كانت الخيبة تتعقب الفرسان الثلاثة الذين كانوا يعبرون سهل برامو مهرولين.
كان آخر تراشق نار بين قوى خوليو بوبر عند ضفاف نهر بيتا، وأعداء الباحث عن الذهب الثري الذين تبعثروا مقهورين خائبين، كانوا نحو سبعين مغامراً من كل الجنسيات.
فرّ بعضهم نحو سلاسل جبال كارمن سيلفا كما سماها بوبر نفسه تخليداً لملكته الرومانية، وآخرون تلاشوا في مراعي شينا غريك الواسعة، وعدد منهم وصل إلى غابات نهر ماك ليلان التي يلجأ إليها لصوص الماشية وآخر هنود الأونا.
وحدهم، نوفاك وشايفر وسبيرو ساروا بمحاذاة شاطئ أرض النار الجنوبي أملاً بالاختباء خلف النتوء الصخري المظلم لرأس سان مارتان. كان لا يزال بحوزتهم بضع رصاصات لبنادقهم القصيرة وعلبة خرطوش كاملة عيار تسعة مليميتر لمسدسهم الوحيد ذي الماسورة الطويلة.
كانت هذه الذخائر القليلة أملهم الأخير، التي لن تمكنهم من مواجهة تبادل نيران مديد. كان كل شيء عبارة عن ضياع وتعب واكتئاب في قلوبهم كهاربين، كما في خواء سهوب أرض النار المثيرة للقلق.
- هل من دم على سروالك؟ سأل نوفاك بصوت عطوف غريب مشيراً بإصبعه إلى ساق شايفر اليمينية.
- نعم، أعرف ذلك. أجاب شايفر ببرود رافعاً عينيه الزرقاوين إلى السماء الثقيلة، كما الطير الذي يتطاول برقبته قبل الطيران.
- طلقة واحدة؟ تساءل سبيرو.
- لا، إنها روث الغوناق[1]! أجاب شايفر بغضب.
- دعونا نرى، قال نوفاك مبطئاً هرولة حصانه.
- معاينة ماذا؟
- معاينة الجرح، أجاب الرقيب السابق في الجيش الألماني بلهجة الضابط المهتم بحالة جنده.
- إنه لا شيء، لنتابع! قالها شايفر شاداً مهماز حصانه.
رشقه كوسمو سبيرو بنظرة حذرة ليشد بدوره مهماز حصانه ويترأس المسير.
رفع العجوز شايفر مرة ثانية رأسه نحو السماء مثل طائر جريح. مع تفتق الجرح كان النزيف يعذبه؛ ففي كل مرة كان يضغط بقدمه على ركاب السرج لمسايرة إيقاع الهرولة، كان يشعر بموجة سائلة تنبثق من جرحه وتنتشر فاترة على طول ساقه حتى بوطه الذي أخذ يتبلل بالدم شيئاً فشيئاً.
كان يستند إلى حلقة السرج بيده اليمنى الممسكة ببندقيته الألمانية القديمة ذات الماسورة المتحركة، محاولاً تخفيف ضغط قدمه على الركاب؛ لكن بلا فائدة، فالموجة الفاترة كانت مستمرة في الجريان بانتظام مضنٍ، منتشرة بخبث على الجلد داخل البوط. حينها، مدّ شايفر يمد رأسه مثل طائر مجروح، ليس لاستجداء السماء، ولكن ليكيل سبحة من اللعنات في وجه الإله الذي جره إلى هذه المغامرة البائسة.
- ما الذي دفعني لمقاتلة بوبر! تمتم العجوز بين أسنانه، في حين أنه كان يعاملني كمواطن له، مع أني لست إلا هنغارياً بائساً رسا على هذه الشواطئ.
بين الفينة والأخرى، مثل دفق الدم الفاتر والمخادع، كانت تندفع في ذهنه ذكريات عابرة عن مغامرات مع الباحث الثري عن الذهب بارامو. الأمر هكذا؛ فالألم ودنو الأجل يجعلان صور الحياة تتدفق.
تذكر لقاءه الأول، في حانة في بونتا أريناس، مع ذلك الضابط المخمور الذي ظنه ملازماً في الجيش النمساوي المجري ... كان اسمه نوفاك ... وهو يسير الآن بجانبه مُثقلاً بوطأة الهزيمة! عيّنَهُ بوبر آمراً على مجموعة حمايته الشخصية، التي فرض عليها الزي الرسمي العسكري النمساوي المجري، وكذلك على شرطة بارامو، التي كان سلاحها وهيئتها العسكرية تفرضان سطوة النظام على العمال والسكان.
دفع نوفاك ثمن الشراب بقطعة نقدية غريبة وضعها صاحب الحانة على كفة ميزان الذهب قبل قبولها. كانت تزن خمسة غرامات تماماً، نُقِشَ على وجهها الرقم خمسة بالخط الكبير تعترضه كلمة غرامات وتحيط به عبارة “مغاسل ذهب الجنوب”، أما على الوجه الثاني فنقشت عبارة “خوليو بوبر –أرض النار - 1889”.
استغرب شايفر هذه القطعة النقدية الغريبة، وهو الذي كانت جيوبه خاوية في ميناء أريناس هذا، الذي وصله بعد أن هام على شواطئ مضيق ماجلان باحثاً عن مناجم الذهب، التي لم يكن قد بقي منها سوى حُفَر مهجورة عندما وصل إليها. في هذا اليوم تحدث مع نوفاك فخلب لبه صيت الغني الروماني الذي كان يسمي نفسه “ملك البارامو”. وبتشجيع من رئيس الحرس قرر الالتحاق بقواته، بهدف مُضمر في أن يصبح غنياً مثل سيده الجديد ككل الذين كان بريق الذهب يسحرهم.
شقوا غمار مياه المضيق على متن القارب الشراعي ماريا لوبيز، ثم ساروا بمحاذاة الجانب الأطلسي لأرض النار، ليرسوا في ميناء بارامو، وهو كاسر أمواج هائل يتطاول بعدة كيلومترات في المحيط، يحمي بذراعه الحجري خليج سان سبستيان الواسع، حيث يرتفع مستوى الماء وينخفض لأكثر من عشرة أمتار، كاشفاً عن شواطئ غضارية تحيط بها كثبان ومخابئ مولدة مساحات عشبية شاسعة من سهل النار.
تُعرف هذه المنطقة باسم إل بارامو، هنا اكتشف خوليو بوبر (هو أول أبيض عبر جزيرة مضيق ماجلان حتى وصل إلى المحيط الأطلسي) مناجم ذهب على شكل مسحوق وشذرات ورقائق. عاجلاً ما ظهر أن المزراب والفأس والغربال هي أدوات مساعدة بائسة في طموح الباحث السعيد عن الذهب. بعد رصد الفروق الهائلة بين المستويات التي يحدثها المد والجزر، وجد وسيلة لاستعمال تلك الطاقة. لذا قام بحفر أنفاق، على عمق سبعة أمتار قبل مستوى المد، وضع فيها آلة خشبية من اختراعه؛ عند ارتفاع البحر تبقى المياه حبيسة الأنفاق المغلقة ببوابات قوية، وعند انخفاضها، فإنه يضبط جريانها بطريقة تغسل كل المواد التي تحتوي الذهب، التي جمعها عشرات العمال أثناء ارتفاع المياه. كان عائدُ تلك الآلية عظيماً جداً لدرجة أن بوبر أطلق عليها اسم “حصادة الذهب”. بلغ القطاف فعلياً نصف طن تقريباً من الذهب سنوياً، وبفضل هذا الثور الكوني المسرّج على نير الذكاء الإنساني، أمكن لخوليو بوبر التباهي بأنه أول رجل “زرع وحصد في البحر”.
لكن حصّادات الروماني الجريء لم تكن تعمل إلا لصالحه في الأغلب، والمغامرون الطامعون الذين يتابعونه في مشروعه، حالمين أن يصبحوا أثرياء مثله، بدأوا ينظرون بغيرة وحقد إلى سيدهم الذي كان يستولي على كل المناجم، بدون أن يترك لهم أي قطعة أرض مهما صغرت حيث يمكن لأي منهم أن يستقل بمفرده.
في اليوم الذي وصل فيه نبأ اكتشاف طمي الذهب في نهر كولن وغدران ألفا وبيتا وغاما، بوفرة مماثلة تقريباً لتلك الموجودة في بارامو، اختار الكثير من الرجال الانشقاق. فهناك يكفي المعول والغربال للباحث عن الذهب ليكون مستقلاً ومتنعماً، بدلاً من الانحناء، كما البحر، تحت نير بوبر.
لكن “ملك بارامو” لم يرض بأن ينافسه هؤلاء المنشقون تحت سمعه وبصره، فأخذ في مضايقتهم بواسطة مرتزقته كي يتخلوا عن تلك الأمكنة التي يريد المحافظة عليها تلبية لأطماعه التي لا حد لها. وعند هذا الجانب القصي من الأرض، فإن حادثاً أكثر خطورة كان في طريقه لأن يُشعلَ فتيل البارود. إذ قامت جماعة، مستغلة غياب الربان الذي سافر إلى بونتا أريناس، بالاستيلاء على ماريا لوبيز، لتبحر في مياه خليج سان سيبستيان ولتهرب حاملة معها خمسة وعشرين كيلوغراماً من الذهب.
لكن البحر لم يكن ليساعد بوبر في حصده الذهب فحسب؛ بل كان يسهر بغيرة عليه كما لو أنه أخلص حراسه. وفي سلبهم كهوف “ملك بارامو”، فإن المجرمين، لسوء طالعهم، أخذوا معهم كل الخمور التي وجدوها. هبت عاصفة في وسط البحر حين كانوا كلهم سكارى يحتفلون فرحين بهروبهم. ولم يكن بمقدورهم المناورة بالأشرعة فغرق مركبهم، غامراً إلى الأبد في أعماق المحيطات طاقمه والخمسة وعشرين كيلوغراماً من الذهب، كما لو أن ذلك عِبرة لأتباع “ملك بارامو”.
لم يكتف خوليو بوبر عند عودته إلى أراضيه بالعقاب الذي أنزله البحر، حليفه القديم، فحمّل عمال المناجم مسؤولية الأحداث في الغدران الثلاثة واتهمهم بأنهم ليسوا إلا عصابة لصوص وأوغاد يجب معاملتهم بلا شفقة. شنق ثلاثة أو أربعة أفراد على عواميد تقع على أطراف منطقته، معلقاً على كل منهم يافطة كتب عليها باللاتينية: “ Lasciate ogni speranza, voi che'ntrate” "تخل عن أي أمل أيها الداخل"، وهي جملة تعود لدانتي تطلب من البشر التخلي عن أي أمل عند عبورهم لأبواب جهنم. لم يكن هنود الأونا ولا المغامرون في ريو بيتا يعرفون الكوميديا الإلهية، لكن ما كان أكثر بلاغة من جملة دانتي بالنسبة لهم هي الرؤوس والهياكل المكشوطة تماماً التي حَطتْ عليها نسورٌ متخمة.
كان هذا على الأرجح المصير الذي ينتظر الألماني نوفاك والإيطالي سبيرو والهنغاري شايفر لانضمامهم إلى معسكر العصاة بدلاَ من الدفاع عن الممتلكات التي عهد إليهم بحمايتها. وفوق كل شيء فإن نوفاك الوفي، وقائد حرس بوبر، هو من قاد شخصياً المعركة النهائية للمحتجين السبعين في غدير بيتا. كان هذا بلا شك سبب نظرات سبيرو الخائفة الخفية التي كان يلقيها خلفه من وقت لآخر.
كان شايفر يشد على أصابع قدمه في بوطه بقدر استطاعته لكي يُقدّر كمية الدم المنتشر فيه ولكي ينسى في الوقت نفسه المحاسبة المخيفة التي أدخل نفسه فيها. رفع بصره مجدداً نحو السماء بلونها الرمادي القاسي الذي كان يسحق الأرض.
مع الاقتراب من الشاطئ الشرقي لأرض النار، تنخفض سلسلة جبال كارمن سيلفا رويداً رويدا لتصبح هضاباً ملساء بعشب أسود، وشجيرات البرباريس بثمارها السوداء، وإكليل الجبل، وشجيرات كثيفة يمكن للمرء الاختباء فيها. تبزغ من جديد عند ذروة رأس سان مارتان، الذي ينحدر جرفه رأسياً إلى البحر مغلقاً خليج سان سيبستيان، مانعة النفاذ إلى الشاطئ الذي نشهد من عنده في البعيد كاسر الأمواج الكبير بارامو، مثل موجة معتمة ساكنة ومتحجرة في وسط البحر.
تمهل الفرسان الثلاثة عدو أحصنتهم عند دخولهم إلى تلك الواحة الحصينة.
- لنتوقف هنا ولننظر في أمر هذه الساق، قال نوفاك، الذي وجه كلامه لسبيرو بصوت آمر: تموضع على هذه الهضبة وأخبرنا إن رأيت شيئاً ما.
ترجل شايفر ومَدَدَ ساقه على الأرض في فسحة صغيرة تحيط بها أغصان نبات وأدرك في النهاية خطورة جرحه. لقد اخترقت الرصاصة فخذه من طرف إلى الطرف الآخر، لكنها لم تلمس العظم لحسن حظه. لأنها ثقبت فخذه بخط مائل، كان الجرح نازفاً على شكل قناة تحمل دم النسيج الممزق لتتركه ينساب من الطرف المقابل. وعند ضغطه بقدمه على الركاب، لكي يحاكي زملاءه في إيقاع الهرولة، كانت العضلات تضغط على الجرح وتطرد الدم المتراكم في أمواج متخامدة فاترة جاعلة شايفر يمد رقبته ورأسه مثل طائر الغاق[2].
راقب نوفاك العجوز الممدد على أرض البامبا[3] ووجهه المحتقن بعينيه الزرقاوين، اللتان يخون بريقهما حضور شبابٍ خفي يرفض مفارقته. تناول قُربةَ المياه المشدودة إلى حصانه وقدم له الماء. باعد شايفر شفتيه وشرب قليلاً عاضاً على طرف من شاربه بين أسنانه كما لو أنه متعلق به. فك نوفاك وشاح شايفر الأزرق والأحمر الذي كان يلف رقبته به ومزقه. سدَّ الثقوب التي تركتها الرصاصة وضمد الجرح بما تبقى من قماش الوشاح. ازداد شحوب شايفر وأغمض عينيه. رأى نوفاك فتحتي أنف شايفر تتشنجان، أخذت شفتاه بالارتجاف، كشف بريق الشباب عن وجه العجوز المتغضن. بعد وقت قصير فتح شايفر عينيه مجدداً وأجال بنظرة مرتعشة حوله، تساءل بهدوء:
- ظنت أني قد انتهيت ...
- أنت في تحسن، أجاب نوفاك بفتور؛ لكن لا يمكننا البقاء هنا. يجب أن نجد مكاناً آمناً ... لقد فقدتَ الكثير من الدم ولا أعرف إذا كنتَ قادراً على الحركة.
- ليس لكما إلا أن تتركاني هنا ... إذا شفيت سأتابع؛ وإلا فبئس الأمر. إني عجوز تماماً الآن، ولا أحتمل كثيراً العدو بحصاني.
- الأحصنة منهكة. أظن أننا لن نستطيع الاستمرار إذا لم ندعها ترتاح قليلاً. سنمضي الليلة في هذه الأرجاء ونغادر غداً قبل بزوغ الفجر.
أطلق نوفاك صفرة قوية ليبدأ سبيرو النزول من الهضبة حيث كان يراقب الأرجاء.
- شايفر متعب جداً، أظن أنه لن يكون قادراً على امتطاء حصانه.
- ثم ماذا ... ؟ قالها سبيرو بسخرية قاسية مستهجناً.
كان شخصاً متوسط القامة، بدين إلى حد ما، مستدير الوجه، منتفخ الوجنتين، ذو عينين سوداوين صغيرتين حيويتين، تخفقان كذبابتين فوق رغيف خبز ساخن.
- يجب أن نجد مكاناً نمضي فيه الليل بأمان، وسنقرر غداً عندما تكون الأحصنة قد ارتاحت، أجاب نوفاك.
- لا تهتموا لأمري، قال شايفر الذي نهض متكئاً على مرفقيه.
نظر إلى ساقه ورأى الدم قد توقف عن الجريان. أدار رأسه ليستكشف وجه نوفاك بفكه المربع، والبارز، ووجهه الطولاني الذي تكثر فيه الزوايا، مثل قامته الكبيرة، المتوّجة ببعض الخصل الشقراء التي تخرج من تحت قبعته الجلدية الدهنية. هذه الركائز العظمية والعضلية تمنح انطباعاً بالقوة والصلابة، ثمة شيء طفولي كان يلّون هذا الوجه الذي لا نزال نقرأ فيه الغرور والتسلط.
راقب سبيرو بدوره جرح شايفر خافقاً بجفنيه كما لو أن عينيه متهيجتان. فجأة حملق الثلاثة ببعضهم؛ حدق سبيرو ونوفاك بشايفر الممدد الذي رشقهما بنظرة. من ثم تباعدت عيون ثلاثتهما، كما لو أنها تصادمت لتتلاقى من جديد على الجرح الدامي. كانوا هامدين، مُنكفئين على اللحم المثقوب بالرصاص، مفكرين ربما أنه بدلاً من هذه الساق، كان للرصاصة أن تعبر قلوب الثلاثة الهاربة.
- لا تهتموا بي ... تابعوا مسيركم، يكرر شايفر بصوت أكثر حزماً ولكن أكثر برودة.
نظر سبيرو ونوفاك إلى بعضهما على نحو غير مباشر، وتفحّص كل منها رد فعل الآخر.
- يجب البحث عن منطقة خفية لتمضية الليلة، أصرّ نوفاك.
- إذا أردتما، سأمضي لأرى هناك ... اقترح سبيرو بصوت متردد.
ثبّت نوفاك بقامته العالية عينيه الرماديتين بعيني الإيطالي.
- لا، إن حصاني بحالة أفضل من حصانك. ابق هنا واعتن بشايفر. سأذهب لأرى وأعود.
ذبابتا سبيرو السوداوان أخذتا بالخفقان؛ حملق في نوفاك مع ابتسامة ماكرة متابعاً الألماني.
- حسنٌ، ليكن ...
امتطى نوفاك صهوة حصانه مبتعداً بعدو سريع.
تسلل ضوء الشفق الخافت البطيء إلى السماء المعتمة، مُزيداً شحوب وجه شايفر. يتابع سبيرو عاجزاً نوفاك بعينيه إلى أن اختفى خلف الهضاب، ليستدير من ثم نحو شايفر؛ لكن العجوز كان يبدو نائماً.
- سأنظر من الأعلى هناك إذا لم يكن قد تبعن أحد، قال ذلك بصوت مختنق، كما لو أنه لم يكن يريد إيقاظه.
- دعك من هذا! همس العجوز الذي استفاق فجأة.
أضاف محدقاً: خذ حصانك وانصرف من هنا!
- لكن ...
- ليس من لكن، ... نوفاك لن يعود، افعل مثلما فعل!
- أتظن ذلك؟
- لقد جعلت من نفسك ضحية، هذا هو الأمر.
- آه، لماذا أنت هكذا شايفر؟ ... أتظن أنه لن يعود؟
أضاف بصوت بطيء بطء هبوط الليل:
- لا يمكنني أن أتخلى عنك هنا، لوحدك. ستموت من الجوع والبرد.
- قبل أن أصل إلى ذلك سأطلق على نفسي رصاصة. أعطني البندقية، قالها ببرود ... لا تخف، فهذا ليس لمنعك من المغادرة. قد احتاجها، هذا كل ما في الأمر.
- تقول المغادرة؟
- توقف عن الهزل ... أعرف أنك تموت توقاً للسير وراء الآخر.
- كلا شايفر، لن أعطيك البندقية ...
- لماذا؟
- قد ترتكب حماقة ما ... يجب الانتظار لبرهة ... ألا تعتقد أن نوفاك سيعود؟
- لماذا تهتم بنوفاك بهذا القدر؟ اهتم بنفسك إذاً!
- ذلك أنه أحياناً، كما تعلم ... هناك ظروف ... لو أننا نعرف متى ستطبق علينا لكنا تصرفنا على نحو مغاير ...
- قلت لك امض واترك لي البندقية ... نوفاك لن يعود، أعطينها!
- تقول إن نوفاك لن يعود؟ لا، لا ... سيعود! لن أعطيك البندقية، قد ترتكب حماقة ...
- إذن، اتركني أنام! تذمر العجوز الممدد على الأرض مُتكئاً على ساقه السليمة.
ليالي أرض النار في نوفمبر، بالرغم من قصرها، هي ذات عتمة بالغة، خصوصاً عندما تكون السماء مغطاة بكتل غيوم سميكة. يستغرق شايفر في سبات عميق.
أيقظه نوفاك بهزه من كتفه سائلاً إياه عن سبيرو. لا أثر له في أي مكان، هرب واضعاً بيد واحدة البندقية ذات الماسورة المتحركة بجانب العجوز، وشاداً بالأخرى فرسه مع سرجه وكل ما كان معلقاً به.
*
وجد نوفاك ملجأً حسناً في وسط مجموعة من الصخور البركانية، بقرب الساحل، حيث قاد شايفر إليه في تلك الليلة نفسها. شكلت الكتل الصخرية نوعاً من المغارة حيث تأتي حيوانات الغوناق للاحتماء أيام الطقس القاسي، كما يشهد على ذلك الروث الذي خلفته على أرض المغارة.
- أية أهمية إن بقي أو غادر كجبان! علق شايفر مؤكداً بعد بضعة أيام على هروب سبيرو.
- ليس تماماً، أجاب نوفاك؛ كلما أبكرنا في اكتشاف الخائن كلما كان ذلك أفضل.
- لقد شككت فيك، قال العجوز بأناة؛ لكني كنت متأكداً أن سبيرو كان سيغادر. يكفي أن تنظر إلى وجوه الرجال لمعرفة ما يريدون. أنا لست بالواهم. كل ما يضاقني هو أنه أخذ حصاني “مولي”. فماذا سأفعل عندما أتعافى بلا حصان؟
- سنرى ... قال نوفاك.
شفي شايفر سريعاً من جرحه. وفي فجوة صخرة عند الشاطئ القريب، وجد نوفاك طبقة من الملح قام بقطافها لطهو العصافير التي يصطادها، والذي سيستفيد منه كمطهّر لجرح العجوز، الذي ساعدت الشمس وهواء البحر في اندماله شيئاً فشيئاً.
“لماذا يهتم بي؟” سأل شايفر نفسه أكثر من مرة، وهو الذي لم يكن يتصور أن للتأهيل العسكري لهذا الرقيب السابق في المدفعية الألمانية القدرة على حثه على الاعتناء برجل جريح في المعركة. لقد كان فريتز نوفاك عسكريا في الصميم ثار ضد بوبر الذي تصرف كإقطاعي جائر مع أتباعه.
بالمقابل، فإن الحياة الخشنة التي كان شايفر يحياها منذ نعومة أظفاره، حيث كان مرغماً على التخلي عن السهوب الهنغارية للهجرة إلى أمريكا، جعلته شديد المراس في مواجهة سلوك أقرانه. وبحسب رأيه، فإن الرجال لا يختلفون عن بعضهم إلا في القليل، خصوصاً أولئك الباحثين عن التِبر. كان بإمكاننا أن نتوقع من أي منهم الحسن والسيء: فكل شيء يعتمد على الظروف. هذا ما علمته الحياة؛ كان الأمر هكذا وهكذا كان. لم يعتبر نفسه إطلاقاً مختلفاً عن الآخرين لهذا كان موقف نوفاك يملأه حيرة. كان شايفر يجد في قرارة نفسه أن سلوك سبيرو أكثر منطقية، الذي غادر تاركاً له بندقيته لكي ينتحر، وسارقاً حصانه الذي كان له أن يساعده على البقاء حيّاً.
أما نوفاك الزعيم الفظ، والقاسي أحياناً، من ميليشيا خوليو بوبر، فقد أركبه حصانه وقاده بتمهل كي يجنبه النزف حتى تلك المغارة بين الصخور. لا يزال العجوز يذكر حتى الآن أصوات نورس البحر وطائر الغاق البعيدة التي أرشدتهما في منتصف الليل إلى الشاطئ. في الغد اكتشف نوفاك أن الصرير كان مصدره نتوء من الحجر المسامي يقع بين الجرف ومستوى المد والجزر حيث كانت قد وضعت آلاف الطيور بيوضها في الشقوق الصغيرة التي تشكلت بفعل العواصف الثلجية. جلب نوفاك في وشاحه زاداً وفيراً من البيض الذي قام بسلقه في القِدر. تلك البيوض الطازجة لطيور النورس والغاق جنّبت شايفر الخطر نهائياً. “ربما لهذا لم يغادر، ظن العجوز: لأنه وجد ما يؤكل ... “.
في صباح أحد الأيام قتل نوفاك أنثى غوناق وصغيرها الحديث الولادة. قاما بشواء الصغير الذي كان لحمه طرياً كلحم الحمل، وقطعا الأنثى قطعاً وضعاها على حجارة معرضة للشمس لتجفيفها في الهواء المالح. بدت الحياة هانئة للهاربين المحتميين برأس سان مارتان، الذي ينحدر جرفه رأسياً إلى البحر ويعزلهما عن باقي الشاطئ.
شيئاً فشيئاً أخذ شايفر في التمشي خارج المغارة مستخدماً السوط لردع الحيوانات المفترسة من الاقتراب من لحم الغوناق الذي كان يصطاده نوفاك من وقت لآخر بإصاباته الدقيقة. كان يتلقط الأعشاب الجافة لإيقاد النار ويقوم بأعمال بسيطة في المغارة، في حين كان نوفاك يقوم بسهولة بتأمين المؤن الذي كان وفيراً على نحو خاص ذلك أن ربيع أرض النار كان في ذروته.
بدأ دجاج الحباري والوز البري بالوصول من الشمال بطيران هجرات طويل كي تبيض في أرض النار، ومع اقتراب الشتاء تعود مع صغارها نحو الأجواء الأكثر دفئاً. كانت طيور النحام والبط بأنواعه المختلفة تقطن البحيرات والسواقي التي كانت تتعرج في حقول البامبا بين الروابي المغطاة بأعشاب عالية.
كانت روح شايفر، كما الفراشة التي تخرج ببطء من شرنقتها، تنسى رويداً رويدا المرارة والآلام، مكتشفة أن الحياة في تلك المناطق كانت بعيدة عن أن تكون غير سارة. كان الرجلان يفعلان كل ما يروق لهما، متحرران من كل معوّق، ولا يتبادلان إلا الكلام الضروري للحياة في صفاء. أرض النار هي الأخرى تبدلت بعد أن عانت شتاء قاسياً تحت طبقة سميكة من الثلج والجليد. عشبها الذي قاوم التجمد، بزغ من جديد عارضاً نفسه مرة أخرى لشهية الغوناق الربيعية وللطيور المهاجرة. وعلى طول الشاطئ كانت النوارس كثيرة البيض، بيض بحجم بيض الدجاج، اكتست قشرتها بما يشبه الرخام بأوردة صغيرة زرقاء باهتة وبنية، مثل الزهور الخزفية التي تزين الحجر الغامق. أما قطعان الفقمة فقد أخذت في العويل وسط الصخور والرمال بصحبة صغارها التي ولدت في مغاور رأس القرن.
ومع هذا، وطوال أيام الهدوء والكسل هذه، كان يحدث أن نوفاك وشايفر يشرئبان فجأة برأسيهما بين صخور عرينهما ويجولان بناظريهما في المنطقة المحيطة بهما كزوج فقمة حذرين. فقد كانا خائفين دائماً من “ملك البارامو”.
كانا يعلمان في أعماقهما أن هذه النعمة لن تدوم. وفي ذات يوم أخذ دجاج الحباري والوز البري بالطيران باتجاه أراضٍ أخرى، وبدأت حيوانات الغوناق بالتناقص. وماذا عنهما؟ ... أين لهما أن يذهبان؟ وبأية أجنحة؟
- أخرج إذاً من القوقعة! قال شايفر لنفسه في كل مرة كان الجو جميلاً وكان بإمكانه الكشف عن جرحه لهذه الأرض الكبيرة الشافية.
كان يذهب إلى الشاطئ ليتنفس هواء البحر ملء رئتيه كلما كان بإمكانه أن يسير متعكزاً على عصاه. مضى في ذات صباح في نزهة طويلة شمالاً عبر الكثبان التي تحيط بالبامبا حتى بلغ منطقة الرأس. في وسط شاطئ الكثبان والحصى الأملس الواسع، برز نتوء صخري بين السهل والبحر، مثل قصر معزول من قصور القرن الوسطى، غزته شجيرات سوداء، وأحراش وورود الرمل تسلقته من كل جوانبه. أراد امتحان شفاء ساقه فأخذ في الصعود. ومن الذروة تبيّن ممر البارامو المرتفع، وباتجاه الجنوب تبيّن التموجات الرملية التي تصل إلى مرسى رأس دومينغو البعيد. يضيع المحيط الجنوبي كسهل أخضر شاحب باتجاه مناطق المحيط المتجمد الجنوبي، وسهوب البامبا الصفراء نحو الشُعبِ الزرقاء لسلسلة مرتفعات كارمن سيلفا؛ كثبان الرمل الرمادية تضيق من طرفيها، والزبد الراغي يتخلى عن بياضه على شاطئ الحصى الأملس الفسيح.
لاحظ شايفر فجأة، عندما استدار بنظره نحو المحيط، في وسط الشاطئ المائل إلى الرمادي، شكلاً أبيضاً يوحي بهيكل زورق جانح. أثاره انحناء البدن، لكنه اكتشف أن ذلك كان هيكل حوت كبير نافق أصبح أبيضاً بفعل الهواء والملح.
وجّه نظره من جديد نحو تخوم المحيط وفقاً لطريق الحيتان، ألقى بنظره على الهيكل المُتسمر في وسط الشاطئ الفسيح. ومن ثَم تأمل أطراف حقول البامبا، والجدار الصخري الذي يرتفع باتجاه الرأس، وتموج الكثبان الهادئ، والنتوء الصخري الذي ينطلق نحو الفضاء. “هذا ما كان سيبقى مني، عند هذا الطرف الأخير من العالم”، ظنَّ ذلك لدرجة القلق. ومن ثم استدار عائداً دربه.
*
قَدْرٌ من الإنسانية، الذي منذ زمن بعيد لم يجدد قلبي الرجلين، بما يرحم شيئاً فشيئاً الوجود الذي يعيشانه في هذا المكان النائي من الشاطئ الشرقي لأرض النار.
كانا غالباً ما يذهبان لصيد الفقمة معاً، التي كانت تأتي من بحر الجنوب مع صغارها. كانت جلودها تقيهما من البرد، ويتغذيان بلحم صغارها، التي كانا يقتلانها بضربة واحدة بهراوة على خُطْمِها.
مع زيادة احتضان البيوض، تصبح بيوض النورس نادرة، كما يصبح النورس أكثر شراسة في الدفاع عن أعشاشه. فبينما كان أحد الرجلين يلتقط البيوض، كان الآخر يلوّح بسوط أو عصى لإبعاد الطيور التي كانت تناكف اللصين بشراسة. آلاف الطيور كانت تملأ السماء ناعقة خافقة بأجنحتها، كانت تصبح أحياناً مُهدِدة لدرجة أنه كان على شايفر ونوفاك أن يتوقفا عن جنيهما والاستدارة ظهراً إلى ظهر لمواجهة هجمة ضرب المناقير.
يعقب النورس دجاج الحباري والوز البري التي كانت تأتي على شكل جيوش كاملة، تملاً الكلأ بما لا يُعد من الأعشاش، في كل منها ما لا يقل عن عشرين بيضة، كل منها بحجم بيضة الدجاج، ولها المذاق نفسه. الوز يسهل صيده، لا يمكن الاقتراب منه على القدمين أبداً ولكن على ظهر الحصان.
ساد بين المنبوذين الاثنين تفاهم ودي، كانا يتشاطران طعامهما حول النار، لم يبق لهما سوى حصان واحد. كانا يتنزهان معاً، يعبران الشواطئ والجروف، تحركهما تلك الغريزة المتوقدة للباحث عن الذهب، الذي لا يلقي أبداً نظرة غير مكترثة على الصخور والأرض والرمل.
- لاحظت في يوم سابق هيكلاً لحوت على الشاطئ بقرب الرأس، قال شايفر بشرود. وأنا أفكر بأنه يمكننا الاستفادة من أضلاعه لبناء ملجئ ضد الريح في مواجهة المغارة؛ أي إذا غرزناها على المدخل وعلقنا عليها الجلود، فلن يكون بإمكان الريح أو المطر المرور أبداً.
- سيكون ذلك جيداً ... ولكن هل تخطط لتمضية حياتك كلها في هذه المغارة؟ سأل نوفاك.
- طالما أنه يتوفر الأكل، أظن أننا في حال أفضل هنا ...
- لا رغبة لي في الانتهاء كهندي من هنود الأونا تحت خيمة من جلد الفقمة.
- ولكني أعتقد أنه علينا البقاء هنا.
- لماذا؟
- للبحث عن الذهب.
رفع نوفاك رأسه؛ لأنها كانت المرة الأولى التي لُفظت فيها كلمة ذهب منذ وجودهما هنا، وأصابته الدهشة أن شايفر ذكرها.
- قد تكون على حق، ولكن في مكان آخر من الجزيرة. لقد استملك بوبر كل شيء على هذا الشاطئ، وهو ينوي متابعة فتحه باتجاه الجنوب ... لقد كنت حارسه الشخصي عندما عبرنا الجزيرة للمرة الأولى! كل هؤلاء الهنود الذين قتلناهم! والآن أختبأ في الأرض كجرذ حتى لا أشنق على أحد أعمدته!
- ما كان علينا أن نقف ضده ... يجب العواء مع الذئاب، وعدم العواء ضدها أبدا! ... نطق شايفر بذلك كاشفاً عن الجمرات التي كانت مغطاة بالرماد بين الأحجار.
- لقد ضجرت منه، ومن قيادتي لحراسه لكي يغسل له الآخرون ذهبه بهدوء. توفر له نصف طن من رقائق الذهب والمسحوق في غضون سنتين! وكل هذا من أجل الحصول على بضعة قطع يصنعها بنفسه ويقذف لي بها قائلاً: هذا راتبك أيها القائد.
- كانت من الذهب الأصلي على الأقل وتساوي قيمتها وزنها. وليست مثل تلك القطع الحكومية!
- لكن من أذن له أن يسك قطعه الخاصة به وأن يدفع بها رواتب العاملين عنده؟ وصورته على الطوابع البريدية التي اخترعها؟ وقوانينه الاعتباطية وتلك الميليشيا ذات الزي الرسمي، كما لو أنه ملك حقيقي؟ من الذي منحه هذه السلطة؟
- أنت نفسك ... تحب قيادة الجنود مثلما كنت رقيباً؛ أن تلبس الزي الرسمي لهؤلاء الذين كانوا ينادوك بالقائد. كنت تتصور نفسك جنرالاً. قال شايفر ساخراً.
- فعلت ذلك لكي يحترمنا الهنود.
- بداية كان الهنود، ومن ثم نحن الآخرون، حتى نعمل بلا تململ. نعم لقد ساعدته في هذه المسألة اللعينة، لأنك اعتقدت أنه سيعطيك حصة كبيرة من الغنيمة! ولكنه لم يعطك شيئاً، لذا انقلبت عليه وألقيت بي في المأزق نفسه. من أجل تلك الدمى اللعينة التي اخترعتها وقعنا جميعاً في الشرك! ...
كان شايفر يشير إلى الحيلة الغريبة التي استخدمها “ملك البارامو”، لجعل الآخرين يعتقدون أن “جيشه” أقوى مما هو عليه في الحقيقة، في عيون الهنود والمغامرين الذين كانوا يهيمون بلا انقطاع في تلك الأماكن، يجذبهم توقهم إلى الذهب. لذا صنع نوفاك بنفسه بعض الدمى من القش، تلبس الزي الرسمي للميليشيا وتمتطي سروج الأحصنة، يجرها ويقودها فارس، ببندقية خشبية معلقة في الظهر، على أطراف مناطق بوبر. عن بعد كانت تشبه جنود الخيالة الحقيقيين، ولها ميزة أن الرصاصة تخترقها دون أن توقعها ... “يمكن الظن أن هؤلاء الجنود مرضى ... لماذا يغطون وجهوهم؟” تساءل أحدهم يوماً عندما شاهدها من بعيد وعمل بعدها في مناجم بارامو.
بعد ذلك ببرهة، ألبسها بوبر قناعاً ملوناً مع عشب على شكل خصل شعر. تذكر شايفر، بابتسامة مريرة، أنه بأمر من "القائد" كان عليه جرّ هذه الدمى اللعينة هرولة لكي تبدو أكثر حيوية.
كان نوفاك يرتعد من مجرد التفكير بأنه بسبب هذه الفزاعات، التي اخترعها، هزمت رجاله في معركة ريو بيتا. وبسبب معرفته بالحيلة، فقد قلل من عدد الجنود في المقدمة، وحشد الأكثر في المؤخرة؛ ولكن بدلاً من الألاعيب القشية، شنّ خوليو بوبر ورجاله هجوماً مباشراً، في حين أن الدمى كانت تحيط بالجانبين من بعيد. ارتبك رجال نوفاك ولم يكونوا قادرين على مقاومة فعّالة وبذلك كان الانكسار والهزيمة ...
أسرج شايفر الحصان في الغد واتجه نحو الشاطئ، مقرراً تنفيذ فكرة الحماية من الريح والمطر بالاستعانة بأضلاع الحوت.
عند الاقتراب من هيكل الحوت أخذ الحصان بالمقاومة، متردداً أمام البقايا البيضاء الكبيرة، توقف بعدها تماماً. وعندما همزه شايفر قاوم الحصان بنهزة كادت أن توقع الفارس. ترجّل العجوز بقدميه على الأرض، يربط الرسن ويتجه نحو الهيكل العظمي.
كان حجم العظام ضخماً؛ كانت لا تزال تحتفظ بشكل الحوت الكبير تماماً، يبلغ طولها على الأقل خمسة وثلاثين متراً، يحرض الرأس في الذهن صورة عربة رومانية، أما الصدر فيشبه هيكل قعر مركب، فقرات الذيل تشبه أفعى مرعبة مختفية في الرمال.
تابع شايفر المسير للحظة تحت سقف العظام هذا، ماداً ذراعيه لبلوغه، محاولاً تقدير أبعاد الحيوان المثيرة للدهشة، الذي كانت بعض فقراته مغمورة في الرمال. نظر إلى الأضلاع واحدة فواحدة، خاصة من داخل الهيكل وحاول هزها. كانت متماسكة تماماً. سقطت واحدة منها بتأثير هز جانبي متكرر؛ أخذت الوصلات الضخمة بالانهيار الواحدة تلو الأخرى، إلى أن تمكن العجوز من انتزاع إحداها نتيجة تعلقه بإحدى أطرافها. جفف وجهه الذي تصبب عرقاً وجلس على الضلع، المزروع في الرمل مثل مقعد منحن. كان يريد الاستراحة قليلاً، ومن ثم جرّ العظم الهائل حتى حصانه؛ لربطه بالأحزمة وجره حتى المغارة، إذ لم يكن بإمكانه تثبيته على السرج. على أساس ضلع في كل يوم، حتى اكتمال بناء المأوى سريعاً.
تأمل سترته الجلدية الملقية على الأرض التي كان قد نزعها ليتمكن من العمل براحة. كانت مكشوطة وبريقها البنى لم يبق منه سوى الذكرى؛ كان يراها كما لو أنها قطعة من جلده، هي الأخرى أصابها القشب والتجعد بسبب هواء البحر القوي. “آه! قال في نفسه، سيكون أمراً جيداً لو أن بإمكاننا تغيير الجسد واستبداله بواحد آخر جديد!”
فجأة، تسمرت عيناه مثل عيني قط يشاهد ذنب فأر؛ فركهما جيداً كما لو أنه يحاول الاستيقاظ من رؤيا، ونهض بقفزة بهلوانية، اقترب ببطء، مخدراً بما رآه للتو على سترته. كان ذلك رملاً أسوداً انبعث من الحفرة التي خلع منها عظم الحوت.
وضعه بين أصابعه المرتجفة وتحسسه. غير مصدق عينيه، تأمل ذلك المسحوق الأسود الخاص جداً بوجود الذهب بقربه عموماً. تغدو هذه المناطق المقفرة فجأة بالنسبة لشايفر أكثر الأماكن جمالاً وروعة في العالم.
داعب الجسيمات الثمينة الموجودة في راحة كفه برفق، اقترب من الثقب الذي أتت منه والتي أعاد الرمل غمرها. أخذ يحفر بعزم بكلتا اليدين، كما لو أنه يريد حفر طريق إلى قلب الأرض.
يتجمد فجأة عن الحركة؛ فأصابعه العمياء التي تنبش الأرض تعرفت فجأة على أوكسيد الحديد المغنطيسي ذي الملمس المخملي، هذا الرمل الأسود هو الذي خرّب عمل بوصلات أسطول ناسو، وهي السفن الأولى التي رست خلف رأس القرن.
غرز شايفر يده عميقاً في الأرض، حتى بلغ طرف الفقرة التي انفصل عنها الضلع، حاملاً إلى الهواء الطلق حفنة من التراب. فتح أصابعه بتعبد، وفرد ببطء الجسيمات على راحة كفه كما لو كانت على غربال صغير جداً. اختبر بدقة كل حبة حتى النهاية، ولكن ... لا أثر لأي ذهب، كان حديداً نقياً.
بإيماءة صامتة، كما لو أنه لم يكن متأكداً من أنه لم يكن سوى رملاً، ترك الرمل الناعم يتهاوى من بين أصابعه الذي ستفرقه الريح. ومن حوله يجدد المشهد قبحه بانعكاساته المعدنية، والسماء، بالرغم من الفتحات المضيئة الوجيزة التي تحدثها ريح قوية في الغيوم، كانت تشبه عيناً لا ترحم تتأمل ذلك الواقع.
تابع شايفر الحفر بسكينه وبأظافره، كخلد مرعوب يبحث عن مخبأ. دون توقف إلا لمسح عرقه أو لالتقاط أنفاسه؛ كان يستفيد من تلك اللحظات لتنقية حبات الرمل في يده، التي يقذف بها بعد لحظة، متمتماً غيظاً:
- رمل! ورمل ثانية!
لم يشعر بالجوع ومرور الساعات، بدأ التعامل في منتصف بعد الظهيرة مع ضلع آخر من الهيكل العظمي، ليحظى بالنتيجة نفسها. تتابع الشمس مسارها فوق الفتحات السماوية ومرابض الغيوم، مثل حالة روح العجوز، مسقطة الضوء والظل على الأماكن.
جلس شايفر ثانية على عظم مقوسة للحوت منهكاً، على حافة الهاوية. شعر أن ضعفاً يغشاه مثل ذلك الذي عرفه ليلة اختراق الرصاصة لساقه. نظر إلى سترته الجلدية، بالية مثل ممسحة، مثله هو. ركع من جديد مستجمعاً قواه وعاود الحفر، كما لو أن الأمر يتعلق بحياته.
بدأت كرة الشمس الكبيرة القتال متراجعة أمام الظلمة، عندما كانت الأشعة الأخيرة توقظ أضواء خافتة صفراء على يد شايفر. كانت رقائق ذهب فصلتها أنفاسه على جلده الخشن عن الرمل الأسود!
بقي لفترة طويلة وعيونه محدقة في يده، إلى أن تنتفخ النقطة الأبدية التي كانت معلقة في طرف أنفه وتسقط مبعثرة الغبار الثمين. فرك عينيه، ليس لمسح رؤية مجنونة، ولكن لأنه يبكي. لم تبك عيناه منذ سنوات طويلة.
لامست الشمس خط الأفق، مذهّبة تموجات المنظر الذي تتشكل فيه الحركات الوهمية للشفق الناري. لكن شايفر لم يكن يتأمل انحدار النجم، فقد بقيت الشمس ملعقة بيده، التي يتبعثر منها البريق المتوهج لأنفس المعادن.
*
إذا كان خوليو قد اخترع حصادة الذهب الشهيرة مخضعاً لصالحه طاقة ثور المد والجزر، فإن الطبيعة، على شاطئ أرض النار البعيدة صنعت أيضاً حصادتها الخاصة.
ذلك أن هذا كان ظاهرة طبيعية تماماً. فرقائق وشذرات الذهب المجروفة عادة بمياه الأنهار، تختلط على شواطئ أرض النار بواسطة الأمواج، والمد والجذر القويان اللذان ينزعانها من الجروف والمكامن العديدة في الأطلسي.
وفي إحدى عمليات المد والجزر الكبيرة، حيث غزت المياه الجانب الشرقي لأرض النار، رفع البحر جثة الحوت وتركها تنغرس في الشاطئ. ولكن قبل ذلك، من يعرف كم مرة قام هذا الهيكل الضخم بأضلاعه وفقراته المجوفة بعملية غربلة فريدة وهائلة للمعدن الذهبي.
هذه اللُقية الربانية غيرت بين ليلة وضحاها حياة الرجلين. فشذرات الرقائق الأولى سمحت لنوفاك بالذهاب إلى مرفأ ريو غرناد، في الجنوب، وشراء أدوات مماثلة لتلك التي تُركتْ عقب كارثة ريو بيتا. واشتري أيضاً مؤناً وتبغاً، لكي يغير ما توفره لهما الطبيعة. واشتري أيضاً حصاناً بسرج مجهز لنقل هذه الحمولة.
ولكن النفحة الإنسانية أخذت في التخلي مرة ثانية عن هذين القلبين ...
عندما نظما العمل بفضل الأدوات التي جلبها نوفاك وقررا تقاسم الذهب، حذّر شايفر:
- بحسب المتعارف عليه، لك الحق في الثلث.
- ولماذا؟ سأل نوفاك مدهوشاً.
- لأني أنا من وجد المنجم.
- تسمي هذا منجماً؟ إنه كومة من عظام الحوت التي استبقت الذهب الذي جرفته أمواج البحر!
- أياً كان. فإني أنا من وجد الهيكل وكل ما في عظامه هو ملكي. وكل ما تبقى من الشاطئ هو لك إذا رغبت بذلك، يمكننا استثماره مناصفة؛ لكن هذا، لا! تخيل، يتابع شايفر مثرثراً على غير العادة، أنك وقعت غداً على شذرات وأن عليك أن تتقاسمها معي، لأني كنت أسير خلفك! فهل ستقبل بذلك؟
- هذا ليس ما نحن بصدده.
- بلى!
حملق فيه نوفاك. بطوله البالغ أكثر من مائة وتسعين سنتيمتراً، ووجه المربع بذقنه البارزة، وعيناه الغامقتان الحيويتان، تلفه هيئة حزينة وحالمة.
- إني أُخمّن ما تفكر به، قال شايفر بابتسامة ماكرة: أهكذا تكافئني، أنا الذي أنقذت حياتك! يمكنني أن أعيد لك حياتي إذا أردت! خذها إذاً! ولكن الذهب أمر آخر.
- لا يمكن أخذ حياة، وبالأخص حياة عجوز أبله مثلك! صرخ نوفاك، بمرارة أكثر منه بغضب.
- هذا صحيح، فالحياة لا قيمة لها؛ ولكن الذهب نعم!
خامر ذهن نوفاك المغادرة، كان سيفعل ذلك لو أن القواعد العسكرية لم تعلمه، أنه في مثل هذه الحالات الحرجة، يجب التمهل للتفكير. يجب عدم التخلي أبداً تماماً عن الأرض للعدو. هذا ما كان يريده شايفر، أن يبقى وحيداً والحفاظ على الذهب لنفسه! لذا يقرر البقاء؛ لكن انتهى مناخ التوافق بين الرجلين.
بعد ذلك، كان الرجلان يمضيان القليل من الوقت معاً في المغارة، التي تحسّنت الإقامة فيها بسبب واقية الريح التي أقيمت بأضلاع الحوت وجلود الفقمة. كانا مثل وحشين يكرسان كل طاقتهما لغسيل الذهب من المساء إلى الصباح. يراقبان بعضهما حتى في أبسط حركاتهما، عندما كان الأول يجر المياه، والثاني يهز الغربال، ولم يكونا ليتبادلا إلا كلاماً نادراً مختصراً ضرورياً لوجودهما المشترك، تحت ستارة جلد الفقمة المحشورة بين الصخور.
في نهاية اليوم كانا يتقاسمان الذهب وفق قرار شايفر، بواسطة ميزان ذي كفتين صغيرتين من جلد الغوناق الجاف، معلق بحبلين صغيرين جُدلا من أوتار الحيوان. وإذا صدف أن نفحة خفيفة من الودّ أتت لتحسن العلاقات بين الرجلين، فلن يقوما كثيراً بتوزين الذهب.
فُكك الهيكل العظمي للحوت فقرة فقرة في غضون عدة أسابيع، وقُلِبَ ما حوله ونُبِشَ عن بكرة أبيه. ولم تبق إلا كمية قليلة من الرمل أو الحصى التي لم تخضع لحركة الغربال الإيقاعية، عندما أعلن نوفاك في نهاية أحد الأيام:
- سأغادر المنطقة؛ لن نجد شيئاً بعد الآن.
- نعم، لا يوجد شيء، أقره شايفر.
- بقيا للحظة واجمان، يتأملان كمية الرمل والحصى حول الحفر العميقة التي حفراها، وبقايا هيكل الحوت العظمي المفكك.
- لقد قلبنا الشاطئ كله تقريباً! قال شايفر في إشارة لتعليق نهائي أثناء ابتعادهما عن المكان.
في المساء وزنا كل ما جنياه من الذهب.
- يوجد بحدود كيلوغرام واحد! قال شايفر متسائلاً، بعيون لامعة، وازناً كيسه الجلدي بيده.
- نعم، لم نضع وقتنا، قال نوفاك واضعاً كيسه تحت أغطية الفقمة الجلدية الخاصة به.
أما شايفر فحشر كيس ذهبه في إحدى أكبر جيوب سترته وخرج من الملجأ بخطى كسولة.
كان هذا ما يفعله كل مساء بعد قسمة الذهب. يخرج من المغارة، يمشي قليلاً في البامبا ثم يعود، يخرج من جديد صرته الغامقة من جيبه ويقذف بها عنوة تحت أغطيته التي تلامس أطرافها تلك الخاصة بنوفاك على أرض تلك المغارة الضيقة المحفورة في الصخر.
في الخارج، كان دجاج الحباري والوز قد بدأت تتجمع في جماعات في السهل. في صباح أحد الأيام كان الرجلان يتأملان بشيء من الضيق مجموعة من الطيور كانت في طريقها إلى الطيران، راسمة في السماء مثلثاً كبيراً تتقدمه ثلاثة طيور ذكور. هكذا كانت تبدأ هجرتها نحو مناطق بعيدة، إلى حيث تقود صغارها التي كبرت على عشب أرض النار العالي. مغادرتها تعلن، بتلك الغريزة الحيوانية المؤكدة، اقتراب الثلوج الأولى للخريف.
- علينا أن نغادر، نحن أيضاً، قال نوفاك.
- إلى أين تفكر الذهاب؟ سأل شايفير ببرود.
- نحو الشمال، إلى حيث تذهب الطيور ... الحياة هناك.
- لكنها تأتي للبحث عنها هنا، قال العجوز بابتسامة خفيّة.
- أفكر في عبور مضيق ماجلان، وفي بونتا أريناس، سأركب أول قارب يرفع مرساته. إني مستعد للذهاب إلى أي مكان، بشرط أن يكون نحو الشمال.
- أنا أرغب بالذهاب إلى ريو غراند، ومن ثم سأحاول مغادرة أرض النار. لقد انتهت أيامي هنا، تنهد شايفر.
*
في مساء الفراق خيّم صمت ثقيل على الرجلين. كانا يتعشيان معاً، كما من قبل، قطعة غوناق مشوية مروية بمنقوع المتة. فقد اختفت بيوض النورس والوز منذ زمن طويل. كانا مثل مشلولين، عاجزين عن الحديث أو الاقتراب من النار، التي انحسرت إلى جمرات صغيرة كان الرماد يخنقها، تغذيها كسيرات من شجيرة الماتا نيغرا الجافة ذات الأغصان الهشة والفارغة، وجذوع مساميّة مثقبة كما الفلين، ولكنها مع هذا بقيت حية في سهول أرض النار.
عند هبوط الليل، دخلا مأواهما الحجري بصمت وتمددا للنوم، كما في كل مساء. بعد ذلك، أخذ العجوز يشخر بهدوء، ولكن نوفاك لم يستطع النوم.
أفكار مظلمة بدأت تمر في خاطره؛ كانت تذهب وتعود، ملحّة في كل مرة أكثر قتامة. حاول طردها متذكراً كل المراحل التي كانت قد قادته نحو هذا الطرف من العالم حيث يجد نفسه الآن، مستلقياً في الظلمة. عبر الماضي بقفزات واسعة وبفوضى، وفي ذاكرته كرجل ينتابه الأرق كانت تظهر هنا وهناك مثل إضاءات، الأسباب الخفية لأفعاله، التي كان يعتقدها مغمورة في المياه العكرة للنسيان.
جاء من أوروبا باعتباره رقيباً في المدفعية، مكلفاً من شركة كروب بعرض مدفع في محيط بينوس آيرس، الذي كانت الحكومة الأرجنتينية تريد اقتناءه، والتي دعت للمسألة نفسها أيضاً شركة شنايدر وشركات تصنيع أسلحة أخرى. نوفاك الذي كان يحتفظ من طفولته بحس المراوغة، تصور حيلة تسمح له ببرهان تفوق مدفعه وطلقاته على مدافع منافسيه. تسلل عند هبوط الليل إلى ميدان الرمي وصب الكيروسين على الأهداف المخصصة له. وفي اليوم التالي استنتجت السلطات العسكرية التي كانت حاضرة البيان أن قذائفه لا تدمر الأهداف فقط وإنما تشعل النيران فيها.
بعد ذلك، انجرَّ خلف أحد مواطنيه الذي عرض عليه وظيفة إدارة مزرعة ماشية في لاس هيراس، في الباتاغوني الأرجنتينية. وهكذا وصل إلى الجنوب بأمل فرض النظام العسكري في تربية الماشية. لكن المزرعة كانت صغيرة لا تلبي طموحات الرقيب فريتز نوفاك، الذي كان يتصور نفسه يعيش مثل ملك يهيمن على أراضيه، مثل مديري المؤسسات الكبيرة في الشركات الإنكليزية. لقد كان ألمانياً، وفي المؤسسات الاستعمارية كان الألمان يتلكؤون دائماً خلف الإنكليز.
وفي تلك الفترة وقعت حادثة عند الشواطئ في جنوب المزرعة حيث كان يعمل: قارب من صيادي الفقمة، الذي كان يبحر بمحاذاة التعرجات الشديدة الانحدار لشاطئ الباتاغوني بحثاً عن المدخل الجنوبي لمضيق ماجلان، تفاجأ بعاصفة قذفت به إلى إحدى شواطئ رأس ماجلان هذا الذي أُطلق عليه غابراً اسم العذارى الإحدى عشرة ألف. وعندما حفر الناجون بئراً بحثاً عن الماء، اكتشفوا جزيئات ذهب صاف ممزوجة مع رواسب الوحل. الناجون البائسون أصابهم الحظ وانتشر الخبر كالبارود. هرول المغامرون الأبديون من جوانب الأرض الأربعة بحثاً عن المعدن الثمين. تحول زنجا المنحدر، التي سميّ هكذا بسبب الجدران العالية التي تفصل البامبا عن الأطلسي، بين ليلة وضحاها إلى مخيّم مبعثر يتعثر فيه الأفراد من كل الجنسيات ببعضهم. أحدهم، بجرأته ومعرفته، يتميز عن تلك الكتلة البشرية المكتظة: إنه المهندس الروماني خوليو بوبر، “دون يوليوس”، كما سموه منذ أن فرض شخصيته القوية. وعندما بلغه النبأ، كان بوبر عند أطراف يانغ تسي ترك الصين العتيقة مثل سنونو السلانغ متجهاً إلى الفضاءات البكر في الباتاغوني.
ترك الرقيب نوفاك أيضاً مزرعته وعبر المسافة القصيرة التي تفصل لاس هيراس عن زنجا المنحدر. تم العثور على الكثير من الذهب؛ ولكن ليس بما يكفي حتى لا يكون من الواجب دفاع كلٍ عن محصوله باستخدام السلاح خلال وقت قصير.
راقب خوليو بوبر مضيق ماجلان، كشفت له عينا المهندس أن الشواطئ الشرقية لأرض النار، المواجهة لمنحدر زنجا، لها تشكيل جيولوجي مماثل لذلك الموجود في الباتاغوني.
في حاضنة المغامرين هذه جنّد الأكثر شجاعة وعزماً – الذين أثبتوا فيما بعد بانتفاضتهم صواب خياره – وجهز معهم حملة استكشاف إلى أرض النار. كانوا أول الرجال البيض الذين عبروا الأونازان، أرض هنود الأونا، الذين قتلوهم وأحرقوهم، ولم يتركوا خلفهم سوى الجثث كعلامة متحضرة.
منذ أن اكتشف ذهب البارامو، نظّم بوبر، بعد أن خَبِر جيداً زنجا المنحدر، ميليشيا مسلحة، أوكل قيادتها إلى الرقيب الألماني السابق فريتز نوفاك، المهيأ مسبقاً لهذا الدور.
لكن ما الذي كسبه نوفاك في كل هذه الحكاية؟ لا شيء أكثر من وجودٍ قلقٍ وخطر، مخصص لحماية وجود سيده! ذلك أن بوبر لم يكد يقم جيشه الصغير حتى أعلن نفسه “ملك البارامو”. ونوفاك الذي كان الثاني بعده، يختبئ الآن كالجرذ بين الصخور!
كانت ترتسم صورة الروماني بوضوح في نفسه: جبهته العريضة، وجهه الأبيض المزرق، تزينه لحية محمرة، وأنف أفطس قليلاً وعينان خضراوان ترشق نظرات متجمدة. صوت مستبد يكمل شخصيته الطويلة القوية.
بدا له أنه لا يزال يسمع ذلك الصوت، مصحوباً بنظرة براقة، عندما كان يخطب أمام عسكره، حيث كان نوفاك يقف إزاءه وقفة الاستعداد العسكري كقائد كامل: “أيها الجنود! القوتان المحركتان للمجتمع هما الجوع والخوف من السجن، مثل قطعة اللحم والهراوة أمام الكلب! ونحن لا شيء أكثر من ذلك! نحن بحاجة إلى أن نأكل، لأن ندافع عن حياتنا وأن ننجب في أرحام النساء! ... الجوع يرغم الرجل على الغذاء والخوف من السجن يرغمه على العمل حتى لا يسرق طعامه اليومي. المعدة الخاوية هي دافع كل جهد! ولكن على الرجل أن يتجاوز نفسه وألا يبحث إلا عن خلاصه هو! تأملوا هذا العلم! إنه الراية البيضاء للعدالة التي تقود سلاحنا، تأملوا زرقة السماء التي تحمي خطاكم! الأعمال البطولية ترتقي بكم دائماً فوق فظاظة الغنى المادي!” .
إن فهموا ما كان يقوله أو لا –أو ما كان يكتب على مشنقة المنشقين- فإن الواقع هو أنهم جميعاً، ونوفاك نفسه، كانوا يشعرون بأن حضور هذا الرجل وكلامه كان يسيطر عليهم.
“فلسفة مزعومة!” فكر نوفاك وهو مستلق في العتمة. “البطولة والمشاعر العالية للشغيلة، والثروات للسيد! آه، الوغد!” تمتم متذكراً المشهد الأخير عندما امتشق سيفه، مع انتهاء الخطاب، وصرخ مع العسكر: “معكم نعيش؛ ومعكم سنموت!”.
كرر بنفسه هذه الجملة التي طلب بوبر فرضها على الجنود لكي يكون لهم ذلك بمثابة قَسمٍ خاص بالرئيس ... “معكم نعيش؛ ومعكم سنموت!” ... أصدر تنهداً عميقاً، ممزوجاً بالغيظ والشفقة على نفسه. لم يكن سوى أحمق مسكين، استُخدم لإرهاب من كان أكثر غباءً منه! تلاعب به الروماني مثل دُماه المحشوة بالتبن التي كانت تخيف الهنود وكل أفاّقي البامبا. كانت الحياة إذاً هكذا؟ الجوع والسجن لكي يعمل الرجال وألا يسرقوا؟ هل كان باعث الجهد هو المعدة الخاوية حقاً؟
وفي وسط الليل هبت ريح الغرب بعنف؛ كانت الهبات تصفّر على عظام الحوت عند مدخل المغارة، انفكت قطعة من جلد الفقمة وأخذت في قرع الواقي قرعات ثابتة، كطبل بين أعضاء الحوت.
أيقظ الضجيج شايفر. أصدر صرصرة وانقلب على غطائه الجلدي. وبعد لحظات واصل الشخير.
هل يمكن أن الحياة كانت هي نفسها في كل مكان؟ يتساءل نوفاك بصمت. ألم يكن لها، كما في أرض النار، أن قامت مع جيش آخر أكثر قوة يمارس القهر، هو الآخر، بالضرب والقتل، شعباً من الجياع الذي كان يهدد الأغنياء؟ وفي مناطق أخرى، كم من جنرالات مطيعين بالسمع والبصر لمنابر مخادعة! كم كانت الأشياء سهلة فجأة: قطعة من الخبز وهراوة لتعليم الكلب كيف التصرف! لم يكن الإنسان أكثر من هذا! ولما لم يفهم هذا من قبل؟ كلمات بوبر البراقة! كان يجب الاعتراف بأن بوبر كان حيوياً وذكياً! ولكي يصبح ثرياً، عرف كيف يكون سيّداً للطبيعة والبشر! فقد روّض البحر بفضل عبقريته، والرجال بواسطة المشنقة والفزاعات.
لكن ذهب بارامو كان هو نفسه في كل مكان! نبحث عنه بجشع، هذا المعدن الأصفر، لكي نتمكن من التغذي بلا حاجة للعمل أو الذهاب إلى السجن؛ كان يشتري الحب والسلطة. وبما أن الرجال يتغيرون منذ اللحظة التي كانوا يمسكون به بأيديهم ...
ألم يكن هذا ما برهنه هذا العجوز البخيل الشخّير؟ بالكاد كانت أصابعه قد التقطت قليلاً من الذهب حتى غدا بوبراً صغيراً طماعاً. وهو الذي رعى حياة الواحد بقدر حياة الآخر يجد نفسه بين عشية وضحاها يُعامل ككلب!
توقف فجأة عن لعن الآخرين وواجه نفسه. ألم يرغب هو الآخر بالذهب؟ ألم يحدث أنه قتل هنوداً من هنود الأونا ليقطع آذانهم التي كان يبيعها لمربيي الماشية الذين كانوا قد استقروا في براري أرض النار؟ كان يتقاضى جنيهاً استرلينياً عن كل زوج من الأذن! تذكر مذبحة في الهضاب، وراء رأس دومينغو. وصيد الهنود الذي قبل المشاركة فيه، مثل نزهة جميلة، عندما اقترح عليه أحدهم ذلك، عندما كان مخموراً في حانة قذرة في ريو غراند. كان هنود الأونا عائدين من الشواطئ، مع نسائهم وأطفالهم، محملين بالغاق والبطارق، عندما هاجمهم نوفاك ورجاله، الذين كانوا مختبئين خلف صخرة عالية، بلا رحمة. لم يكن الهنود مسلحين؛ سقط العديد منهم بالرصاص. أحدهم كان يافعاً؛ تذكر جلد جسده العاري، لأن سترته التي كانت مصنوعة من جلد الغوناق سقطت. لم يجرؤ على تأمل وجهه عندما قطع أذنيه ... كان يلعن نفسه مرة ثانية لارتكابه مثل هذه الأعمال، الأكثر قتامة في حياته، المخبأة في أعماق ضميره، التي حاول على مدى أيام عديدة نسيانها بتناول الكحول الذي كان يشتريه بما جناه من مال على جريمته!
توقف شايفر عن الشخير واستمر نَفسَهُ الصاخب في ضبط إيقاع نومه الهانئ. يتقلّب نوفاك محاولاً رؤية وجه العجوز في الظلمة، ولكنه لم يميز إلا كتلة جسده الممددة تحت السقف، تشبه أجساد الهنود الذين كانوا ممددين على العشب عقب المذبحة ... تثير هذه الذكرى القشعريرة فيه، ولكنه اختلج بما هو أكثر عندما أدرك أن روحه تراقب ظل شايفر النائم، الذي يتنفس بثقل ... ألم يصبح العجوز البخيل نفسه أيضاً ظلاً؟ هل كان يساوي أكثر من هندي؟ بالتأكيد تماماً، ذلك أنه بالرغم من كل شيء، فقد كان الهنود كائنات بشرية ... "بالنسبة لبوبر، كان الهنود في مرتبة ثانية بعدنا"، كما قال شايفر يوماً ... وهذا الغبي العجوز أعطاه يوماً حصة من الذهب ... الذهب الآن في متناول يده ... باستطاعته أن يسلبه إياه. كان العجوز أضعف منه، وإذا قاوم ... أي أهمية لذلك فقد كان لا يساوي شيئاً، أقل من هندي، هو بالكاد ظل يتنفس في مغارة ...
بحث نوفاك عن سكين كان قد خبأه تحت وسادته واستله ... لن يرى وجهه، سيكون أسهل من قتل الهندي الشاب ... توقف مفكراً، السكين بيده؛ كان من الصعب التقرير ببرودة ... كان قد سمع أن المجرمين بالولادة يقتلون وهم يغشاهم الكرب... في نوع من الدوار الذي لا يمكن إيقافه... لكن هو، لا؛ شعر برضى وسلام، لم يكن مجرماً. لوّح بالسكين ببطء ...
كانت الريح تضرب جلد الفقمة المشدود من جديد على أضلاع الحوت وتغرق مُصفّرة بين الصخور ... أوقف نوفاك حركته؛ لا يرى العجوز، ولكن يسمع أنفاسه المتحشرجة. لا لم يكن ظلاً ولكنه كائن حي، ينام متأوهاً، كما وجده في تلك الليلة، ممدداً في قلب حقول البامبا، بعد أن أوكل حياته لذاك اللعين سبيرو ... حياته، التي أنقذها، مقدماً له حصانه ومجففاً جراحه ... الحياة التي كان يتردد أن ينتزعها منه في تلك اللحظة بسبب الذهب ... خفض ببطء مقبض السكين حتى لامس جبهته التي طرقها مرات عديدة كما لو كان يطرق أسكفية باب، منادياً، باحثاً بلا أمل عن شيء ما مفقود ... ومن ثم فرك عينيه في الظلمة، كما لو كان يريد التخلص من بيت عنكبوت، أبعد السكين عن جبهته، ومزق الظلمة بضربة سكين يائسة ...
- ما الذي يجري؟ تساءل شايفر نصف النائم، منتصباً فجأة على مرفقيه.
بقي نوفاك صامتاً يتنفس كما لو كان نائماً. لم يجبه بأكثر من خبط جلد الفقمة على أضلاع الحوت الذي أيقظه، وأجابته الرياح بنشيدها في تجاويف الحجر. عاد العجوز إلى وساده وعاود الشخير؛ بعد فترة من الوقت كان من الممكن سماع شخير آخر بجانبه، هانئاً ومتطاولاً، كما الضجيج الذي يصدر عن إيقاع مجدافين على مياه ملساء.
*
نهض الرجلان في الغد باكراً لسرج حصانيهما؛ تقاسما بمحبة أمتعتهما وسارا نحو جبال كارمن سيلفا.
- إني ذاهب إلى الميناء، قال شايفر عندما وجدا الطريق الذي يقود إلى الجنوب، إلى ريو غراند.
- أنا ذاهب إلى ريو ديل أورو، قال نوفاك، مشيراً إلى الشمال الغربي بحركة واسعة بذراعه، كما لو أنهما يتصافحان قبل افتراقهما، أضاف: انتبه لمحفظتك، هذا كل ما تبقى لديك في هذه الحياة!
- إنها الحياة ... قال شايفر بلهجته الباردة والقاطعة.
من ثم هرول كل منهما في جهته؛ فلم تعد الهزيمة تلاحقهما.
قبل أن يغيب كل منهما عن بصر الآخر مع اقتراب هضاب كارمن سيلفا، ألقى نوفاك بصفرة وداع طويلة. استدار شايفر على حصانه ورفع ذراعاً متراخية في إشارة إلى تحية وداع.
تابع بهرولة غير آبهة طريق الجنوب الذي يتشعب بين الهضاب الوادعة وحقول البامبا. أوقف بعد ذلك حصانه، وكثعلب عجوز، أدار رأسه باتجاه الجبال. وتفحص المشهد لفترة طويلة؛ ومن ثم استدار بحصانه باتجاه ذلك المكان الذي تركه هو وصاحبه، فهو من الآن فصاعداً، محمي بالمرتفعات التي كانت تخفيه عن أية أنظار تأتي من تلك الجبال.
عندما وصل إلى قرب هضبة الصخور حيث كانا يختبئان، جال بناظره مرة أخرى في كل ما هو حوله، وضع قدماً على الأرض وأخذ في البحث في وكر مهجور لفأر الأرض. مد يده في الدهليز الذي حفره القارض الصغير، ومن ثم مد الذراع حتى وصلت إلى سحب كيس من الجلد مغلقاً بأوتار الغانوق. فتحه ولمعت عيناه سعادة لمشهد شذرات ورقائق الذهب الموجودة فيه.
- الأرض هي أفضل مخبأ لك دائماً! متمتماً. أعاد إغلاق الكيس بعناية ووضعه في جيب سترته الجلدية. ثم أخرج من جيبه الأخرى كيساً مماثلاً في كل شيء لذلك الذي أخرجه للتو من الأرض، فتحه وتأمل محتواه ثم نثره حوله منفجراً ضاحكاً وصارخاً: غبار! غبار! ...
بعثرت الريح فوق البامبا هذا الظل الأسود للمعدن الثمين.
ركن صرته الفارغة، التي موّه ملئها بالذهب لخداع نوفاك، امتطى صهوة حصانه وغادر عدواً نحو المسار الذي يقوده إلى ريو غراند.
يشق السماء طيران هائل من طيور الوز البرية بآلاف من أجنحتها الرمادية قادمة من الجنوب؛ وعند مرورها فوقه، فارقت إحداها السرب وأتت للوقوف ببطء، كورقة خريف في وسط الأعشاب. ظهر في الحال أربعة أو خمسة طيور جارحة أخذت في تنغيص الطائر التعب. هاجمت الطيور الوزة المعزولة التي كانت تدافع عن نفسها يائسة بأجنحتها الكبيرة الرمادية ومنقارها الأصفر الذي يشبه الملعقة. بالرغم من عددها، تراجعت الكواسر مذعورة، تراقب فريستها عن بُعد بعيونها الحمر والباردة. ثم عاودت الكرة في عاصفة من المناقير والأجنحة لتأتي على الطائر العجوز المتروك لوحده.
ترجّل شايفر عن حصانه بعد أن توقف لمراقبة المعركة واتجه نحو الجثة. أخذها وربطها من ساقيها بأربطة السرج.
- لا أحد يعرف لصالح من يعمل، رمق الجوارح التي كانت تنظر إليه عاجزة، تنبش الأرض بأظافرها وتنفش ريشها.
امتطى حصانه وبهرولة متكاسلة لينكفئ نحو الجنوب، أما نحو الشمال فتلاشت غيوم الوز البرية، كقطعة من بامبا أرض النار هاربة من برودة قارسة لشتاء كان وشيكاً.
[1] نوع من اللاما البرية (المترجم)
[2] طائر من طيور أمريكا اللاتينية يشبه البجع (المترجم)
[3] البامبا هي وسط طبيعي يتكون من البراري والسهوب والأجمات الصغيرة، وهي سهول خصبة مكسوة بالعشب وبلا أشجار (المترجم)