بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 23 أبريل 2015

السندباد البحري: السفرة السابعة والأخيرة



... ومازلنا نطوف ونطوف حتى تجاوزنا بحر الصين.
وبينما نحن والركاب جالسون على ظهر المركب ذات يوم، نتحدث ونسمر، وإذا بريح صرصر عاتية، عصفت فجأة، وعلت الأمواج كالجبال، وصار المركب ككرة صغيرة تقذفها موجة لتقذفها أخرى. ثم لم تلبث أبواب السماء أن انفتحت، وانصبت الأمطار انصباباً هائلاً أخذ يشد ويشتد، فأحسسنا أن الدنيا قد قامت قيامتها، وبدا أن الربان قد التبس عليه الأمر، وغُمَّ عليه الطريق... قال الربان: كل مركب وصل إلى مياه هذا الإقليم تخرج إليه حيتان عظيمة هائلة، ما رأى جوابو البحار مثيلاً لها، فتنقض عليه وتبتلعه بما فيه. وهذا ما كان... وتشبثت أنا بلوح من الخشب تشبث المستميت، وقبضت عليه قبضة قوية رغم ما نالي وإياه من الصدمات والقذفات بين أشلاء السفينة الغارقة، وعلى أسنة الصخور المشرعة كالرماح. وأخيراً استطعت أن أعتلي اللوح.
ووسط هذه المفاجآت والمنغصات، وعلى متن الموت، سبح خيالي إلى ماص قريب، إذ كنت في وطني، وبين أهلي وعشيرتي، مستريحاً مطمئناً مسروراً، فكيف طاوعت نفسي هذه المطبوعة على التمرد والطمع، على ترك نعيمي الذي كنت أرتع فيه، سعياً وراء الربح والتجارة. أأنا حقاً في حاجة إلى مال، وأنا عندي منه ما لا أستطيع فناء نصفه أو ثلثه بقية عمري؟ إنما هو جشع الإنسان.
وما كدت أقترب من الشاطئ حتى جاءت موجة شديدة قوية حملتني في غير هوادة نحو الشاطئ، وتشبثت بالطين. زحفت قليلاً نحو الأرض، ثم استلقيت عليها متهالكاً لا حراك بي. إلى أن استرددت بعض قوتي.
كانت الجزيرة عامرة بالأشجار، زاخرة بالثمار، فيها الماء يجري جداول وأنهاراً. ومشيت فيها أجوس خلالها، أياماً وأيام، إلى أن انتهيت إلى مدينة كبيرة، ولكني كنت منهكاً خائر القوى، وقد اجتمع حولي لفيف من الناس، بينهم شيخ طلب أن أصحبه، فسرت معه معتمداً على أذرع الرجال مما بي من الإعياء. وقضيت في ضيافة هذا الشيخ الكريم بضعة أيام، استعدت فيها كامل قوتي ونشاطي.
ومرت عليّ بمنزل الشيخ الطيب أيام أخر، أحلني فيها أحسن محلّ، وأكرمني أبلغ إكرام. وعرفت من بعض أقارب الشيخ أن عنده بنت في سن الزواج، وعرفت أنها جميلة، فرعاء هيفاء، وأنها وحيدته.
خلوت في نفسي يوماً، وطاف في ذهني أطياف وخيالات كثيرة، منها أني رأيت الشيخ يعطف عليّ ويكرمني، فأحسست أن قلبي قريب من قلبه، وأن بين روحينا تآلفاً شديداً.
لاحظ عليّ الشيخ وبعض من عرفني من أقاربه ما أنا فيه من تفكير طويل دائم، وميل إلى الانفراد بنفسي، فسألوني عما بي فلم أجبهم، وقدروا أن هذا التغيير لم يكن إلا في التفكير في وطني. وأراد أحد من صادقتهم أن يعرف حقيقة الأمر، فاضطررت إلى أن أكشف له عما في نفسي وميلي إلى ابنة الشيخ، ووعدني أن يتحدث إلى الشيخ في هذا الأمر.

لقى ذلك هوى من نفس الشيخ، وقبل أن يزوجني ابنته التي لم يرزق غيرها. ولم يجد حرجاً في أن يصرح بأن ذلك كان أمنية من أمانيه. ثم قال لي: ستكون مثل ولدي ما دمت حياً.
كان الشيخ وقد اطمأن قلبه على ابنته، وقرت عينه بسعادتها وبوجودها في عصمة رجل يزود عنها ويحميها. فما لبث الشيخ أن مرض ومات. وحللت بعد موت صهري في محله، وصار جميع ما يملكه ملك يدي، وولاني التجار مكانه في الرياسة عليهم، فأصبحت شيخ تجار المدينة.
رأيت أغلب الرجال في ميعاد موقوت من كل شهر ينقلب خَلْقُهم، وتتغير أشكالهم، ثم تظهر لهم أجنحة فيصيرون كهيئة الطير، ثم يطيرون إلى عنان السماء، ويغيبون أوقاتاً متفاوتة، تاركين نساءهم وأطفالهم، ثم يعودون. تعجبت من أمر هؤلاء الناس وسألت نفسي، من أي جنس هم؟ توجست خيفة منهم وارتبكت في أمرهم، وتنازعتني خيالات وأوهام، ثم فكرت في أن أسأل زوجتي وأستوضحها حقيقتهم.
فقالت: احترس من خروجك مع هؤلاء الأقوام، ولا تعاشرهم، ولا تخالطهم، فإنهم إخوان للشياطين. فقلت لها: وكيف كان حال أبيك معهم؟ قالت: إن أبي لم يكن منهم، وهو بريء من فعلهم، واعلم أنه ما فضل تزويجي منك إلا لتكون حامياً لي، ورداء يدفع عني شر هؤلاء القوم، لما رآك من الصلاح والتقوى، والاتصال بالله، والبعد عن الشيطان. والرأي عندي، وقد مات أبي، وليس لنا مأرب في الإقامة في هذا المكان، الذي نحن كالغرباء فيه بديننا وطباعنا –أن نبيع ما نملك، ونشتري بثمنه تجارة، وننزح إلى بلدك. فاستحسنت رأيها واستصوبته، فإنه لم يتجاوز هوى كان بنفسي.
وجابت بنا السفينة المحطات والبحار، ومرت على جزر ما رأيتها ولا مررت بها من قبل، على كثرة ما طفت وسافرت، وكنا كلما رست بنا السفينة بميناء زاولنا فيه البيع والشراء والمقايضة، وكان نصيبنا جميعاً من ذلك ربحاً وفيراً. 
ووصلنا البصرة بعون الله ورعايته، فلم أقم بها، بل اكتريت من فوري مركباً أنزلت به أهلي وأحمالي، وسرنا في دجلة حتى وصلنا إلى بغداد، دار السلام.
وعشت مع زوجتي وأهلي هانئاً، راضياً مطمئناً، ولم يعد بي شوق إلى السفر والترحال، بعد أن تقدمت بي السن، ووهن مني العظم.
وقد وجدت أن الإنسان يستطيع أن يعمل عملاً يرضى به عن نفسه، وينفع أهله ووطنه، من طرق كثيرة، وأبواب شتى، فتفرغت لذلك العمل وكرست له وقتي. وكان عملي هو برّي بالفقراء، ونصرى للمظلومين، وتفريج كربة المكروبين، وتربية اليتامى، ويساعدني على ذلك ما جمعت من مال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق