بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 أبريل 2015

السندباد البحري: السفرة الثانية



لقد أخبرتكم أمس أنني عدت من تجارتي الأولى موفور الرزق، أنفق ما وسعني الإنفاق، وتساقط حولي الرفاق السابقون، لم أحرمهم ولم أغمرهم، زينوا لي السوء فلم يحلو في عيني، وصرفني الله عنهم بما أودع في نفسي من حب السفر وركوب الأخطار. فتهيأت للرحلة الثانية مع التجار زملائي، فابتعت ما يلزم للسفر من بضائع، وقصدت الساحل، فوجدت سفينة جديدة، فأنزلت حمولتي فيها، ثم سارت بنا السفينة، وكلمت رست بنا على مدينة نخرج إليها، نبيع ونشتري ونقايض ثم نستأنف السفر.
ألقت بنا المقادير إلى جزيرة جميلة كثيرة الأشجار، يانعة الأثمار متفتحة الأزهار، كثيرة الأطيار، فأخذنا نتجول في أرجائها. وقع بصري على عين ماء صافية نبتت حولها أشجار كثيرة عالية. فجلست وأخرجت طعاماً، وانتعشت نفسي، واسترخت أعضائي ثم غلبني النوم، فنمت.  فما استيقظت إلا والمكان قفر. فنهضت أبحث عن رفاقي فلم أجد أحداً، فجريت صوب السفينة فلم أجدها، فقد أقلعت وخلفتني في الجزيرة وحيداً. فأخذت أبكي وأصيح، وأيقنت أني هالك لا محالة، من وحش أو من جوع.
درت الجزيرة كالمجنون. لقد نجوت في السفرة السابقة، فما في كل مرة تسلم الجرة. وخطر لي أن أصعد فوق شجرة عالية، فجعلت أعلو شجرة باسقة حتى بلغت قمتها، وأخذت أنظر هنا وهناك، لاح لي شيء أبيض كبير الحجم، فقدرت أن عنده النجاة، وما كدت أقترب منه حتى رأيته قبة عظيمة بيضاء شاهقة العلو، قست محيطها فإذا هو خمسون خطوة وافية. وبينما كنت واقفاً بجانب هذه القبة الملساء متحيراً في أمرها، أفكر في طريقة تمكنني من دخولها أو الصعود عليها –إذ غابت الشمس وأظلم الجو، فرفعت رأسي فرأيت في الجو طائراً عظيم الخلقة عريض الأجنحة، حجب أشعة الشمس. وتذكرت ما كان ينقله السياح من أخبار عن طائر يقال له الرخ، يزق أولاده بالأفيال، وعرفت أن القبة البيضاء ما هي إلا بيضة من بيض الرخ. هبط فوق القبة واحتضنها ونشر جناحيه حولها. واستغرق في النوم ورجلاه ممددتان على الأرض. دار في خاطري: ماذا لو أوثقت نفسي برجل هذا الطائر الضخم، وسوف لا يحس فيطير بي وينقلني من هذه الجزيرة إلى موقع آخر أستطيع أن أصل منه إلى مكان آهل بالسكان. ففككت عمامتي وفتلتها حتى صارت مثل الحبل وربطت نفسي في رجل الطائر. وفي الصباح انتفض الطائر من فوق بيضته وأقلع بي في الجو، وبعد قليل حط في مكان مرتفع، ثم فككت الرباط من رجليه، والتفت حولي أستكشف المكان، فوجدتني في مكان عال تحته واد واسع عميق، فلمت نفسي إذ تسببت في نقلي من الجزيرة إلى هذا المكان الموحش القفر، وقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! إني ما خلصت من مصيبة إلا لأقع في مصيبة أعظم. فاستجمعت قواي وقمت أمشي. فرأيت أرضه من حجر الماس، والأفاعي تختبئ بين الصخور، عظيمة الخلقة والطول، لو صادف الواحدة منها فيلاً لابتلعته، فأيقنت أني هالك لا محالة.

وبينما أنا أسير متثاقلاً متحاملاً على نفسي، رأيت شيئاً قد سقط وارتطم بالأرض أمامي، فتأملته فوجدته ذبحاً عظيماً، وسألت نفسي: من الذي ألقى به؟ وما انتهيت من تفكيري إلا على ارتطام ذبيحة أخرى، فازداد عجبي، وتذكرت ما كنت أسمعه من أقاصيص عن تجار الماس، وما يحتالون به من حيل للحصول على الماس، ومنها أن كل تاجر منهم يأتي بذبيحة ويضع فيها علامة، ثم يقذف بها في الأماكن الغائرة التي بها أحجار الماس، فتلتصق بها أحجار الماس وتأتي الطيور الضخمة، وتحملها إلى أعالي الجبال، فيخرج التجار إليها، فتفزع الطيور وتترك الذبائح، فيجيء كل تاجر إلى ذبيحته، ويأخذ منها ما يكون قد علق بها من الماس.

دب في نفسي بعض الأمل في إمكان الخلاص، وذلك بربط نفسي في إحدى هذه الذبائح ليحملني طائر معه إلى مكان آخر ربما أجد به بعض الأمل. فانتقيت من أحجار الماس أنفسها وأكبرها حجماً ووضعته في جيوبي. ثم عمدت إلى الرباط الذي هيأته من عمامتي وربطت به نفسي في ذبيحة كبيرة. فما مضى وقت طويل حتى أقبل نسر كبير وانقض عليها، وارتفع بها إلى الجو وأنا معلق في أسفلها، حتى وصل إلى قمة الجبل، وحط عليها ذبيحتي وأراد أن ينهش منها، وإذا بصيحة عظيمة أتت من خلف ذلك النسر، فجفل النسر وطار، ففككت نفسي على عجل، ورأيت رجلاً يتقدم من الذبيحة، وأخذ يقلبها ظهراً لبطن، لعله يجد شيئاً من الماس، فلم يجد شيئاً، فصاح: واضيعتاه، يا سوء حظي، فأشفقت على الرجل وتقدمت منه. فقال من أنت؟ وما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ فقلت له لا تخف فإني من خيار الأنس، سأقص عليك قصتي وسأعطيك ما يكفيك من الماس. فشكرني الرجل واطمأن. وعلم بي بقية التجار فأتوا سراعاً والتفوا حولي، فأخذت أقص عليهم قصتي، واستمعوا إلي وهم في دهشة وعجب.  وصحبني التجار حيث قضينا ليلتنا في مكان مريح أمين، ولما طلع النهار استأنفنا المسير، وصرنا ننتقل من مكان إلى مكان، ونتفرج على ما نمر به من البلاد، ورأيت فيما رأيت حيوان الكركدن، وهو حيوان كبير الجسم، له قرن واحد غليظ في وسط رأسه، وقيل لي إن هذا الحيوان يغلب الفيل، ويغرز قرنه في بطنه.
بعت ما معي من ماس واشتريت تجارة، وظللت أبيع وأشتري حتى وصلنا البصرة. ثم جئت بغداد، واجتمعت بأهلي وأصحابي، وتصدقت ووهبت، ونسيت جميع ما تكبدته وقاسيته، وصارت قصتي قصة مسلية، أقصها على كل من يسألني.

السفرة الثالثة        السفرة الأولى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق