك معي ومعروفك لي. ولكنه لم يقبل شيئاً مني وقال لي: نحن لا نأخذ من أحد شيئاً. وإذا نجينا غريقاً أطعمناه وكسوناه ووهبنا له من لدونا هبة يستعين بها على حاله، ولا ننتظر من أحد جزاء ولا شكورا وإنما نبغي رضاء الله تعالى ونلتمس ثوابه. فشكرته كثيراً ودعوت له دعاء طيباً.
وسارت بنا السفينة من بحر إلى بحر إلى أن وصلنا إلى البصرة، ثم انحدرت إلى بغداد حيث داري وأهلي وأحبابي.

السفرة الخامسة       السفرة الثالثة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق