في أخلاقيات العلم
والتكنولوجيا
نور الدين شيخ عبيد
يبدأ الاكتشاف
العلمي بالرغبة في الإجابة على سؤال، وعند بلوغ هذه الإجابة لا يقف العالِمُ ليسأل
نفسه عن استخداماتها الممكنة أو تأويلاتها المحتملة. فهي، قد تحمل الخير دون شيء
آخر، وقد تحمل في كوامنها عواقب سيئة، وربما بالغة السوء. ومع انتقال علاقة العِلْم
بالعَالَم من التعرّف عليه إلى جنوح متزايد بالسيطرة عليه، وكذلك مع العلاقة
القوية بين العلم والتكنولوجيا، وتعدد أصحاب المصالح من اقتصادية وسياسية
واستراتيجية، أصبح العلم في أغلبه استجابة لتلك الرغبات وهذه المصالح. وهي مصالح
لا تأخذ بالضرورة العواقب، خاصة الاجتماعية والحياتية، بالحسبان دائماً.
كان العِلم والعالِمُ حتى وقت قريب حبيسي مخبرهما، وليس
لنتائج الأبحاث دائماً أثر بيّن على المجتمع في حركته وتفاعلاته. لكن العصر الراهن
وضع العِلم والعالِمَ التكنولوجيين في صدارة مجرياته التي تطال العَالمَ بمجمله. وهي
مجريات لم تهدف بالتأكيد إلى الإساءة للحياة، ولكنها لم تتساءل طويلاً عن احتمالات
الانفلات التي تخبئها بما قد لا يمكن السيطرة عليه. ومنه ضرورة السيطرة على هذه
المجريات وضرورة ضبط حركتها بمواثيق وقواعد وقوانين.وهذا الضبط يستدعي بالضرورة
تصدر مجتمعات اليوم للموقفبأن تكون لها الكلمة الأولى في مجالات ومآلات البحث
العلمي التكنولوجي، حتى يبقى للإنسان السيادة، سيادة نفسه، ولا يتحول إلى غرض في
عالم تحكمه التكنولوجياقراطيا مُضيّعة معها كرامته وحياته واستدامتهما.
مدخل: العلم والتكنولوجيا والمجتمع
شاغل الإنسان الأول، ككل كائنات الأرض، هو البقاء. وهو
شاغل ساقه إلى تحسين وسائل الحصول على الطعام واختراع أدواته الأولى من حجارة
شذّبها، ونار سيطر عليها وتعلم آليات توليدها. وفي هذا ومعه، أتقن إلى حد ما،
سيطرته على الوسط الذي يعيش فيه. وفي وقت لاحق مع استقراره في قُراه ومدنه،
وقبلهما ربما، سعى إلى الإجابة على أسئلته الأولى: كيف ولماذا، فنشأت معهما العلم
والفلسفة والعقائد. العلم الذي حاول الإجابة على سؤال الكيف والسبب والأثر، مولداً
بذلك المعرفة. والفلسفة التي تساءلت، من بين مواضيع أخرى، عن حقيقية
"حقائق" العلم. وصاغت العقائد أجوبة ثابتة على تساؤلات الإنسان وكيفية
بناء مجتمعاته.
طوّر الإنسان معرفته وتطوّر معها، ولكنه لم يسأل نفسه
أبداً عن الكامن البعيد في نتائجها، من حسن أو سيئ. وفي الحقيقة فغالباً ما كان
لها وجهان: حسن، وآخر حيادي أو سيئ. فالحجارة التي صقلها وصنع منها أدوات للصيد،استخدمها
سلاحاً على شكل هراوات ورماح. وفي مسيرته تعلم الزراعة، وهي فيما يُعتقد اليوم
أنها الأصل الأول في الإساءة إلى البيئة، ولكنها حالياً وسيلته الأهم في إطعام
أفواه مليارات البشر. والمعرفة في مجملها ونهايتها جعلت الإنسان يتحول من طلبها
لفهم وإدراك ما يدور حوله، وفي وسطه، إلى طلبها للسيطرة على وسطه وعالمه، وهو أمر
مشروع ربما ولكنه بحاجة إلى إطار حتى لا تفقد الطبيعة طبيعتها بتوازنها القلق.
وبحسب الأسطورة الإغريقية، فهذا ما كان يخشاه كبير آلهة
الإغريق زيوس، الذي أناط ببرومثيوس وأخيه خلق الإنسان ومنحه سبل العيش، ولكن
برمثيوس أدرك ضعف إنسانه في مواجهته الطبيعة فمنحه النار وعلمه التعدين والصيد
وغير ذلك، فما كان من زيوس إلا أن عاقبه على ذلك رابطاً إياه بسلاسل حديدية على
صخرة جاعلاً عذابه أبدياً بأكل الطير لكبده الذي لا يتوقف عن النمو، ومعه لا يتوقف
عذاب برومثيوس. وفي ذلك يقول الفيلسوف هانس جوناس في افتتاحية كتابه "مبدأ المسؤولية،
أخلاقيات الحضارة التكنولوجية"، "لقد أُطلق العلم الذي يحرّضه الاقتصاد
عنان برومثيوس نهائياً مانحاً إياه قوى لم يُعرف لها مثيلٌ سابقاً، وهو أمر تتطلب
مواجهته أخلاقيات صارمة متفق عليها بحرية، لتمنع قوة الإنسان من أن تصبح لعنة عليه"[i].
العِلْمُ، كما تعرّفه المعاجم، هو البحث المنهجي عن
القوانين التي تحكم الطبيعة كما تبدو لنا. له الدور الأول في فهم مجريات العالم
ودقائقه. أما دوره الاجتماعي الأول فكان تفسيرياً بالدرجة الأولى، وبقي على ذلك
لفترات طويلة. وهو دور متغير مع العصور والحضارات. تحوّل مع الزمن من علم للاستكشاف
إلى علم يستجيب لحاجات، في الصحة والعمارة والاقتصاد عموماً. أدت هذه الاستجابة،
التي أصبحت حاضرة جداً منذ القرن العشرين، إلى اندماج العلم بالتكنولوجيا وتطورهما
معاً، وظهور العلم التكنولوجي. وهذا أدى إلى تحول في وظيفة العلم الاجتماعية.
يشارك العلم في التطور التكنولوجي، ومن ثم يشارك في
التطبيقات وإقامة التجارب اللازمة للوصول إلى هذه التطبيقات. مانحاً الإنسان بذلك قدرات
لا سابق لها في تاريخه وممكّناً إياه من السيطرة على أمور عديدة عبر مجالات
البيولوجيا، والأدوات العالية الدقة، والمتناهية في الصغر، وسبر الفضاء، وغيرها.
وأصبح العلم بذلك في صميم المجتمع، حاملاً إليه مخاطر اكتشافاته، وهي مخاطر تهدد
المجتمع وحياته. وهو أحد أبرز المساهمين في مجتمع المخاطرة المعاصر كما يُعرّفه
أولريش بيك[ii]. مع ملاحظة أن العيب ليس
فيه (العلم) وإنما في كيفية استخدامه استذكاراً لملاحظة أرسطو بأن السكين أداة
حيادية، واستخدامها هو الذي سيجعلها أداة مفيدة أو قاتلة. الأمر ليس بهذه البساطة
والحديّة بالتأكيد، وإنما العيوب تتسلل شيئاً فشيئاً إلى صدر المؤمن بآليات
التداعي الاستحسانية المتدرجة، وتسويغات أصحاب المصالح على اختلافها.
يشارك العلم بموقعه الحالي، وإن بطريقة غير مباشرة، في
القرارات السياسية، كما كان الحال في جائحة الكوفيد الأخيرة، وكذلك عن طريق
مساهمته المباشرة في الاقتصاد والدفاع والطاقة. ففي خيارات الطاقة مثلاً له الكلمة
الأولى، ولا يمكن للسياسي التحرك خارج إطار الرأي العلمي. أي أن العلم لم يعد
أمراً مرمياً في زاوية من الملعب يتحفنا بين وقت وآخر بما توصل إليه، ولكنه أصبح
لاعباً مهماً ننتظر منه المساهمة الأولى في تحقيق الفوز.
وليس في هذا اتهام للعلم والعلم التكنولوجي الذي يهتم
أولاً بإيجاد حل للمسألة التي يواجهها، وهذه وظيفته الأولى، فهو لا يبحث ولا يريد
قطعاً الإساءة لمجتمعه أو وسطه. فهو لم يتعمد اكتشاف لا مركزية الأرض كما صاغها
كوبرنيق، وهزّ الإنسان ومجتمعه بارتدادات لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، وكذلك
اكتشافه للتطور الدارويني الذي شكل رضاً لم يُشف منه حتى الآن. فمثل هذه الآثار
ظهرت لاحقاً ولم يكن له أن يتنبأ بالصدوع التي سيحدثها. كما أنه لم يكن يدرك
الفظاعة التي ستحدثها القنبلة النووية عندما اكتشف الذرة والطاقة المكتسبة من
انشطارها أو اندماجها. ويومها لم يسأل العلم نفسه عن حسن أو سوء اكتشافه وإنما عرف
ذلك لاحقاً فاتخذ موقفاً عبر ممثليه أمثال راسل وآينشتاين لتحذير العالم من مغبة
استخدامه في إعلانهما[iii]
الشهير.
وبالرغم من أن العلم في الوقت الراهن، يثير إعجاب وحماس
الناس بإبداعاته وابتكاراته، ولكنه يثير مخاوفهم أيضاً، وهذا أمر لم يكن كذلك في
الماضي أبداً.فمخابر الأبحاث البيولوجية، حتى الحصينة منها، تثير الرعب بما تخبئه،
ومن ثم بما لها أن تبثه في الوسط حولها عن غير قصد. وكذلك المخابر النووية
وإشعاعاتها، وحتى المحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، في بقاياها المشعة
واحتمالات عطبها.
وفي هذه البيئة المحفوفة بالمخاطر استدعيت فلسفات
الأخلاق، وتشكلت فرق أخلاقيات متعددة الاختصاصات في العديد من الدول لمواجهة
المخاطر السلبية المحتملة وتحديد المتاح والمقبول من دونه[1].
أخلاق
وأخلاقيات
تستخدم اللغتان الإنكليزية والفرنسية كلمتي moral و Ethics للتمييز بين
أمرين أشارا في الأصل إلى الشيء نفسه ولكنهما تباينا في الاستخدام المعاصر.
فالكلمة الثانية إغريقية والأولى هي ترجمتها إلى اللاتينية. الأولى، نترجمها في
العربية إلى الأخلاق، وهي ما يعبّر عنه بقول إلزامي يأمر بالفعل الحسن، كمساعدة
المحتاج، وهو قول مصدره قيم مطلقة غير محدودة بمكان أو زمان عموماً، على شكل وصايا
وواجبات تجيب على سؤال: ماذا عليَ أن أفعل لكي أبقي على الفضيلة وأحترم القيم؟ أما
الثانية فنترجمها بالأخلاقيات، بمعنى أنها تتضمن معايير تضبط الفعل بإطار أخلاقي.
وهي ليست إلزامية حتمية. وجهتها الخير وتحاشي الشر بالتأكيد. وهي ضرورة نسبية، تخص
المكان والزمان. تعتمد على المعرفة وتتضمن خيارات تراتبية، وتجيب على سؤال، موجه
للفرد أو للجماعة: ماذا سنفعل بخصوص هذا أو ذاك؟ فالتبغ كما هو معروف ضار بالصحة،
فماذا على المسؤولين عن مدينة صغيرة أن يفعلوا عندما تتقدم إليهم شركة باقتراح
بناء مصنع سجائر سيوفر عملاً لمئات من أهل مدينتهم العاطلين عن العمل؟ عليهم قبل
الرفض الاجتماع وتدبر الأمر من مختلف جوانبه للوصول إلى قرار مناسب. وفي مواضع
اليوم، فهل زرع بيضة مُلقحة لزوجة لا تستطيع الاحتفاظ بها، في رحم امرأة أخرى هو أمر
حسن أو لا؟. تسعى الأخلاقيات إلى حياة متوازنة وتبلغ ذروتها مع بلوغ الحكمة. وإن
شئنا الإيجاز فالأخلاقيات هي أخلاق الفعل العقلانية مع احترام حقوق الآخر الذي
يشاركنا الحياة نفسها.
والأخلاقيات
بهذا أشمل من الأخلاق في أنها تساءل الجماعة، كما الفرد، عما العمل إزاء إشكالية
ذات خلفية أخلاقية تضع مبادئنا التي تصنع معنى لحياتنا أو القواعد التي علينا
احترامها موضع اختبار. وهي إشكالية لا جواب مباشر عليها وإنما تتطلب محاكمة
عقلانية بخلفية أخلاقية، أي أن الأخلاقيات هي طريق تحليل وقرار للعيش الحسن[iv]. سنستخدم في كل ما يلي
كلمة أخلاقيات بالمعنى الآنف الذكر.
قد يكون مغرياً تسمية الأخلاقيات بعلم الأخلاق لأنها
تعتمد المحاكمة المنطقية، ولكنها لا تشبه العلم المعروف كالفيزياء والكيمياء
وغيرهما في أبعادهما النظرية وإمكانيتهما في التوقع والتنبؤ، ولكنها تشبههما في
أنها تُبنى على التجربة العملية الواقعية، وأنها تسعى إلى تغيير الواقع بتابعية
هذه التجربة وتحويله إلى عالم أفضل. كما أنها ليست عميمية universal بالضرورة،
فالموت الرحيم ممكن بشروط في سويسرا، ومرفوض من حيث المبدأ في دول أخرى كثيرة.
بعض ملامح الأزمات الوجودية الراهنة
عرفت البشرية عبر تاريخها أزمات مختلفة في الطبيعة
والمنشأ. تمكّنت من مواجهتها بطريقة ما دون أن يتعرض وجودها لخطر عظيم مثل الذي تعيشه
اليوم. وبما أن هدف هذا الفصل هو ضبط العلم التكنولوجي بأخلاقيات تحصره في إطار
مرضٍ، لذا سنبقى ضمن حيز الأزمات الوجودية الناشئة عنه. وهي أزمات لا تقل عن غيرها
وربما تفوقها، وقد تودي بالحياة على الأرض. فالآثار البيئية، وخاصة ارتفاع درجة
حرارة الأرض الناتجة أساساً عن مخلفات التكنولوجيا، والتي تقول التقارير[v] بأن كوكبنا سيصل إلى نقطة
اللاعودة إن لم نتمكن من قلب التوجه الحالي في السنتين القادمتين. كذلك الأمر في
الذرة وما نتج عنها من أسلحة لها إن استخدمت أن تمزق الأرض، خاصة في أجواء التوتر
السياسي السائدة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. كما أن للتكنولوجيا
البيولوجية، من استنساخ وتعديل في المورثات وغيرها، أن تضع المجتمع الإنساني أمام
أوضاع تتعارض وقيمه المبدئية مع ما يترتب عن ذلك من شروخ نفسية وقانونية ومستقبل
مجهول. وأخيراً وليس آخراً، الذكاء الصنعي وما يدور في فلكه من إنساليات (روبوتات)
وبرمجيات أن تضع مجتمعات العالم، مع ما تقدمه من خير، أمام تحديات كبيرة يصعب تقدير
عواقبها الآن، أقلها فقدانه لسيادته على نفسه.
هناك مجالات أخرى، لا تمثل أزمة وجودية بالمعنى الكامل
ولكنها تسبب قلقاً وجودياً على الأقل، قد تحملنا على العيش في مجتمع إنساني غريب
عن كل ما عرفناه حتى الآن. فالتكنولوجيات المعاصرة، خاصة تلك المحيطة بعالم
الاتصالات والمعلومات وما دار في فلكها، لها أن تجعل منا آلات "بشرية" فاقدة
لخصائصها الإنسانية. فالمعلومات الهائلة التي تُجمع في كل مكان عن الناس، في
المجتمعات المتقدمة على الأقل، وتقاطع هذه المعلومات، ستجعل مراقبة وملاحقة أي شخص
ومعرفة كل تصرفاته تصبح معها رواية جورج أوريل "1984" حقيقة قائمة، بل
طبيعية. فإنترنت الأشياء مثلاً، البريئة جداً، يمكن سبر حواسيبها لمعرفة إن كان
فلان من الناس يعيش لوحده في يوم محدد أو لا، من مجرد معرفة مستهلكاته في ذلك
اليوم. وبرامج العمل التي تسمح لإدارة أي شركة أن تراقب إنتاجية كل شخص ومقارنتها
مع إنتاجية أقرانه ومع إنتاجيته هو نفسه في يوم مضى بما يتيح للإدارة أن تحسب
سكنات وحركات كل شخص من مرؤوسيها.
وصلت تكنولوجيا التعرف إلى الوجوه إلى مستوى عال جداً
تتيح التعرف إلى أي شخص بين عشرات الأشخاص ومتابعته بما لا يمكن إخفاءه. وهذا غيض
من فيض سيجعلنا نعيش في عالم مراقب، وهي مراقبة لصالح سلطات تدير حياتنا بما يجعل
التكنولوجيا تمارس "دكتاتورية" مطبقة على الناس ومجتمعاتهم بما يصعب
تقدير عواقبه.
وصعوبة تقدير العواقب الآن، كما كان الأمر في الماضي مع
الذرة مثلاً، تجعلنا مرغمين على التنبه إلى ضرورة وضع إطار ذي خلفية أخلاقية تساهم
في ضبط حركة العلم التكنولوجي بما يضمن استمرار الحياة، حياة تحافظ على الكرامة
الإنسانية وعلى الوسط الذي تجري فيه هذه الحياة. السبب أو الأسباب التي أدت إلى
هذا الوضع من حيث ضرورة حضور الأخلاقيات كمراقب للعلم التكنولوجي الراهن تعود بحسب
بعض الفلاسفة[vi]
إلى الحجم الكبير للمعرفة التي يوفرها العلم التكنولوجي حالياً، وبدون معرفة جلية
بالعواقب المتأتية عن نتائجه وأدواته. وهي معرفة لا يمكن لأحد ادعاء الإحاطة بها
وربطها بعضاً ببعض بهدف توقع ما يمكن أن تقود إليه من حسن أو سيء.
من جهة أخرى فإننا نطرح على أنفسنا اليوم أسئلة تخص
مستقبل الجيل القادم، وحتى الأجيال التي لم تولد بعد، وهو أمر لم تعرفه العصور
السابقة، وهذا يجعل من مسألة الأخلاقيات مسألة مركزية. نقطة أخيرة تشير إلى أن
المسائل الأخلاقية كانت تمس الإنسان أولاً وأخيراً، لكننا اليوم ومع إدراكنا
للترابط العضوي مع محيطنا الطبيعي مما استدعى أن يشمل تفكيرنا الأخلاقياتي أمور
الطبيعة بمجمل مكوناتها.
الأخلاقيات والعلوم التكنولوجية
وبما أن للعلم التكنولوجي اختصاصات متباينة، إذاً يمكن
للأسئلة الأخلاقياتية أن تتغير وفق مواضيع العلم التكنولوجي. ففي حالة العلوم
الطبيعة كالفيزياء والكيمياء، التي انتقلت من محاولة فهم الطبيعة إلى استغلالها
بفعل الدوافع الاقتصادية، تكون الأسئلة إما قبل الشروع في تنفيذ العمل كما هو
الحال في إقامة مفاعل نووي لإنتاج الطاقة الكهربائية حيث تطرح أسئلة ترتبط
بالخيارات الممكنة وعن أفضلها، والجواب هنا أخلاقياتي (البدائل التكنولوجية
وعواقبها الخاصة بالأمان والموثوقية واحتمالات الخطر واتساع مداه إن تعرض المفاعل
لحادث ما) وسياسي. وقد يكون التساؤل الأخلاقياتي سؤال لاحق حول التبعات التي
ستكتشف بعد إنجاز العمل حيث ستظهر أسئلة مثل أسئلة البيئة والدفيئة والصحة العامة،
وهذه ستقود إلى موضوع النمو الاقتصادي المستمر ومشروعيته، كما هو الحال في
الإنترنت التي وصلت إلى كل مكان تقريباً مع ما تتركه من آثار بيئية (استهلاك كبير
للطاقة) واجتماعية وسياسية. والتساؤل في هذه الحالة هو تساؤل يخص العالم بأجمله
والأجيال القادمة كما ألمحنا في الفقرة السابقة.
وفي علوم الحياة، فأول المسائل التي ظهرت،
خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت، ولا تزال، تتعلق بتطبيقات العلم التكنولوجي
على الكائنات الحيّة. إذ إن النازيين أجروا تجارب على الإنسان اخترقوا فيها حرمات بما
لا تقبله الإنسانية. وكذلك تجارب جرت في دول أخرى، مثل الولايات المتحدة، على مرضى
لاختبار أدوية بدون علمهم وموافقتهم وذلك في خمسينيات القرن الماضي[vii].
وغير مسائل تجارب الدواء، التي لا تزال تمارس حتى مع موافقة متلقي هذه الأدوية، والتي
يمكن أن تؤذي حياة المشاركين فيها؛ ظهرت بعدها مسائل الهندسة الوراثية التي لها أن
تؤثر عميقاً في خصائص الكائن الحي. ومسائل الإنجاب بتكنولوجيات طبية مختلفة، مثل
طفل الأنبوب، أو الأم الرحم. ومسائل الموت الرحيم Euthanasia، بمعنى متى يمكننا
جعل المريض يواجه الموت بإيقاف العلاج الطبي المقدم له؟ أو هل يجب استخدام كل ما
نملك من تجهيزات عالية الكلفة لمساعدة أشخاص نعرف أن لا أمل في شفائهم؟ هذه كلها
مسائل تحتاج إلى تفكير أخلاقياتي شامل يضع لها إطاراً يمنعها من الشطط ويحدد
المسموح من غيره.
وفي حالة العلوم السيبرانية (التحكم الآلي
والاتصالات والمعلوميات) وما تنتجه اليوم من أدوات إنسالية (روبوت) ومن ذكاء صنعي،
ومكانز معلومات تتعلق بالأفراد أينما كانوا، لها كلها أن تعرّض حقوق الإنسان من
حرية وخصوصية وعمل للخطر بمراقبته المستمرة، غير المتعمدة بالضرورة، وتحويله إلى
غرض تجاري، أو كائن مسيطر عليه دائماً.
يمكن متابعة أنواع المسائل الأخلاقياته حتى
في العلوم الإنسانية. فمسألة الديموغرافيا هي مسألة تطرح نفسها اليوم بقوة كمسألة
أخلاقياتية خاصة إن أخذنا بالحسبان أن موارد الأرض محدودة في نهاية المطاف وأن عدم
وجود حل لهذه المسألة سيؤدي إلى مجاعات ومشاكل بيئية ستهدد جميع الأحياء من بشر
وغيرهم.
كذلك علم النفس عندما يتعرّض لمسائل غير
معرّفة تماماً لارتباطها بكيفية النظر إليها، كما في حالة الذكاء مثلاً، ومن ثم
إطلاق تعميمات أقل ما يمكن القول عنها إنها لا أخلاقية، مثل تلك التي تقول إن السود
في الولايات المتحدة هم أقل ذكاء من البيض. جاء ذلك في كتاب "منحني
الجرس"[viii]
كتبه مختص في علم النفس وآخر في علم الاجتماع[2]. وهنا
تبرز مشكلة أخرى تخص العلم حيث يختلط المقال العلمي بشبه العلمي اللذان يفصلهما في
الواقع خط واه.
لا تتوقف أخلاقيات العلم التكنولوجي عند تأثيره في الإنسان فقط وإنما تمتد لأبعد من
ذلك. فالأبحاث العلمية التي تقود إلى توليد كائنات حية جديدة لم تكن موجودة من قبل
لأغراض علمية أو تجارية يمكنها أن تؤثر في حياة الإنسان في يوم ما. فالحبوب
والنباتات المعدلة وراثياً مثلاً، والفيروسات أو البكتيريا المولدة في المخابر، لها
أن تعرض الحياة البشرية للخطر. وهذا أمر يستدعي التساؤل والتحقيق في قانونية
وأخلاقية الأبحاث العلمية في هذين المجالين، وغيرهما طبعاً. فمن أجاز للمخابر أن
تعمل في هذه المجالات مثلاً؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى أخلاقيات البحث والباحثين.
أخلاقيات البحث العلمي والباحث
سار العلم-التكنولوجي حتى فترة قريبة بمعزل عن تدخل
المجتمع، القريب والعالمي، فيما يبحث فيه الباحثون أو في كيفية الاستجابة لنتائج
البحوث واستخداماتها. كان التدخل تاريخياً في إطار التناقض بين الاكتشافات
والاعتقادات، كما حصل مع غاليليو والكنيسة التي طالبته بالتراجع عن دعمه لآراء
كوبرنيق القائلة بعدم مركزية الأرض والدفاع عن نموذج بطليموس. وفي فترة قريبة
استغلت أنظمة سياسية نتائج المعرفة العلمية لدعم معتقداتها. فقد استغلت النازية نظرية
داروين في التطور وبنت عليها عقيدتها في تراتبية النوع الإنساني بجعل بعضها في
ذروة الهرم مثل الآريين وآخرين في أسفله مثل اليهود والغجر والأفارقة. كما استغلت
أنظمة أخرى "العلماء" أو الباحثين للترويج لمعتقداتهم السياسية كما في
حالة السوفيتي تروفيم ليسنكو[ix] الذي عارض المكتشفات
العلمية في مجال الوراثة وقال بوراثة ديالكتيكية سماها "بوراثة الصفات
المكتسبة" التي يمكن إكسابها لنوع ما من خارج الوراثة، مثل جعل القمح ينمو
شتاءً. وكان مصير كل من يخالف نظرية وراثة الصفات المكتسبة في الاتحاد السوفيتي
النفي إلى مناطق لم يعد الكثيرون منها. ومثل هذا التدخل في تأويل المعرفة أو
تسخيرها لأغراض سياسية أو تجارية هو أمر لا يزال جارياً، بطرائق أكثر حذاقة وأقل
مباشرة. فوسائل التواصل التقليدية والحديثة يمكن استغلالها للترويج لمنتجات إن لم
تكن ضارة فهي غير مفيدة.
كما أن للشركات الكبيرة، وبعض الدول ربما، أن
"تشتري" مساهمة غير مباشرة لتحسين سمعة منتجات أو خدمات، عن طريق إغراء
المساهمين في تحسين السمعة أو الضغط عليهم. وهو أمر شهدناه في بعض الأدوية، وبعض
المواد المستخدمة في قطاعات مستهلكة كبيرة كما في قطاع الزراعة التي تستخدم بعض
المبيدات أو الأسمدة أو البذور التي لها أن تزيد من خطر تعريض صحة المستهلك. فشركة
بورديو Purdue الأمريكية
أنتجت الدواء المسكن أُكسيكونتان Oxycontin الذي تسبب
بموت ما لا يقل عن 300 ألف إنسان[x] بين عامي 1996 و 2019 والذي
أكد أطباء، تلقوا أموالاً من الشركة، نجاع الدواء
وخلوه من أي خطر؛ ولكنه دواء يتضمن في مكوناته مواد مخدرة تحفّز الإدمان عليه مما
يؤدي إلى الهلاك عند الإفراط.
تقع أخلاقيات البحث والباحث في محورين اثنين، أولهما يخص
النزاهة وثانيهما يخص أفق البحث ومواضيعه وشفافيته. والنزاهة هنا تتعلق بالانتحال
في البحث العلمي ( بمعنى نسب أبحاث شخص أو مؤسسة إلى شخص آخر أو مؤسسة أخرى أو ما
شابه) وتزوير المعطيات (حذف غير المرغوب بها أو تعديلها بما يتفق والنظرية المدافع
عنها) أو تقديم بيانات على أنها معطيات وهي غير موجودة في الأصل، وهذه من أكبر
الموبقات. هناك موبقات أخرى مثل الانحياز كما في حالة تجميل النتائج وهي ليست
كذلك، أو الميل لنتائج دون أخرى بسبب تضارب المصالح، أو القراءة الخاطئة
للإحصاءات، أو الإهمال المتعمد لبعض النتائج، أو التقصير في نشر نتائج البحث لدوافع
مختلفة، أو حتى الإهمال في تقصي الحقائق أو التراخي في تطبيق المنهج العلمي. أو
عدم المساهمة في تأهيل باحثين جدد.
أما أفق البحث ومواضيعه وشفافيته فهي مسألة تتعلق
بمؤسسات البحث والعاملين فيها. وهي مؤسسات ذات صلة بالمجتمع المدني بطبيعتها،
بمعنى أنها تتواصل معه والعاملون فيها هم من أبناء هذا المجتمع. وعلى الباحثين هنا
أن يراعوا أثناء أبحاثهم مسائل الخصوصية، وأن يجعلوا القيم الأخلاقية في صميم
أعمال التجديد والابتكار، وربما، إن أمكن، إنشاء نوع من لائحة التحقق (checklist) تسمح
للباحثين بالمضي في أبحاثهم أو لا، وهي لائحة تبنى على معايير متباينة لا تفي
بالضرورة بالغرض إزاء أي بحث، لذا لا بد من التفكير الناقد، الذي يأخذ بالحسبان قيماً
عامة تؤطر عمل الباحثين وأبحاثهم، مثل أن ترمي الأبحاث في النهاية إلى:1 )خير
الإنسان ورخائه و2)احترام إنسانيته والحفاظ على حياته وعدم استخدامه وسيلة للوصول
إلى غايات أخرى، و3)المساهمة في إحقاق العدل بين مكونات المجتمع. ومن غير هذا
الإطار العام فيمكن التخصيص بحسب مجال البحث. ففي البحث الطبي مثلاً، وعند ضرورة
مشاركة مرضى بهذه الأبحاث، يجري التأكيد على أن تكون المشاركة حرة بعد توضيح كل
مجريات البحث وآفاقه واحتمالات نتائجه، واحترام الكرامة الإنسانية، وكذلك احترام
الحياة الخاصة والمعلومات الشخصية، واحترام هشاشة المشاركين النفسية والجسدية،
ومقارنة سلبيات وإيجابيات البحث المزمع. وفي حال المضي بالبحث فيجب العمل على
إنقاص السلبيات وإعلاء الإيجابيات. وفي كل الأحوال فيجب الحذر، والحذر الشديد، في
عواقب استخدام النتائج.
ويمكن في هذا الخصوص الاستفادة من بعض ما تم
إنجازه في مجال أخلاقيات البحث والباحثين. ففي المجال الطبي تم الانتباه إلى مسألة
الأخلاقيات منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبلغت حداً معقولاً صيغت فيما
سمي مؤتمر هلسنكي وصدور بيان هلسنكي[xi]
لعام 1964 والذي تتالى لاحقاً مع تعديلات عليه في كل مرة كان آخرها في عام 2013.
وهو إعلان مبادئ أخلاقياتية تخص البحث الطبي عند إجرائه على البشر. ونشأ عنه، من
بين أشياء أخرى، "قسم جنيف"[3] على
شاكلة قسم أبقراط، الذي يمكن اعتباره أول وثيقة أخلاقية مهنية.
وهذه تختلف عن تلك الخاصة بمواضيع أخرى مثل
الذكاء الصنعي، والمؤتمرات التي ناقشت الجوانب الأخلاقياتية في هذا المجال كثيرة، أشهرها
مؤتمر أسيلومار Asilomar
والذي انتهى إلى "إعلان أسيلومار" بخصوص الذكاء الصنعي وأخلاقيات البحث
فيه وخاصة أخلاقيات الباحث
في هذا المجال، وهو ما سنتطرق إليه في الفقرة التالية.
صاغت مجموعة من دول العالم صكوك تعهد مسلكي للباحثين
يلزمهم أدبياً العمل بها دون أن ترقى لمستوى
القوانين إلا في بعض الجوانب. فمثلاً وضع مركز البحوث الفرنسي ميثاقاً[xii] يتضمن إطاراً للسلوك
الأخلاقياتي للباحث باعتماده على الميثاق المعتمد من الاتحاد الأوروبي مع تعديل
على بعض نقاطه. يمكن إيجازها في: 1) احترام البنى التشريعية والتنظيمية القائمة.
2) احترام الباحثين لالتزامات وحدات البحث التابعين لها من حيث العقود والنُهج
والتجارب والأدوات. 3) إعلان النتائج على المستوى العلمي والشعبي مع إظهار دور كل
من ساهم في البحث ودور من سبق واحترام حقوق الملكية الفكرية. 4) مسؤولية العمل
الجماعي عبر احترام قواعد السلوك المعتمدة في مكان العمل، والعمل بما يثري الجميع
مهنياً واحترام قواعد النزاهة العلمية. 5) استقلالية التقييم واحترام سرية
مداولاته وعدم الانحياز في المشورة والكشف عن علاقات المصالح إن وجدت. 6) الإفصاح
عن الأعمال التشاركية مع مخابر أخرى محلية ودولية وأن يكون ذلك دائماً في نطاق
النزاهة والشفافية واحترام القواعد المتعارف عليها. 7) تعليم قواعد العمل وأصوله
في مراحل الدراسات العليا المؤهلة للعمل في البحث العلمي.
وفي الجانب القانوني فقد وضعت بعض الدول قوانين منبثقة
من هذه المبادئ والقواعد. إذ أقرّت فرنسا مثلاً مجموعة من القوانين التي تمنع بعض
أنواع البحث الطبي وطرائقه. كان آخر نسخها[xiii] في عام 2020 الخاص
بالأخلاقيات الحيوية الذي يؤطر البحث الطبي الجنيني ويؤكد منع مزج خلايا حيوانية
مع جنين بشري أو تخليق جنين بغرض البحث العلمي أو استنساخ وزرع جنين بشري. كما
يؤطر استعمال معطيات الذكاء الصنعي في معالجة المريض وضرورة توضيح وإعلام المريض
بالمعالجة الخوارزمية وموافقته.
طبعاً يجب ألا يغيب عن البال أن بعض قضايا العلم
التكنولوجي هي من طابع أخلاقياتي سياسي. فمع تقدم العلم وأدواته يصبح العلاج الطبي
مكلفاً للغاية، فهل يُتاح العلاج للجميع أم أن بعضه سيكون من حظ أصحاب الإمكانات
المالية؟ كذلك الأمر عند التدقيق في بعض الأجهزة التكنولوجية العالية الكلفة وذات
الاستخدام القليل، بمعنى أنها ستكون مفيدة في حالات نادرة، فهل يجب حيازتها فعلاً؟
الجواب في الحالتين من طبيعة أخلاقياتية سياسية.
الذكاء الصنعي والمسألة الأخلاقياتية
تعود تسمية الذكاء الصنعي إلى ستينيات القرن الماضي
وإلى الباحث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأمريكي جون مكارثي. وهو بمعنى إكساب بعض الآلات قدرة القيام بأفعال مختلفة
باختلاف السياق، بهدف تسريع العمل وتوفير الجهد والكلفة، ومراكمة الخبرة عن
طريق التعلم الذاتي، وهذا ما يميزه عن عمليات
الأتمتة. وهي أعمال تقوم على المعرفة الصريحة القابلة
للصياغة وتحسينها خوارزمياً. ولكن متابعة التعلم
وتحسينه، وتطور قدرات الحواسيب المتزايد، يجعل أنظمة الذكاء الصنعي ذاتية التطور، الأمر
الذي يمكن أن يأخذ منحى خطيراً عندما تكون ذاتية التصرف.
أبسط أشكال الذكاء الصنعي نجده في أنظمة تعرّف
الآلة على الأوراق النقدية، والصرافة بأوراق نقدية أخرى (أصغر قيمة)، بما يتضمن
ذلك من التعرف إلى الأوراق المزورة أو عملات أخرى. وكذلك قيادة السيارة بالطريقة
التي يتعلم فيها الإنسان قيادتها، ومعرفة إشارات الطرق، وتميز الأشياء التي
تُواجه أثناء القيادة من جوامد أو أحياء، وتحسين التعلم بحسب الطرقات، من خطورة أو
وعورة، إلى غير ذلك. نقول عن مثل هذه الآلة إنها تتمتع بذكاء صنعي. والذكاء هنا هو
بمعنى أن الآلة تقوم بعمل يحتاج منا إلى التفكير، وتتصرف كما لو أنها تفكر مثلنا.
مع كل ما في ذلك من مزايا مقارنة بالإنسان، مثل عدم تأثرها بالمؤثرات الخارجية
أثناء قيامها بعملها، وعدم انقطاع حبل أفكارها، وعدم تأثرها بشخص من يتعامل معها،
امرأة أم رجل، أسود أم أبيض، وستقوم بعملها بسرعة كبيرة، وبقدرة هائلة في إجراء
الحسابات، بلا كلل أو ملل. وهكذا
أصبح لبعض أنظمة الذكاء الصنعي قدرات تفوق، أحياناً، قدرات الإنسان كما هو الأمر في تشخيص أمراض
السرطان أو العظام.
هذا الذكاء موجود اليوم بأشكال مختلفة في الكثير من
مناحي الحياة، من الترجمة الآلية، إلى الهواتف الذكية، إلى الحسابات المصرفية،
والاستشارات القانونية، وأنظمة اتخاذ القرار المبنية على المعطيات الهائلة التي لا
يمكن للإنسان مماثلتها. وكذلك الروبوتات بأشكالها المختلفة التي تساهم في الأعمال
الصناعية والمنزلية والصحية، وغير ذلك الكثير. تطال آثار أعمالها ملايين البشر دون
الشعور بها. وهي في معظمها لخيرهم، دون أن يمنع ذلك إمكانية استغلالها في مناحي
أخرى تضع بشريتهم موضع تساؤل وتفرض عليها تغيرات
لا يمكن التنبؤ بها حالياً[4].
خاصة وأن للحواسيب قدرات هائلة متزايدة لا يتمتع بها الإنسان، الذي يتوقف
فضوله عند المسائل البالغة التعقيد ليتركها جانباً في حين أن الآلة لن تفعل ذلك
كونها لا تعاني من الضجر. وهي آلة لها أن تتعلم بمفردها، من خبراتها السابقة أو من
بيانات جديدة، مما يجعلها قادرة بحسب عالم الفلك الشهير ستيفان هافكنغ على التفوق
على الإنسان الذي يتطور بيولوجياً ببطء شديد مقارنة بتطور الذكاء الصنعي المستقل
تعليمياً. ونشر في هذا الخصوص، مع عدد من الشخصيات المعروفة، مقالاً نشر في جريدة
الديلي تلغراف[xiv]
عام 2015 يقرون فيه بفضائل الذكاء الصنعي في العديد من المجالات ولكنهم طالبوا
أيضاً بعدم تطويره بما لا يمكن للإنسان السيطرة عليه.
من الأمثلة المثيرة للجدل والمخيفة فعلاً هي الروبوتات
القاتلة. وهي روبوتات مستقلة ذاتياً يقودها الذكاء الصنعي، لها أن تشارك في
المعارك وتقاتل بمفردها دون تدخل الإنسان. أشهرها اليوم الطائرات المسيّرة ذاتياً
والتي تقوم بتحديد أهدافها بطريقة مستقلة بناء على معطيات تحصل عليها آنياً، بما
تحمله من لواقط اتصالات ومحسّات وأدوات تعرّف، وتحدد
بحسبها العدو من غيره وتهاجمه. وهي طائرات تستعملها الولايات المتحدة في محاربة
الإرهاب بالاعتماد على معلومات تتلقاها أساساً من الهواتف الجوالة لسكان منطقة ما
وتتعرف بناء على ذلك على الإرهابي من غيره وتقرر إطلاق النار وقتله أو الانتظار،
وفقاً لخوارزميات الذكاء الصنعي المخزنة فيها ولما تعلمته أثناء عملها. حققت هذه
الطائرات نجاحاً ملحوظاً ولكنها أيضاً أزهقت أرواحاً بريئة. وبالرغم من تعالي
الأصوات بوقف تطوير هذه الروبوتات إلا أن دولاً كثيرة رفضت الاستجابة لذلك وتتابع
أبحاثها فيها وتطور تكنولوجياتها بما يجعلنا إزاء عالم تزداد مجاهيله ومخاطره.
وفي غير استخداماته الخطيرة، فالذكاء الصنعي ليس عصيّاً عن ارتكاب أخطاء قد تكون قاتلة. ففي تجربة[xv] أجرتها جامعة ميتشيغان الأمريكية
لاختبار السيارات الذاتية القيادة بإجراء تشويه بسيط على إشارة التوقف STOP أدى إلى أن
هذه السيارة فهمت الإشارة على أنها السرعة المسموحة حتى 50 كيلومتراً في الساعة
وذلك في 84.8% من الحالات لعربة متحركة. وفي حالة شهيرة لشركة أمازون باستخدام
الذكاء الصنعي في التوظيف بناء على قواعد معطيات الشركة في التوظيف السابق، فكانت
النتيجة تأكيداً لهذه المعطيات من حيث اللون والنوع، أي أن الذكاء الصنعي أكد
الغباء الطبيعي في التمييز العرقي والنوع الإنساني.
ونظراً لأهمية وأبعاد الاستخدامات الممكنة للذكاء الصنعي
من حسنة أو سيئة ولاحتمال الأخطاء، أعلنت اليونسكو في عام 2021، وبموافقة دولها
الأعضاء، عن توصية خاصة بأخلاقيات الذكاء الصنعي[xvi] تذكّر بمبادئ وقيم الحياة
الإنسانية وضرورة احترامها وتؤكد على ضرورة اضطلاع البشر بالإشراف وباتخاذ
القرارات فيما يتعلق بدورة حياة نظم الذكاء الصنعي وتقييم الدول الأعضاء للعواقب،
وتطالب الدول الأعضاء بالعمل وفقها والتعاون مع المنظمات الدولية والوطنية
للارتقاء بها.
وأيا ما كان، فإن على الذكاء الصنعي، وكل ما يمكن أن
نسميه بتكنولوجيا الابتكار والتجديد، أن يرتكز على المسؤولية، مسؤولية تقوم على
أربع ركائز. أولها تتعلق بالتوقع والتنبؤ بما يمكن أن تكون مخرجات هذا الذكاء أو
هذه الابتكارات خاصة إذا أخذنا بالاعتبار التعقيد البالغ في هذه المجالات وحاجتها
إلى اختصاصات متعددة. ثانياً، التفكير الملي بآثار وعواقب هذه المخرجات وكذلك
بالاحتمالات الكامنة وما يمكن أن ينجم عنها في المستقبل. ثالثاً، مشاركة المجتمع
بالمخرجات وإقرار استعماله أو الاستمرار في متابعتها. وآخرها، المبادرة والتدخل
السريع بحسب السياق عند بروز مفاجآت أو مآلات جديدة حرجة للمخرجات والتوقف عن
المتابعة عند الحاجة.
علم الوراثة والهندسة الوراثية والأخلاقيات
يترافق علم الوراثة الحديث مع اكتشاف الـ دي.إن.إي[xvii]DNA. وهو المادة الوراثية الرئيسية لدى معظم
الكائنات
العضوية. يوجد معظمه في نواة الخلية، إذ يمكن أن يكون بعضه في الحبيبات الخيطية(mitochondri. تُخزّن المعلومات المتضمنة فيه على شكل
ترميز مؤلف من أربع أسس آزوتية تجتمع في أزواج مترافقة تشكل درجات سلم لولبي يتألف
طرفاه من جزيئات سكر وفوسفات. تشكل مجموعة متعاقبة من هذه الأزواج مورّثاً gene محدداَ لدى الكائن الحي. وهذه
المورثات مفصولة عن بعضها بفواصل معروفة. كل مورّث مختص بأمر ما، مثل العينين أو
الكبد وغير ذلك في حالة الكائنات الحيوانية، دون أن يعني هذا أنه المسؤول الوحيد
عما هو مختص فيه أساساً. فالمورثات في عملها تتشارك بشبكة مع مورثات أخرى لتحقيق
وظيفتها الرئيسية. يمكن لهذه المورثات أن تورّث أمراضاً أو تشوهات قادمة مباشرة من
الأب أو الأم. وهذه الأمراض أو التشوهات أو احتمالها، تظهر في ترتيب الأسس الأربعة
المذكورة، على شكل خطأ في الترافق أو في التتالي أو في الأساس الآزوتي.
يمكن لهذه المعرفة أن تُستخدم في إجراء تعديل أو
إصلاح المورثات لتجنب الأمراض أو التشوهات أو تحسين صفة ما دون غيرها. وهو أمر يجري عبر أدوات هندسة الوراثة أو التكنولوجيا
الوراثية. إذ أمكن منذ بضعة سنوات استبدال مورّث بأخر بهدف تحسين المخزون الوراثي
لكائن ما، حيواناً أو نباتاً. وهذا الاستبدال يكون عن طريق قص مورّث في الـ
دي.إن.إي لا يُراد الاحتفاظ به، واستبداله بمورّث آخر من الكائن نفسه أو من غيره
بما يؤدي لما نسميه "العضوي المعدّل وراثياً" باستخدام تقنية ما يُعرف
اليوم باسم CRISPR-cas9. مثل هذه العملية كانت تجري تقليدياً بمزاوجة/مصالبة أنواع
متقاربة لإنتاج سلالات جديدة، سواء كان في النبات أو الحيوان. الجديد هنا أن
"المزاوجة" لا تكون بالضرورة بين أنواع متقاربة، وقد تكون بالتخلص
الكامل من مورث ما دون استبداله (بقر بلا قرون مثلاً، أو منع حشرات من التهام بعض
النباتات بتغيير في مورثاتها، أو بطاطا مقاومة لفطور طفيلية كانت سبب المجاعة في
أيرلندا في القرن التاسع عشر)، وفي النهاية التحكم بالنوع الجديد لأهداف تجارية
بالدرجة الأولى كما هو الأمر في مجالي الزراعة والأدوية[5].
لم تلق الزراعة المعدلة
وراثياً حتى اليوم قبولاً نهائياً. والرأي العلمي في عدم سُميّتها أيضاً لم يحز
الاتفاق العالمي. فالأوربيون واليابانيون مترددون في استهلاكها، ونشأت بخصوصها جماعات
شعبية معارضة. معارضة تقوم على أساسين: الأول، أن الشركات التي تنتج البذار
المعدلة وراثياً ستحتكر ذلك وهو أمر له تبعاته الكثيرة. ثانياً، إن هذه الزراعات
ستؤدي إلى تغيرات بيئية مباشرة (ضرورة خلو الأرض من الأعشاب في بعض الزراعات مثلاً)
وأخرى لا يمكننا التنبؤ بها، لكنها بالضرورة ستغير في التوازن البيئي. أما على
المستوى الأخلاقياتي فهذه الزراعة ستعني ملكية الشركات للمورثات الزراعية التي
ابتكرتها في حين أن كل الزراعات المعروفة لا ملكية لأحد في مورثاتها. أضف إلى ذلك
أن هذا سيؤدي إلى انحسار أو إفقار صغار المزارعين الذين لا قدرة لهم على شراء
البذار المعدلة، وهم الذين كانوا يحضرون بذارهم بأنفسهم. النتائج السلبية لكل هذا
ستكون على مزارعي الدول النامية بالدرجة الأولى.
إن التطور العلمي الكبير
والمتسارع في علم الوراثة وهندستها يطرح قضايا أخلاقياتية كبيرة تبدأ من
الاستنساخ، والأبحاث الجنينية، وإمكانية إجراء تعديلات في المورثات للوصول إلى
مواصفات بذاتها، من لون أو طول أو صفات أخرى يمكن وصفها بالعنصرية، أو مسائل
الملكية الفكرية في حالة الكائنات المعدلة وراثياً وتبعاتها البيئية. وهذا ما أدى
إلى ظهور فرع خاص من الأخلاقيات يُعرف باسم الأخلاقيات الطبية في ستينيات القرن
الماضي وتطور إلى ما يُعرف اليوم بأخلاقيات علوم الحياة bioethics. يشترك في
دراساتها وأبحاثها أطباء وبيولوجيون وباحثون في الأجنة وفلاسفة وقانونيون وباحثون
في الاجتماع ولاهوتيون وغيرهم. وهي على غير القواعد المسلكية الطبية التي وضعها
الأطباء للأطباء، في أنها تطرح الخيارات الأخلاقياتية من خلفية قيمية فلسفية كما
الحال في حالات الموت الرحيم، وفي أنها أيضاً تبحث عن قواعد ناظمة لتطبيقها في
علوم الأحياء تترجم أحياناً في قوانين كما هو الحال في منع الأبحاث الجنينية[6]
في معظم دول العالم.
يمكن وضع نص قواعد نورمبرغ[7]
Nuremberg Code لعام 1947 بين القواعد السلوك الطبية والأخلاقيات الطبية
في تحديدها للشروط والمعايير التي يجب أن تتوافر في التجارب التي يستخدم فيها
الإنسان لكي تكون مقبولة أخلاقياً. وهذه القواعد والمعايير كانت معروفة منذ مطلع
القرن العشرين جُمعت، قبل محاكمات نورمبرغ، لتشكل مرجعية الممارسات الطبية المعهودة،
وحصلت لاحقاً على قبول عالمي، لم يأخذ شكله الرسمي إلا مع إعلان هلسنكي[xviii]
لجمعية الأطباء العالمية لعام 1964 ونسخته المعدلة عام 1975 في طوكيو، ولم يتوقف
تعديله وتحسينه من يومها. ومن بين ما ينص عليه هذا الإعلان أن التجارب الطبية التي
تجري على الإنسان لغايات بحثية أو اجتماعية ليست لها الأولوية على كرامة الإنسان وحريته،
وأن هدف الأبحاث الطبية هو تحسين طرق التشخيص والعلاج والوقاية وفهم أسباب آليات
الأمراض.
ولكن العقود الماضية شهدت
أسئلة وتغيرات كبيرة، أثارات قضايا وجدانية وأخلاقياتية. ففي الجانب الطبي الصرف
نجد قضية التدخل الطبي في الإنجاب بما يحتمله من انتقائية في الوليد المحتمل بكل
أبعادها المفتوحة أخلاقياً. والتبرع بمكونات أولية من منتجات جسم الإنسان لشخص آخر
مثل البويضات أو الحيوانات المنوية[8]
أو أجنة أيضاً. والأبحاث الجنينية أو استعمال أجنة الأنابيب في الأبحاث الطبية،
وكذلك مسألة استعمال الخلايا الجذعية التي من انقسامها يبدأ تكون الجنين. وكذلك
الأبحاث العصبية الدماغية التي يمكن بواسطتها التعرف إلى محتويات الدماغ وقراءته
أو التأثير فيه. وأخيراً مما نذكر التكنولوجيا البيولوجية النانوية التي يمكنها أن
تحاكي الـ دي.إن.إي وأن تحل محله في الرسائل التي يوجهها للخلية والتي لا نعرف
حالياً تبعاتها.
مسائل أخرى ذات طابع اجتماعي
طبي. منها مسألة تحديد النسل التي لم تمر في أي مجتمع بسهولة ويسر، بالرغم من
قبولها الحر والإجباري معاً، لأسباب مادية أو شخصية أو سياسية بالدرجة الأولى. ترافقت
مع مسألة منع الحمل وأدواته وانعكاساتها محدثة بذلك تغيرات كبيرة في النظر إلى
العلاقة بين الذكر والأنثى وتبعاتها الفلسفية والدينية. مسألة أخرى هي مسألة
الإجهاض التي تمارسها المجتمعات دون إعلان قبولها صراحة، إلا في بعضها، بالرغم من
وضع شروط واضحة وصارمة. مسألة ثالثة هي مسالة المثلية، وهي في بعضها بيولوجية
المنشأ، لا تزال مسألة لم تقبلها إلا قلة من المجتمعات، وهو قبول رسمي وليس مجتمعي
بالكامل. وهذه المسائل ومثلها، تشكل في جانبها البيولوجي على الأقل، إحدى أنماط
المسائل التي تبحث فيها الأخلاقيات الطبية، مع من أنها في أصلها مسائل اجتماعية
سياسية.
يتفق الباحثون في
الأخلاقياتية البيولوجية على مبادئ يمكن إيجازها في: 1)استقلالية المريض أو الشخص
المعني بما يريد، فصحته هي ملكه، 2) وعلى أن يكون ما سيحدث هو لخيره، 3) وألا يكون
مُضراً، 4) وعلى العدالة أو تكافؤ الفرص. بعضهم الأخر يقول بأفضلية ترك القرار
للجماعة بدون أية مقاربة دينية أو عقلانية أو أي شيء آخر، وإنما فقط على أساس
الحوار والتفاوض بين الأطراف المعنية. والبعض الأخير يذهب إلى أن يكون الحل
اعتماداً على القوانين العامة القائمة وفقه القانون والسياق.
كيف يمكن مواجهة المسائل
الأخلاقياتية عموماً
يقول العالم الفيزيائي
والرياضياتي الشهير فريمان دايسون في كتابه "العلمي كمتمرد"[xix]:
"يمكن ملءُ الهوّة المتسعة بين التكنولوجيا وحاجات الإنسان بالأخلاقيات فقط".
ويمكن في هذا الصدد الاستفادة من الإرث المتراكم في هذا المجال وبناء أخلاقيات
تناسب المجال المعني. وهو إرث ممتد من فلسفة أرسطو ورسائله إلى ابنه نيكوماكوس
ووسطيته التي تقول بأن الشجاعة المفرطة هي تهور والجبن هو خنوع وعلى المرء
الابتعاد عن هذين الطرفين. وكذلك الاستفادة مما جاء بعده من مفكرين وفلاسفة أشهرهم
في هذا المجال الألماني كانط وواجبه القطعي، بمعنى أن هناك قضايا قطعية لا مجال
فيها للمراوغة وذلك بهدف حماية حرية الإنسان وكرامته، فقول الحق واجب دائماً.
ومنهم البريطاني بينتام ومبدأه النفعي، بمعنى أن الأفعال بعواقبها ومآلاتها أولاً.
فهل الاحتفاظ بالجنين المكتمل واجب حتى لو كان في بقائه تعريض أمه لخطر الموت؟
ومن المعاصرين الحاليين
الألماني يورغان هابرماس[xx]
الذي يدعو إلى بناء أخلاقيات قائمة على الحوار بين أطراف المسألة المعنية، وهو
حوار بالضرورة عقلاني، سيرسي في أقله قاعدة تسمح بالوصول إلى أحكام مقبولة من
الجميع، ولها أن تكون عميمية عندما يشترك في هذا الحوار أطراف مختلفة من دول
ومجتمعات وجماعات مختلفة. وهو أمر ضروري في الكثير من مسائل اليوم العالمية الطابع
كما في حالة المسائل البيولوجية أو مسائل الذكاء الصنعي وغيرها.
وعلى المستوى الأقرب، فمن
الضروري تشكيل لجان وطنية تُعني بأخلاقيات المسائل المطروحة عالمياً، إما على شكل
لجان مختصة ومتعددة الاختصاصات، أو لجنة وحيدة عامة في أضعف الإيمان، لمتابعة
المجريات العالمية من النواحي العلمية التكنولوجية والأخلاقياتية، ولتتواصل مع
اللجان المماثلة في العالم. لمثل هذه اللجان أن تحتضنها الجامعات على أن تكون بصلة
مع أصحاب القرار، العلمي والسياسي.
أما في المستوى الأقرب،
فمن الضروري، بل والملح، أن تكرس مواد تعليمية على المستوى الجامعي لدراسة
الأخلاقيات وما يدور في فلكها، وخاصة لطلاب العلوم الحيوية وطلاب الهندسات
والتكنولوجيا عموماً.
وفي الخلاصة، حاول الإنسان
في مرحلة أولى فهم الكون بواسطة العلم، ثم حاول السيطرة على العالم بواسطة العلم،
وهو الآن أمام تحدي أن يسيطر عليه العلم-التكنولوجي وهو ما يجب الحذر منه
والابتعاد عنه بواسطة أخلاقيات حصيفة، بل وبالغة الحصافة. فالعقود القليلة الماضية
وضعت الإنسان ومجتمعاته أمام تحديات جديدة لم يعرفها الماضي، وحمّلتهم بذلك
مسؤوليات لا مناص له من تحملها بأمانة، صيانة لحياة ومغامرة إنسانية كانت في جلّها
رائعة.
[1]لتوضيح بعض الجوانب الأخلاقية الضرورية لضبط الأبحاث،
يمكن سوق مثال بحث توسكجي السريري في ولاية ألاباما الأمريكية الذي أجري بقصد
مراقبة تطور مرض السفليس لدى مجموعة مؤلفة من 600 شخص من السود الأمريكيين على مدى
أربعين عاماً (بين عامي 1932 و 1972)، أوحي إليهم أنهم يعالجون ولكنهم في الحقيقة
تركوا بدون علاج عمداً، وذلك بمشاركة مؤسسة الصحة العامة وجامعة توسكجي. كانت هذه
الفضيحة وراء ما عرف بتقرير بلمونت المنشور عام 1979 والصادر عن وزارة الصحة
والتربية والخدمات الاجتماعية الأمريكية عام 1979 والذي أرسى المبادئ الأخلاقياتية
للأبحاث الطبية التي تجري على البشر.
THE BELMONT REPORT Office of the
Secretary Ethical Principles and Guidelines for the Protection of Human
Subjects of Research The National Commission for the Protection of Human
Subjects of Biomedical and Behavioral Research April 18, 1979
[2]وهو أمر أيده للأسف جيمس واتسون أحد مكتشفي الـ دي.إن.إي
والحائز على جائزة نوبل في الطب في مقالات ومقابلات لاحقة آخرها عام 2019.
[3]هو إعلان طبي، بُني على قسم أبقراط، وعُدّل
مرات عديدة آخرها عام 2017، وينص على: "بوصفي عضو في المهنة الطبية، ألتزم
بتكريس حياتي لخدمة الإنسانية، وأعتبر صحة مريضي وراحته أولويتي، وأحترم استقلاله
وكرامته. وأحرص على الاحترام المطلق للحياة الإنسانية، ولن أسمح لاعتبارات العمر
أو المرض أو العجز أو المعتقد أو الأصل الإثني أو النوع أو الجنسية أو الانتماء
السياسي أو العرق أو التوجه الجنسي أو الحالة الاجتماعية أو أي عامل آخر، أن تحول
بيني وبين مريضي. وسأحترم الأسرار التي تُباح لي، حتى بعد موت مريضي، وسأمارس
مهنتي بوجدان واعتزاز باحترامي للممارسات الطبية، وسأجعل شرف ونُبل التقاليد
الطبية تدوم على مر الزمان. وسأبدي لأساتذتي وزملائي وطلابي الاحترام والتقدير
الواجبين، وسأشاطرهم معارفي الطبية لمصلحة المريض ولتقدم العناية الصحية. سأسهر
على صحتي وراحتي والارتقاء بمعارفي كي أُقدّم أفضل علاج، ولن أستخدم معارفي الطبية
لإعاقة حقوق الإنسان والحريات المدنية، حتى ولو بالإكراه، وأجعل من وعودي هذه شرفي
بكل حرية وفخر".
[4]يمكن أن نسوق مثالاً خاصاً دون الدخول في تفاصيله،
وهو المتعلق بالمراقبة التي أصبحت متاحة بكل ما تتيحه وسائل الاتصال والتواصل
وتبادل البيانات والمعلومات وخوارزميات الذكاء الصنعي. ففي بلد مثل الصين، التي تتميز
بحضور رقابة الدولة على مواطنيها، أمكن، بناءً على قواعد معطيات من صور لعشرات
الآلاف من الصينيين، عاديين أو من أصحاب السوابق الإجرامية، تصميم خوارزميات ذكاء
صنعي لها أن تقرر إن كان لشخص ما ميول إجرامية أو لا، بناءً على ملامحه والملامح
العامة للمجرمين. طبعاً استخدمت قواعد المعطيات هنا بدون موافقة أصحابها المعنيين.
كما أن لمثل هذا أن يمثل انحداراً عميقاً يمكن أن تهوي فيه الإنسانية حين انفلات
استخدامه من كل عقال.
(المصدر):
Automated Inference on Criminality using
Face Images, Xiaolin Wu& Xi Zhang. 2016
https://emilkirkegaard.dk/en/wp-content/uploads/Automated-Inference-on-Criminality-using-Face-Images.pdf
[5]فقد بلغت أرباح[5]
الدول التي استخدمت هذا النوع من التكنولوجيا في الزراعة قرابة 186 مليار دولار
بين عامي 1996 و 2016 كان 43% منها من نصيب الولايات المتحدة.
[6]حكمت الصين بسجن الباحث الصيني هي جيونكي
الذي قام بتغيير مورثات جنين توأم ليكون مقاوماً للإيدز
The untold story of the ‘circle of trust' behind
the world's first gene-edited babies,
https://www.science.org/content/article/untold-story-circle-trust-behind-world-s-first-gene-edited-babies
[7]صيغت عقب
محاكمة أطباء (20) وإداريين (4) نازيين بين عامي 1947 و 1946، قاموا بتجارب على
سجناء المعسكرات النازية لاختبار جعل المرأة عاقراً أو تعريضهم لجراثيم بعض
الأمراض مثل التيفوس أو اختبار الحروق التي تسببها بعض المواد، أو بعض الأدوية من
خارج احترام القواعد المعهودة في ذلك. هذا طبعاً غير مسألة التخلص ممن لا أمل في
شفائهم من الألمان أو المتخلفين عقلياً التي طالت بين 70 و 80 ألف شخص.
[8]طبيب النسائية الأمريكي دونالد كولن الذي تبرع لبعض
مريضاته بحيواناته المنوية مما نشأ عنه عشرات الأخوة والأخوات في رقعة جغرافية
محدودة بكل ما يثير ذلك من احتمالات سيئة
[i] LE PRINCIPE RESPONSABILITÉ, UNE
ÉTHIQUE POUR LA CIVILISATION TECHNOLOGIQUE, Hans Jonas, Cerf, 1992
[ii]مجتمع
المخاطرة، أولريش بيك، المكتبة الشرقية، 2009
[iv]Dictionnaire philosophique, André Comte-Sponville, Presses Universitaires
de France, 2001
[v]
https://www.ipcc.ch/report/sixth-assessment-report-cycle/
[vi]Hans Jonas, “Le Principe responsabilité », 1979
[vii]
https://en.wikipedia.org/wiki/Thalidomide
[viii]The Bell Curve: Intelligence and Class Structure in American
Life, New York, Free Press, 1994
[ix]La Souris, la mouche et
l'homme, Francois Jacob, Odile Jacob (22 avril 2000).
[x]جريدة اللوموند الفرنسية 21/02/ 2019
[xi] World Medical Association
Declaration of Helsinki Ethical Principles for Medical Research Involving Human
Subjects
https://jamanetwork.com/journals/jama/fullarticle/1760318/
[xii] Charte française de déontologie
des métiers de la recherche Janvier 2015 (ratifications au 13 juin 2019),
[xiii]Loi du 2 août
2021 relative à la bioéthique
https://www.vie-publique.fr/loi/268659-loi-2-aout-2021-bioethique-pma#:~:text=Il%20avait%20%C3%A9t%C3%A9%20adopt%C3%A9%20en,S%C3%A9nat%20le%203%20f%C3%A9vrier%202021.
[xiv] https://www.telegraph.co.uk/technology/news/11342200/Top-scientists-call-for-caution-over-artificial-intelligence.html
[xv]Robust Physical-World Attacks on Deep Learning Visual
Classification
Computer Vision and Pattern Recognition. 2018
[xvii]DNA (deoxyribonucleic acid) أي الحمض النووي الريبوي منقوص الأكسجين
[xviii]WMA
DECLARATION OF HELSINKI – ETHICAL PRINCIPLES FOR MEDICAL RESEARCH INVOLVING
HUMAN SUBJECTS,
https://www.wma.net/policies-post/wma-declaration-of-helsinki-ethical-principles-for-medical-research-involving-human-subjects/
[xix] Freeman Dyson, The Scientist as Rebel, 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق