بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 16 أبريل 2015

السندباد البحري: السفرة الأولى



كان أبي من كبار التجار، ومات وأنا حدث صغير، وخلف لي ثروة عظيمة. فلما كبرت وضعت يدي على هذه الثروة، واندفعت خلف مباهج الحياة، أنفق على نفسي ومن أحاطوا بي من رفاق السوء، وأخلاء الشيطان.
أخذ المال يتناقص شيئاً فشيئاً –على كثرته- حتى فنى. وبعت ما لدي من ضياع وعقار حتى لم يبق عندي شيء إلا النذر اليسير، فنفر مني كل هؤلاء الأصحاب، وتركوني فريسة الأوهام والفقر والبؤس، وبكيت ما أسعفني البكاء، وأخذت أُعمل الفكر لعلني أصل إلى رأي أنقذ به نفسي. فتذكرت قولاً لأبي كنت أسمعه: ثلاثة خير من ثلاثة: يوم الممات خير من يوم الميلاد، وكلب حي خير من سبع ميت، والقبر خير من الفقر. فصممت على العمل والكدح. وخطر ببالي السفر للتجارة بين الأقطار والأمصار. فبعت البقية الباقية لي من عقار واستعنت برأي بعض التجار، واشتريت ما أشاروا عليَ، ثم رافقتهم في المركب وانحدرنا إلى البصرة.
وكلما مررنا بمكان بعنا واشترينا وقايضنا، حتى مررنا بجزيرة كأنها روض من رياض الجنة. وأمر صاحب المركب بإلقاء مراسيه بجانب الجزيرة. فنزلنا الجزيرة. وبينما جميعنا في أكل ولهو إذ بكبير البحارة يصيح بأعلى صوته: يا ركاب السفينة أنشدوا السلامة وبادروا بالصعود إلى المركب، فما أنتم عليه ما هي بجزيرة وإنما سمكة كبيرة رسبت في وسط البحر من أزمان طويلة، فتراكمت عليها الرمال ونبتت فيها الأعشاب، فبدت كالجزيرة. فلما أوقدتم عليها النيران سرت فيها الحرارة وتحركت. فما سمع الركاب هذا النذير حتى بادروا إلى السفينة مسرعين. فمنهم من استطاع ومنهم من لم يستطع، فغاصت بهم الجزيرة المزعومة إلى قرار البحر. وكنت أنا من بين المتخلفين، فسقطت بين أمواج البحر المتلاطمة، وظللت أكافح الموج وأصارع الموت في هذا البحر العجاج، حتى قيض الله لي قطعة من الخشب فاعتليتها وأخذت أدفع الأمواج بها وعيني على السفينة المقلعة، أستغيث ولا مغيث، وظلت السفينة تبتعد حتى أضحت نقطة سوداء في عرض الأفق، واستسلمت لمصيري المحتوم، ملقي فوق لوح الخشب. وبقيت يومي على هذه الحال، وتبلد حسي وصرت لا أشعر بمرور الزمن. وفجأة شعرت بشيء يصدمني، ففتحت عيني فرأيتني بالقرب من شاطئ جزيرة عالية باسقة الأشجار، فتجدد عندي الأمل، ومن شغفي بالنجاة أفلحت في الخروج إلى أرض الجزيرة، وما كدت أطوُّها حتى وجدت رجلي ثقيلتين خدرتين، فارتميت على الأرض وغبت عن وجودي. وظللت فاقداً رشدي حتى أرسلت شمس النهار حرارتها عليّ، فتحاملت على نفسي وأخذت أزحف حتى استطعت أن أنال ما يمسك رمقي من فاكهة، واستمر بي الحال كذلك عدة أيام، حتى انتعشت نفسي واسترد جسمي بعض نشاطه.

وبينما أنا يوماً سائر في أحد جوانب الجزيرة، لاح لي شبح حيوان قرب شاطئ البحر، فاقتربت منه فوجدته فرساً عظيماً مربوطاً في شجرة ضخمة، أحس بي فصهل صهلة عظيمة ارتعبت لها، ولم أكد أفكر في الرجوع حتى خرج رجل من مكان تحت الأرض وصاح قائلاً: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وكيف وصلت إلى هذا المكان؟
ورويت له ما كان، فأخذ الرجل بيدي وقال: تعال معي. فنزل بي إلى سرداب مظلم تحت الأرض ينتهي بحجرة، أجلسني فيها وأتى لي بشيء من الطعام. ثم سألني عن حالي، فقصصت عليه قصتي من المبتدأ إلى المنتهى، ثم قلت: لقد أخبرتك بكل ما حصل لي، ألا تخبرني بحالك؟
قال الرجل: اعلم أننا جماعة متفرقون في جوانب الجزيرة، نحن سواس الملك المهرجان وخيّالته. نأتي كل شهر عند اكتمال الفجر بالأفراس الجياد ونربطها على شاطئ البحر، فتجيء خيول البحر على رائحة تلك الأفراس فتختلط بها، وبعد ذلك نخرج إليها صارخين فتجفل الخيل وتنزل في البحر وتكون الأفراس قد حملت منها، فتلد بعد ذلك مهاراً لا يوجد نظير لها على وجه الأرض. ونحن الآن بانتظار هذه الخيل وستراها معي وسأصحبك إلى الملك المهرجان وأريك بلادنا.
وما مضت إلا فترة قصيرة حتى خرجت الخيل وتحقق ما روى الرجل. واجتمع أصحاب الرجل بعد أن انتهى كل شيء وركبوا الأفراس واصطحبوني معهم. وعينني الملك عاملاً على الميناء وكاتباً أحصي كل ما يمر فيه من سفن وأجبي ضرائب الملك. ومكثت في هذه البلاد زمناً طويلاً لا أفتأ كلما مرت سفينة بالميناء أسأل بحارتها عمن يعرف الطريق إلى بغداد، فلم يدلني أحد. وأخذ الأمل في عودتي إلى بلادي يضعف في نفسي حتى انقلب يأساً. حننت إلى وطني واشتقت إلى أهلي وولدي.
وذات يوم رست سفينة كبيرة في الميناء. وبعد أن انتهيت من الإحصاء سألت صاحبها، وكنت أحسست في نفسي أني رأيت هذا الوجه من قبل. هل بقي شيء من البضائع؟ فقال نعم، هي تجارة كانت لرجل تاجر، غرق منا في البحر، وقد عزمنا على بيعها وحمل ثمنها إلى أهله بمدينة بغداد.
بعث اسم بغداد رعشة في جسدي. وما اسم صاحب البضائع؟ قال: اسمه سندباد. دققت النظر في وجه الرجل فعرفت فيه رئيس المركب الذي كنت عليه. فصحت صيحة عظيمة وقلت: يا رئيس المركب، أنا السندباد، وقصصت عليه القصة من وقت أن كنا على ظهر السمكة. فهز رأسه متأسفاً وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! ما بقي لأحد ذمة أو ضمير. فلقد رأينا صاحب البضاعة يغرق مع جماعة من الركاب وما نجا منهم أحد. فقلت له يا سيدي أنا لست بكاذب، ورويت له قصتي من حين خرجنا من بفداد حتى غرقنا، وذكرته بأمور حصلت بيني وبينه. عند ذلك تحقق الرجل صدقي. وأتى ببعض التجار من رفاقي فعرفوني وهنئوني بالسلامة، وقالوا: صدق المثل: أعطني عمراً وارمني بالبحر. ثم أخرجوا بضائعي واسمي مكتوب عليها وهي كاملة. وحملت ما فيها من نفيس إلى الملك المهرجان هدية مني، وقصصت عليه قصتي، فوهب لي هبة عظيمة نظير هديتي.
بعت بعد ذلك بضاعتي وربحت ربحاً كبيراً واشتريت بضائع أخرى من منتجات تلك البلاد. ثم ذهبت إلى الملك أشكره وأستأذنه في السفر، فأعطاني عطايا جزيلة أخرى.
وعدنا إلى البصرة سالمين. ثم رحلت إلى بغداد دار السلام. واشتريت لي دوراً وعقاراً واتخذت خدماً وحشماً ومماليك وسرار، وعاد أخوان السوء، وأغووني فغويت، ورجعنا سيرتنا الأولى من الانغماس في اللهو والملذات.
هذا ما كان في أول سفراتي السبع.

السفرة الثانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق