بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

السندباد البحري: الرحلة السادسة



وفد عليّ وفد من التجار، ولا تزال على وجهوهم غبرة السفر ووعثاء الطريق، وجلست أستمع لأحاديثهم وقصصهم، فاستعرت بين جنبي رغبة جامحة إلى معاودة السفر والسعي في بلاد الله الواسعة. وسرعان ما استجبت لنفسي وتهيأت للسفر. وأبحرت بصحبة لفيف من التجار على بركة الله.
وطاب لنا السفر، وراجت في أسواق البلاد التي مررنا بها بضائعنا، وأصبنا منها ربحاً وفيراً. وسار بنا المركب الأيام والليالي، يقطع بحراً بعد بحر، دون أن نرى براً. وفي صباح يوم وجدنا ربان السفينة في ألم وحزن عظيمين، وبعد لأي قال: لقد ضللنا الطريق، ودخلنا إلى بحر لا نعرف طرقه. وفجأة أبصرنا جبلاً مرتفعاً أمامنا، واندفعت نحوه سفينتنا اندفاعاَ شديداً، فهلعنا وجزعنا، وأصدر الربان أمره بحل القلوع، وظلت السفينة تندفع وتندفع نحو الجبل بقوة مخيفة، وما هي إلا ومضة برق حتى صمّ آذاننا صون ارتطام السفينة بصخور الجبل، فمالت السفينة وتسرب إليها الماء. ثم لم نلبث أن سمعنا رطمة أخرى أحالت السفينة حطاماً متناثراً. وكنت من الناجين.
ووجدنا سفح الجبل متسعاٍ، تكثر فيه الصخور وقد تحطمت عليها قبل سفينتنا عشرات من السفن أحمالها متناثرة هنا وهناك. ووجدنا الأموال واللآلئ بين الصخور والحصى، وصناديق البضائع والمؤن والأطعمة، بعضها قد فسد، وبعضه باقياً على حالته. ورأينا عيناً ينبع منها ماء عذب، يجري على منحدرات الجبل وتغيب بين صخوره. وفي المجرى تلمع الجواهر واليواقيت المختلفة. وطفنا بالسهل ندوس اللآلئ، فما جدواها علينا في هذا المكان النائي، فإن حفنة حب أنفع لنا.
ولكن ما خشيناه وقعنا فيه، فقد ظل رفاقي يذبل عودهم ويجف ماء الحياة منهم واحداً بعد آخر، ومات رفاقي واحداً بعد واحد. وفكرت أن أجهز لنفسي قبراً أرتد فيه إذا ما شعرت بضعفي، فأصير مدفونا. وهومت برأسي الأفكار. أين مني الآن بلادي وأوطاني؟ أين مني أهلي وأحبابي. ما أتعسني وأشقاني. تركت بلادي جرياً وراء الأموال، وهذه هي الجواهر تلال فوق تلال، لا تعود عليّ بفائدة ولا تنفعني شيئاً. إن كسرة خبز وجرعة ماء أجدى من كل ما أراه من المال الذي يفتتن به الناس، ويتعادون في حبه.
وهكذا عضضت بنان الندم، واستغرقني التفكير.
وكنت أجلس والماء ينساب أمامي في منحدرات الجبل، فتظهر أحياناً مساربه فوق الصخور، وتغيب أحياناً بين الأعشاب أو تختفي بين الأحجار. وفجأة خطر ببالي خاطر سريع، فسألت نفسي: إلى أين يذهب ماء هذا النهر الجاري الدافق بين صخور الجبل وكهوفه؟ لابد أن له نهاية ومصباً. استصوبت الفكرة ووجدت فيها خيط الأمل فلماذا لا ألقي بنفس في ماء النهر فيحملني تياره إلى حيث يسير. فنهضت من فوري، وجئت بألواح من خشب المراكب وكونت منها قارباً صغيراً.
وجمعت من كنوز الجزيرة ما يستطيع القارب حمله، وأخذت ما كان باقياً من الزاد، وأنزلت القارب إلى النهر، ومازال التيار يدفعه حتى دخل بي تحت الجبل فوجدت نفسي في ظلمة شديدة، وأخذ الجبل يضيق حول القارب، حتى لامست صخوره جوانبه، واحلولك الظلام من حولي، وأخذ التيار يدفع بالقارب هنا وهناك، وبعد وقت لا أدري طوله شعرت أن النهر قد بدأ يتسع من حول القارب، إلى أن خرج إلى فضاء فسيح، أرضه خضراء وسقفه زرقة السماء، فتولاني ذهول خرجت منه إلى عجب واستغراب، ورأيت جماعة من الناس قد التفوا حول القارب من هنود وحبش، تقدموا مني، وسألوني من أكون وكيف جئت من خلف هذا الجبل. فأخبرتهم بقصتي العجيبة وما لاقيته من أهوال وما تكبدته من ضيق النهر تحت الجبل وحلوكة ظلامه.
ثم أدخلوني على حاكم مدينتهم، وقدمت له هدية من أفضل ما حملت معي في قاربي، فشكرني وأكرمني، وأفرد لي مكاناً في قصره.
وذات يوم كنت في مجلس الحاكم فسألني عن بلادي وأهلها، ونظام الحكم. فوصفت له بغداد وعظمتها، حاضرة الممالك الإسلامية كلها، وفيها خليفة يسهر على شؤون رعيته ويقضي بينهم بالعدل. يحب العلماء ويتذوق الأدب. يجلس للوعاظ، وينصحونه. له وزراء خبيرون بشؤون السياسة وتدبير الملك. وما كدت أنتهي من ذلك الحديث الطويل حتى بدا عليه الارتياح لما وصفته من سياسة الحاكم وحسن تدبيره وجميل صلته برجال دولته وبالعامة والخاصة من رعيته، فقال: والله إن حاكمكم يسير وفق منهج عقلي حكيم قويم، وقد عزمت على إعداد هدية له تعبر عن تقديري وإعجابي بسياسته، تحملها له عندما يتيسر لك السفر.
ومرت الأيام تباعاً إلى أن بلغني يوماً أن جماعة من أهل المدينة قد جهزوا مركباً للسفر وأنهم ينوون التجول به حتى نواحي البصرة. فذهبت إلى الحاكم وبسطت له رعبتي في السفر معهم، وقلت له: يا مولاي لقد غمرتني بمعروفك، وما كنت لأجد خيراً منكم بديلاً، ولكني اشتقت لأوطاني وبلادي. فقل: تلك صفة طيبة، ما اتصف بها أهل وطن إلا عزُّوا، والإنسان الذي يستحق أن يعيش هو الذي يجعل وطنه أغلى عنده من كل شيء حتى نفسه.
ودعت الملك وجميع أصحابي الذين تعرفت بهم هناك، وركبت المركب، وسرنا على بركة الله.
وفي بغداد توجهت إلى قصر الخليفة، وقدمت له هدية حاكم المدينة التي كنت فيها، وقصصت عليه قصتي معه مجملة من غير تفصيل. فسألني عن سبب الهدية العظيمة التي أحضرتها له من حاكم تلك البلاد. وقصصت عليه قصة غرق المركب بجوار الجبل ووصولي إلى تلك المدينة التي أرسل إليه حاكمها هذه الهدية عندما أخبرته بأحوال بلادنا، وأسباب رقيها، بفضل حكمة خليفتنا. فسرّ الخليفة وأمر المؤرخين بتدوين قصتي وحفظها في خزانته، ليطلع عليها كل من رغب من أهل زمانه ومن يجيئون بعده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق