كيف ومتى ولماذا اخترع الإنسان آلة موسيقية؟ أو، متى بدأ الإنسان الغناء
ولماذا يغني؟ وهل هذا أمر مصطنع أم استجابة لحاجة؟ أسئلة كثيرة يمكن محاولة
الإجابة عليها دون التأكد من أن هذه الإجابات هي إجابات قاطعة.
وظاهرة الغناء والموسيقى لا تتوقف عند الإنسان، فأشهر المغنين هي الطيور،
واستخدمت أسماؤها للدلالة على حُسن الصوت، أشهرها البلابل بأنواعها والشحرور وغيرها. ولما كانت
الحيوانات لا تعرف لغة مصوتة تتكلم بها، فهي تستخدم أصواتها لتعابير مثل النداء أو التحذير وغير ذلك. وهي تغيّر في نغمات الصوت لإيصال تعابير
محددة.
فهل حاول الإنسان تقليد الطيور مثلاً وأصواتها الجميلة؟ لا شيء يسمح بقول
ذلك. فمن المعروف أن الإنسان يرتاح للأصوات الهادئة، ويخاف من سماع الأصوات
المذعورة. ولما كانت جملة التصويت، من الرئتين حتى الفم، قادرة على التدرج من
إنتاج الأصوات من الهادئ المريح إلى الصوت القوي المخيف، فهذا يعني ان للإنسان أداة غناء
مميزة.
أما لماذا الغناء؟ فهناك من قال بأن ذلك كان أداة لدى الذكور لاجتذاب
الأنثى، ولكن هذا الرأي ضعيف. فهناك وسائل لا نهائية تساعد على هذا الجذب، والغناء
ليس الوسيلة الوحيدة. كما أن الغناء الجيد ليس بمقدور كل الذكور، وهو يحتاج إلى
تعليم وإلا فقد تكون النتيجة عكسية! ومن بين أقوى الاعتبارات هو غناء الأم لطفلها. الطفل الذي يحتاج إلى
الاطمئنان، أو التهدئة تمهيداً للنوم. وهو وسيلة للتواصل بين الأم والطفل وتوثيق
الروابط بينهما. هناك فرضية أخرى تقول بأن الغناء هو وسيلة يستخدمها الناس أحياناً
لمقاومة الخوف وجذب الاطمئنان، وهي فرضية مقبولة أيضاً. كما أن الغناء وسيلة
للتسري ومقاومة الوحدة، كما يفعل الرعيان حتى اليوم. كما أنه وسيلة طبيعية للتعبير
عن الفرح ... المسألة الصعبة في هذا الأمر هي أنه لم يكن ممكنناً ترك أثر
عن الأصوات يمكّن علماء الآثار من تتبعها ودراستها.
وهذا هو حال الموسيقا. فمتى بدأ الإنسان استعمال آلة موسيقية؟ هو سؤال يصعب
الإجابة عليه، ذلك أن أول الأدوات الموسيقية هي إصدار الأصوات من غير الغناء، والتلاعب بهذه الأصوات فيما يشبه الموسيقا. أو اليدين
للتصفيق أو القرع، قرع عصى على صخرة أو جزع شجرة. أو ربما آلات بدائية صنعت من
مواد لا تقاوم الزمن فاندثرت آثارها، مثل القصب أو الأوتار الحيوانية أو النباتية.
وما عُثر عليه حتى الآن هو ناي مصنوع من عاج فيل الماموث المنقرض في منطقة
تعود إلى ألمانيا الحالية. يعود تاريخ هذا الناي إلى 40 ألف سنة، كما عثر على بعض
الناي المصنوع من عظام طائر البجع. وفي كلا الحالتين فقد تمت الاستفادة من
الاسطوانة العظمية بإحداث ثقوب فيها بعد تشذيبها. كما عثر على قطع عظمية صغيرة
أُحدث فيها ثقب واحد لاستخدامها في الصفير. بعض علماء الآثار يقول بأن أدوات عظمية
أكثر بدائية استخدمت كأدوات موسيقية نفخية تعود إلى أكثر من 60 ألف سنة... وفي كل
الأحوال فإن هذا التاريخ يبدو أنه بداية الإنسان الموسيقي.