في الوقت الذي تشهد فيه البشرية تطورات غير مسبوقة في مجالات العلوم والسياسة والثقافة، تعيش المجتمعات العربية، سواء في أوطانها الأصلية أو في المهاجر، ما يمكن تسميته بـ"نكوص ديني شكلاني"، يعكس أزمة أعمق في الهوية والمشروع الحضاري.
ففي كثير من
الدول العربية التي مرّت باضطرابات سياسية أو شهدت فشلًا تنمويًا وانهيارًا في
العقد الاجتماعي، يمكن ملاحظة ازدياد مظاهر التدين الشكلاني: من انتشار الحجاب
واللحى والشعارات الدينية، إلى خطاب عام يتمحور حول الهوية الإسلامية، لا بالضرورة
كإطار قيمي وأخلاقي، بل كتعويض رمزي عن الشعور بالهزيمة أو الإقصاء.
بين السلطة
والاحتجاج: مَن يوظّف الدين؟
هذا النكوص ليس
بريئًا أو تلقائيًا، بل يتحرك ضمن ديناميات سياسية واجتماعية مركبة. ففي كثير من
الحالات، تتبنى الأنظمة الحاكمة خطابًا دينيًا "معتدلًا" لتأمين
شرعيتها، كما حدث في مصر بعد 2013، أو عبر استعمال الدين كأداة تهدئة في خطاب
السلطة كما في الجزائر.
وفي المقابل،
يظهر الدين كأداة احتجاج عند بعض التيارات الإسلامية التي ورثت فراغ اليسار
والحركات المدنية، خصوصًا في العراق وسوريا. لكنه احتجاجٌ يفتقد، في أغلب الأحيان،
التأطير الفكري والمشروع المجتمعي البديل، فيكتفي برموز وردود أفعال متشنجة.
انهيار البدائل
وصعود الهوية: العودة
إلى الدين، أو ما يبدو كذلك، لا تنبع دومًا من إيمان روحاني، بل من غياب بدائل
أخرى. فمع فشل القومية والاشتراكية والليبرالية في تقديم حلول واقعية ومستدامة،
بقي الدين المرجع الوحيد غير المهزوم في الوعي العام. ويزيد الطين بلة غياب
مشاريع فكرية قادرة على تعبئة الجماهير، وافتقار الدولة لمقومات العدالة والكرامة
والتوزيع العادل للثروة، مما يدفع الناس إلى الاحتماء بالدين بوصفه مصدرًا للمعنى
والعدالة الرمزية. أما على مستوى التنشئة الاجتماعية، فإن المدارس
والفضاء الإعلامي والوعظ الديني يعيدون إنتاج فهم شعائري ضيق للدين، يكرّس الطقوس
ويهمّش العقل.
من الدين كهوية
إلى الدين كتحرّر: لكن
السؤال الجوهري يبقى: هل ما نشهده اليوم هو فعلًا "عودة إلى الإسلام"؟
الجواب يقتضي التمييز بين التديّن كهوية والإسلام كرسالة تحرّر وقيم. ما
يسود اليوم في كثير من الأوساط هو استخدام للدين كدرع نفسي، لا كمشروع روحي.
كوسيلة مقاومة للسلطة، أو امتداد لها، لا كتجربة إيمانية وجودية. والنتيجة المفارِقة أن ارتفاع منسوب
الخطاب الديني لا يقابله انخفاض في مستويات الفساد أو تحسّن في التعليم أو صعود في
القيم. بل العكس: في أجواء يعلو فيها صوت التدين، نجد أن القيم الإسلامية الأصيلة
كالعدل والأمانة والشفافية والمسؤولية، تظل مغيّبة عن الواقع.
الجاليات في
الغرب: من الإسلاموفوبيا إلى الهوية المأزومة. الأمر لا يقتصر على الداخل العربي. فحتى في
الجاليات العربية والمسلمة في الغرب – أوروبا وأمريكا الشمالية – يلاحظ صعود في
التدين الرمزي، خاصة بين الأجيال الشابة. لكنه، مرة أخرى، لا يعكس بالضرورة وعيًا
روحانيًا أو عودة إلى جوهر الإسلام، بل غالبًا ما يكون رد فعل على الإقصاء
الاجتماعي والإسلاموفوبيا. وفي هذا السياق، تتحول المظاهر الدينية إلى أدوات
إثبات وجود، أكثر من كونها انعكاسًا لرحلة إيمانية. وتُستخدم كوسيلة للتمايز أو
الانكفاء، مما يعمّق العزلة الثقافية ويحول الدين إلى جدار عازل بدل أن يكون جسرًا
نحو الاندماج. وما يعمّق هذا التديّن المأزوم هو
غياب خطاب ديني عقلاني، منفتح على التعدد والانتماء المركّب، قادر على نقل الدين
من موقع الدفاع إلى أفق التحرر.
ما الحل؟ الحل لا يكمن في إقصاء الدين، بل في
تحريره من التوظيف الأيديولوجي والشكلاني. المطلوب هو إعادة فهم الإسلام كمصدر
للكرامة والعدالة والرحمة والانفتاح العقلي. ويمكن ذلك عبر أربع خطوات عملية:
- إصلاح
الخطاب الديني: من خلال دعم قيادات
دينية تفهم الواقع الجديد، وتتحدث بلغة الجيل وتربطه بالقيم لا بالمظاهر.
- تمكين
التعليم النقدي: لإنتاج
وعي ديني لا يخاف من الأسئلة، ويُشرك العقل في فهم النص.
- تطوير
الفضاء الثقافي: لدعم الفنون والأدب
والفكر الذي يظهر الدين كرافد إنساني، لا كمؤسسة انغلاق.
- الربط
بين الدين والمواطنة: تأكيد أن الإسلام،
كمنظومة قيم، لا يتناقض مع الانتماء الوطني والاندماج المجتمعي.
يمكن القول
ختامًا أننا لسنا أمام صراع بين الدين والحداثة، بل أمام أزمة في فهم الدين ذاته،
وفي كيفية توظيفه. المطلوب ليس مزيدًا من التديّن الشعائري، بل نقلة من الدين
كهوية دفاعية إلى الدين كقوة تحرّر أخلاقي وفكري. فالدين، كما قال محمد
عبده، لا يُعادى العلم ولا الحرية، وإنما يُعادى الجهل والاستبداد. والمجتمعات لا
تتقدّم بعمق اللحى أو عدد المحجّبات، بل بعمق الفكرة، ورحابة العقل، واستقامة
السلوك.