بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 نوفمبر 2024

أرض النسيان / فرانسيسكو كولوان




 فرانسيسكو كولوان
أصبح المشهد كئيباً مع توغلنا في الداخل ومثيراً للقلق على نحو متزايد. الجانب الموحش لبعض الممرات الجبلية يجمّد القلب؛ حتى الأحصنة ترفع آذانها، خوفاً من شيء غير مرئي ولكنه قوي بقوة الصخرة العارية.

كان الممر الذي كنا نسير عليه حافة الهاوية أحياناً وعندما كان ينكشف أمام نظرنا مرأى سيل جارف، يتلوى في قعر سحيق، كنا نتوقف لثانية مستندين إلى الجدار الصخري الذي كان يبدو راغباً في دفعنا في الفراغ. لم نكن شيئاً يذكر، منتصبين بالكاد على ركاب أحصنتنا، نتمسك بشدة باللجام، وتأخذ الأحصنة بخطوة واثقة طريقها على الأرض المليئة بالأحجار والحصى.

رأينا البحر للمرة الأخيرة عند وصوولنا إلى منحنى اتسع عنده سفح الجبل. كان هذا وكأننا كنا نتخلى عن شيء ثمين لن نستعيده أبداً.

فهمنا وقتها ذلك القلق الرتيب الذي سيطر علينا في تلك المنطقة المقفرة. البحر المستحوذ والعنيف عندما نبحر في مائه، كان يبدو لنا من البعيد كرفيق لا يعوّض، اتساع هائل هادئ يجلب مرآه الاطمئنان ويوقظ شعوراً مبهماً بالأمل.

هناك مشاهد ومناظر تبقى محفورة إلى الأبد في الذاكرة تفرض نفسها علينا بقوة عارمة كلحظات من وجودنا. هذه النظرة الأخيرة التي ألقيناها على البحر كانت واحدة من تلك اللحظات، وهناك أدرنا رؤوسنا مرة أخيرة لكي نغرف قليلاً من ذلك الأمل قبل أن نتابع الرحلة وندخل تلك الأرض بالكامل.

انقطع الطريق الموازي لنهر ريو بيكر فجأة بسبب هوة شديدة الانحدار، وهو موقع يمتد من عنده واد هائل تحت ناظرنا المشدوه، الذي فرقت الريح أعشابه بما يشبه جلد القضاعة الناعم عندما تمر عليه نفخة تاجر الفراء. كان ذلك فجوة حفرها جرف ثلجي قديم جداً في قلب الجبل، اختفى اليوم وأحاله الطين الغريني أرضاً خصبة.

كان علينا أن نغير الاتجاه والتحرك نحو الجنوب بحثاً عن ممر يمكن أن يسمح لنا بالنزول. ولم يكن ذلك إلا بعد عدة ساعات من السير حتى بدأت سلسلة الجبال الشديدة الانحدار بالانخفاض، واستطعنا رؤية قعر الوادي الذي اختفى في البعيد خلف الجبل. سماء بلا ضوء كانت تسمح لنا بالكاد أن نميز بين شيئين كانا يثيران فضولي: كان طرف الوادي يخلق سوراً من الجليد المستند إلى الجبل ويبدو أنه يسنده مثل إسفين؛ وفي الأسفل، عند أقدامنا، بقرب دغل من السنديان القزم، في قمة الرعن الأول الذي ينحدر إلى الوادي، لاحظنا كوخاً أكله الصدأ، صغير وقاتم، شاذ، كما لو أنه قُذف به إلى هنا، في ذلك الشق المنسي من الأرض.

بعد نزول طويل كان بإمكاننا أن نطأ ذلك السهل الذي كان عشبه الطويل يلامس ركاب خيولنا. كانت تعّم ذلك المكان عزلة كئيبة، الذي كنت أتخيله عندما كنت في القمة واحة هانئة لأعيننا. كان العشب ينمو بوفرة، يانعاً كما في أرض مزروعة؛ لكن لا طير ولا حشرة ولا حيوان يكسر الصمت الذي تطرده من وقت لآخر نسمة ريح.

أذكر واد مماثل،حفره قديماً جليد هائل في خليج ينديغيا الكائن في قناة بيغل؛ ولكن الإنسان هناك أدخل همس الحياة واثني عشر ألف خاروف يرتعون في السهول التي اخضرّت هي بدورها على بقايا الجليد القديم جداً.

توجهنا نحو الكوخ. أصبح الصمت أكثر فأكثر عداءً، مضطربين بين الفينة والأخرى بنعيب الريح التي تتماوج بين الغابات الباسقة؛ ثم استقر صمت مطبق من جديد.

فجأة يتجمد الدم في عروقي بسبب صراخ شاكٍ، توقفت الأحصنة مرتعبة على وشك أن تلقي بنا أرضاً. سيطرنا عليها بضربات سياط ومهماز. ومن بين كل الحيوانات فإن الأحصنة هي الأكثر التي تخاف من المجهول، كانت خياطمها ترتجف، لمع الخوف في عيونها واختلجت قوائمها من الرعب الأمر الذي لم يحدث معها إطلاقاً عندما كانت تسير على شفا الهاوية.

اطمأنت في النهاية لكثرة ما ربتنا على كتفها؛ لكن لم تمض إلا دقيقة حتى صدرت صرخة جديدة، أقل شدة من الأولى، تشبه عواء ذئب مريض أو جريح. في هذه المرة كانت بعض ضربات اللجام كافية لجعل الأحصنة تبقى ساكنة في مكانها.

توقفنا ننتظر. أصبح الصمت ثقيلاً لا يطاق.

لكن في اللحظة التي كنا سنعاود فيها السير برز حيوان غريب: كلب أجعد يذكّر بكلب الصيد السلوقي السريع، ولكنه كان كلباً بأنف أفطس وبعيني ذئب، قائمتاه الأماميتان عاليتان لدرجة أنهما كانتا تبدوان وكأنهما تجران الجسم كله، ووَبرٌ كث، متصلب وطويل مثل وبر الفقمة. كان خليطاً غريباً ومنفراً يذكّر بالضبع. ظهر بقربي، كنت أخشى أن يقفز على حصاني، هيأت بندقيتي وصوبتها نحوه. لكن صديقي في الرحلة كليفتون أمسك في الحال بماسورة البندقية وحرفها. ظهر في تلك اللحظة رجل بين العشب الطويل، أمسك بكلبه – لنسميه هكذا - من إحدى أذنيه، وتسمر بقربه.

اقترب منه كلفتون وقال له شيئاً لم أتمكن من سماعه. أجاب الرجل بصوت أبحٍ غير مفهوم، وأشار بذراعه إلى قعر الوادي كما لو أنه يدلنا على الطريق.

تقدمنا في الاتجاه الذي أشاره ذلك الشخص الغريب يتبعنا ممسكاً بكلبه من أذنه، حتى وصلنا الهضبة حيث الكوخ؛ لكنه لم يتركنا نستمر إلى الأمام. قطع علينا الطريق، متمتماً بصوته الأبح كلاماً غامضاً، ومهدداً باستعمال كلبه، ماداً من جديد بذراعه نحو الجبل في قلب الوادي.

غادرنا بالاتجاه الذي أشار علينا به، ولكنه كان يتابعنا بنظراته معتلياً أكمته. وجدنا أنفسنا بعيداً في الوادي عندما سمعنا عواء الكلب المرعب بقربنا؛ كان الحيوان على وشك الانضمام إلينا عندما انطلق صوت أبح من حنجرة الرجل. وقف الحيوان على قائمتيه، دار حول الأحصنة دوراناً مهدداً، رفع خطمه ليعوي وتراجع راكضاً باتجاه صاحبه.

بعد قليل، وحينما بدأنا بالصعود، سمعنا صرخة جديدة أقل حدة ولكن أكثر عمقاً، أصابتني بالذعر أيضاً؛ لكن الرجل والحيوان كانا بعيدين الآن وليس إلا الريح التي تعوي في الوادي المظلم.

أخذت العتمة بالحلول، ورويداً رويداً أصبح كل شيء معتماً ومنكمشاً كقلب وحيد؛ مثل قلب متحجر لهذه الطبيعة التي طحنت في نسيانها المديد آخر الآثار البشرية.

لم يكن كليفتون، الذي يملك مزرعة كنا نسير باتجاهها، شخصاً فصيحاً يستعجل تقديم التفسيرات. كان يترك الأشياء تتحدث عن نفسها، وإلا كان يتدخل ليقول ما يعرفه عن بحيرة أو عن حيوان أو جبل تركناها خلفنا. لا أعرف إذا كان ذلك صفة حكمة أو مزاج شخصي؛ ومهما يكن من أمر فهو لا يتحدث أبداً عبثاً ولا ننسى مباشرة ما يقوله.

عندما عبرنا الهضاب وبلغنا سفح الجبل حيث تبدأ غابة من البلوط، كانت الليلة حالكة لدرجة أننا قررنا التوقف.

أوقد كلفتون، الذي كان جبلياً خبيراً، ناراً عامرة التففنا حولها لتذوق اللحم المجفف الذي كنا نحمله في أكياسنا.

في اللحظة التي كنا نحضر فيها الأقداح المعدنية للقهوة، سألني بلا مقدمات:

- كيف تفسر حالة ذلك الرجل الذي قابلناه في الوادي؟

كان كلفتون يذهب مباشرة نحو القصد، كما لو أن حديثاً تمهيدياً قد جرى للتو ولم يبق إلا استخلاص النتائج.

- تفككٌ سببه الطبيعة، أجبته محاولاً أن أكون دقيقاً.

لكني أدركت في الحال أنني لم أكن إلا متحذلقاً، أضفت كما لو أني أعتذر:

- ذات مرة، أمضيت ثلاثة أيام على صخرة في البحر وعندما جاؤوا لإخراجي من هناك كنت أتحرك كسلطعون!

- لقد حدث لي ما تسميه "تفكك"، تابع كلفتون ماضغاً الكلمة وكأن في فمه حصى. تبدأ الطبيعة دائماً "بتفكيك" شخص قبل أن "تدمجه" كعنصر من عناصرها. ففي مرحلة أولى، يبدو أنه محكوم عليه بالاختفاء، وفي الواقع فإن البعض يموت؛ وفي الثانية، يولد من جديد تحركه قوة جديدة. ربما أن الطبيعة تنتقي هكذا هؤلاء الذين يناسبونها بالتخلص من الآخرين. وما أتحدث عنه جرى في أيام شبابي، كنت راعياً لمدة ثلاث سنوات في أرض النار، بالقرب من بحيرة فاغنانو. هناك بدأت بفقدان عادة القراءة؛ فما كنت أجده في الكتب كان يبدو لي تافهاً، لا مغزى له، وكنت أفضل صوت أوراق الشجر على أفكار أفلاطون الأكثر عمقاً. بعدها توقفت عن التفكير والتساؤل. لم أعد شيئاً وكان ذلك يؤلمني. ومن ثم أدركت أن التفكير الذي هجر عقلي حلت محله أشياء أخرى وكان ذلك نوعاً من إعادة الولادة: أصبحت رجلاً آخر. فأصبح للنبات في عيوني قيمة سحرية؛ ولكن لم أعد أرى الطحلب مجرد عشب مخضّر ينمو على القشرة الأرضية، ولكن كعنصر أكثر أهمية وأكثر غرابة يرافق وجودي، مثل كلبي أو حصاني. من القلق الساكن الذي بدأت ظلال الليل توقظه فيّ حتى غناء طيور البريق الأول للشفق، كل شيء هناك في الطبيعة وقبله كنت أفتقر إلى العيون والحواس والعقل للنظر والاستماع والتأمل.

"غادرت هذه الأماكن وقمت بجهد هائل لفتح كتاب وإشعال ذلك الضوء الضعيف فيّ الذي لا يسطع إلا بين أربعة جدران. كيف يمكن إدخال الحضارة في الطبيعة والطبيعة في الحضارة! آه! ... لا تعرف ما معنى أن تجد نفسك أمام موقد دافئ بين أربعة جدران في وسط تلك الوحدة!

عرفت كلفتون منذ الطفولة في بيونتا أريناس، عملنا معاً في مزرعة في شرقي أرض النار. كان كلامه على صورة حياته: كان يسير فجأة في الطريق الأقل توقعاً، بدون أن يعرف هو نفسه إلى أين سيصل، كانت له تلك الخصوصية، من بين أشياء أخرى، بالتوجه إلى محدثيه مقدراً أن ما يعرفه يجب أن يعرفه الآخرون أيضاً. لذا كنت أقاطع كلامه ببعض الفظاظة، وذلك لإعادته للحديث الأصلي الذ كان يبدو أنه قد تاه عنه.

- ماذا عن هذا الرجل في الوادي مع كلبه الغريب؟

- آه! ... الذي عاناه العجوز فيدال يتخطى "التفكك"، قال مؤكداً من جديد بسخرية من الكلمة. لا أستطيع شرح أمر الكلب كثيراً. يمكن أن نرى في متحف الساليزيان في بيونتا أريناس، حصاناً أعيد تركيبه له جلد مشابه في كل شيء لجلد الغوناق؛ إنه "حصان-غوناق" حقيقي. التهجين بين فقمة وكلب يبدو لي أمراً مستحيلاً ... لكن هذا ما يمكننا تخيله مع هذا المخلوق ... وبعد كل شيء إذا كانت السنوات التي عشتها بالقرب من بحيرة فلغنانو غيرت فيّ حتى طريقة التفكير، ومع أن الرب نفسه قد تحول فلما الطبيعة لم تحوّل هي نفسها أجيالاً من الكلاب إلى أن وصلت إلى تلك "السلالة" الغريبة؟ أذكر أني رأيت على جزيرة قناة موراليدا قطيعاً من الجرذان التي كانت تقذف بنفسها في الماء لصيد أسماك ومحار، كانت تتسلق الأشجار لاففة ذيولها حول جذوع الأشجار لاصطياد العصافير. تطورت ذيولها على نحو غير عادي وأقدامها أصبحت تشبه الزعانف. كيف وصلت تلك الجرذان إلى الجزيرة؟ لا أحد يعرف. ولا نعرف أكثر عن كيفية وصول هنود اليغهان إلى قناة بيغل! وإذا وصلوا بالقوارب الخشبية الصغيرة كما نفترض من المحيط حتى رأس القرن (كاب هورن)، فإن للجرذان أيضاً إمكانية الوصول إلى هذه الجزيرة الموحشة من قناة موراليدا، في صندوق مطلي بالشمع عقب غرق سفينة في قعر خليج كوركوفادو. علاوة على ذلك فإن رجال العلم يؤكدون أن الذئب والفيل والنمر والعجل البحري هم أقارب أقرانهم الذين يعيشون على اليابسة، الذين "تفككوا"، كما تقول، والذين "عادوا إلى الإندماج" في البحر. فلا يجب استغراب رؤية أحصنة بحرية تعدو في هذا الوادي المنسي، الذي يؤكد عديد من البحارة رؤيتهم في زبد الأمواج. لا تنس أنه يمكن أن يكون هناك أي شيء على هذه الأرض فقد عبرت حملات استكشافية ألمانية كثيرة قناة الباكر بحثاً عن العظاءة الكبيرة التي يعتقد أنها عاشت هنا.

أدركت أن كلفتون نسي تماماً بداية المحادثة وأن مواقع عديدة برزت في نفسه كان يستغرق فيها بيسر ويتفرع منها بلا نهاية. وعندما رأيته على وشك الضياع، أعدته بقسوة نوعاً ما إلى نقطة البداية.

- كل هذا عام جداً، ولكنك لم تشرح لي ما الذي حدث لرجل الوادي هذا؟

- آه! ... العجوز فيدال ... عمل لسنوات عديدة في الباتاغوني، بأمل أن يصبح يوماً مستقلاً وأن تكون له أرضه. ولكن كما تعرف، لم يبق في الطرف الجنوبي الأقصى من التشيلي قطعة أرض جيدة واحدة لا تمتلكها شركات تربية المواشي الكبيرة.

"سمع فيدال عن واد اكتشفه قاطعو أشجار السرو في أراضي قناة الباكر. وبعد أن استكشف المكان، قرر استثمار مدخراته، التي راكمها عبر السنين، على شكل خراف وأشكال مادية. وهكذا أصبح على رأس مزرعة صغيرة تضم بين ثمانية وعشرة آلاف رأس من القطيع.

"كان عليه القبول بالكثير من التنازلات الكبيرة لكي يحضر القطيع الأول. كان العشب وفيراً. وكل شيء يسير على ما يرام. أحضر زوجته وأولاده الأربعة، مع ستة أو سبعة عمال ورعاة، شكّل مستعمرة صغيرة كانت بيوتها بأسقفها الحمراء تبدو من بعيد كعلب أعواد الثقاب مبعثرة في الوادي.

"سمى هذه الأرض بالأرض الموعودة. كان يحمل الصوف على ظهر البغال إلى قناة الباكر ومن هناك كان يذهب إلى أيسن أو إلى كومودورو ريفادافيا. كان أحد مشاريعه استعمال السرو للجانب الشمالي للنهر لبناء طوافات لنقل منتجاته نحو قناة ميسيير، حيث تمر المراكب التي تذهب من مضيق ماجلان إلى خليج بيناس.

"لكنه لم يتمكن من بناء طوافاته. ولو أنه تمكن من ذلك، لما بقي على الأغلب هنا، كما رأيناه.

"في سنة ما، كانت الشمس قوية جداً، وكان هذا أمر نادر في تلك المنطقة، فذاب الجليد حتى طبقات الجليد القديمة جداً.

"بينما كان فيدال عائداً من النهر، حيث كان قد ترك بعضاً من محصوله من الصوف. وعندما وصل إلى طرف الوادي، كان المشهد أمام ناظريه مريعاً ... كل شيء كان قد دُمّر! سُويّ العشب بالأرض، وعلى التراب ألقيت جثث زوجته وأولاده وعماله التي بدأت في التفسخ، وقد التهمت النسور التي عشعشت في الوادي جزءاً منها. البيوت التي انتزعت من أساساتها تهشمت كعلب الكبريت. اختفى الجزء الأكبر من الخراف، ومن بقي من كلاب وأحصنة كان ممدداً على الأرض. كانت الكارثة هائلة.

أضرم كليفتون النار بالاستعانة بجمرة متوقدة وتأمل بصمت اللهب، الذي كان يتقلص مع تضخم قلب خشب البلوط برقصته من الظلال والأضواء.

- تابع كليفتون قائلاً إن هؤلاء الذين رافقوا فيدال قالوا إنه فقد القدرة على الكلام مباشرة. ولكن بعد فترة تمكنت من الحديث معه بالرغم من تلعثمه وفهمت ما رواه لي. حالياً، لديّ شعور أنه فقد اللغة تماماً، وكما رأيته أنت، فقد فَقَدَ الذاكرة، ذلك أنه لم يعرفني حتى. ربما أصبح مجنوناً أو لا، ولكن من الثابت أنه لا يمكن جعله يغادر الوادي. وبما تبقى من صفيح بنى تلك الخيمة الصدأة التي رأيناها من الأعلى وهو يعيش، لا يعلم إلا الله كيف، مثل شبح يسكن هذه المناطق، يرافقه كلبه الغريب.

"هذا الرجل، ارتبط بهذا المكان بسبب الألم، هل ينتظر أيامه الأخيرة؟ هل هي ذكرى زوجته وذكرى أطفاله، ومزرعته الوافرة ما يربطه بهذا الوادي إلى الأبد؟ لا أحد يعرف ما الذي يدور بخلد هذا الإنسان الذي صعقه القدر! ولكن لماذا الدهشة من سلوك فيدال، في حين أني رأيت صياداً يقذف بوجبته كل مساء في الأمواج في المكان نفسه الذي غرقت زوجته فيه! كان هذا الرجل ينتظر للحظة قبل أن يقذف بغذائه في الماء، كما لو كان يأمل عودة زوجته! ومن ثم يلقي بالخبز، قطعة بعد قطعة، وبمحتويات صحنه ملعقة بعد ملعقة، كما لو أنه لم يكن لديه أي شك بأنه يضع الطعام بفم زوجته التي أحبها كثيراً! ...

صمت كليفتون وأضرم النار من جديد. انعكاس اللهب يتراقص في عينيه الخضراوين اللتان يغشاهما مرور بعض الظل. احترمت صمته ولكن ذلك طال لدرجة أني خشيت أنه لن يتابع حكايته. هل يتصور، بحسب عادته، أني أعرف سبب تهديم مزرعة فيدال؟ وبلا اكتراث قاطعت تأمله.

- ما الذي حدث في الوادي إذاً؟

- آه! ...

شاعراً بأنه لم يكن عازماً على الكلام، أضفت:

- هل كان هو المد؟

- لا، البحر بعيد من هنا.

- لا تنس أنه في ألتيما إسبيرنزا يحدث أن يخترق البحر سلسلة الجبال حتى أطراف سهوب البامبا في الباتاغوني.

- نعم، ولكن مضيق ألتيما إسبيرنزا مختلف تماماً، يمكن أن يكون من الأصل نفسه الذي سبب كسر مضيق ماجلان. هذه حوادث هائلة؛ وبالمقابل فإن حادث قناة أو نهر باكر هو حادث صغير.

"سبب هذه التراجيديا هو طوفان، الذي من وقت لآخر وبطريقة لا يمكن توقعها، يغمر الوادي. من الممكن أن تمضي سنوات عديدة دون أن يحدث أي شيء، لكن في اليوم الذي لا نتوقع فيه أي شيء، ترتفع موجة هائلة وتغمر كل شيء. وما لم تستطع تدميره في تقدمها تأخذه معها في انحسارها بسرعة هائلة نحو مدخل الوادي، قبل أن تنخفض إلى مستوى مياه النهر.

"لقد فهمت الظاهرة بمراقبتي روافد الجانب الشمالي لباكر. عندما يكون الشتاء قاسياً والصيف معتدلاً، تحمل المياه كتلاً من الطمي ترفعه الأشجار الكبيرة العديدة المقتلعة، التي تنتهي محصورة عند الثغر مشكلة سدوداً. وفي يوم ما تتحطم هذه السدود، وتنفجر المياه هادرة رافعة مستوى الأنهار. مثل الباكر الذي يجري هو الآخر في وسط المضائق، وهذه المياه تفيض وتتقدم باتجاه الوديان والفجوات الموجودة على مستوى أدنى.

"وهذا ما حدث في مجرى ذلك الجليد القديم. تشكل سد على أحد أفرع الباكر وبذوبان غير معهود فاضت المياه على الوادي محطمة كل شيء على طريقها.

سألته: لم يرغب أحدٌ من يومها بالاستقرار هنا؟

- لا أحد! أجاب كليفتون. من مضيق ماجلان حتى خليج بيناس، نجد بين الممرات البحرية والأقنية عدداً من الوديان الجميلة مثل هذه، ولكن لا أحد يعرف لماذا هي مهجورة. إنها أراضي النسيان.


الاثنين، 4 نوفمبر 2024

الصفر كائن بلا قوام

 

 

بالرغم من حضوره في الحياة اليومية منذ عدة قرون بأشكال مختلفة، إلا أن اختراعه لم يكن بالسهولة التي نتعامل فيها معه اليوم. فهناك ثقافات لم تعرفه أصلاً، وهناك ثقافات قاومت دخوله إليها في واعتبرته أمراً بالغ التعقيد كما كان الأمر في أوروبا القرن الثالث عشر. ولكنه يشغل مكانة الصدارة في الحضارة السائدة اليوم.

وهو في الحقيقة كائن غريب. ذلك أنه يعني في إحدى صوره أنه لا شيء، ولكن مجرد الحديث عنه يعني أنه شيء. فعند قولنا إن ما نملك الآن من النقود هو الصفر، فهذا يعني أن جيوبنا فارغة وأننا أنفقنا ما كان فيها من نقود ولم يبق منها شيء. نشير إليه أحياناً ببسط اليد للدلالة على اليد الخاوية. ونجمعه بالقول "أصفاراً"، وهذا ليس بالجمع الرياضي، ذلك أنه دون الأرقام والأعداد كلها، فجمع الكثير منه يساويه نفسه، وجمعه مع غيره لا يزيد ولا ينقص في الأمر شيئاً على غير باقي الأرقام والأعداد إلى غير ذلك من خواص سنأتي على ذكرها لاحقاً.

ونقول ساعة الصفر، ونتحدث عن درجة حرارة الصفر، الصفر المئوي والصفر المطلق. وهو دلالة الخيبة والفشل كمن عاد صِفر اليدين، أو نال درجة الصفر في اختبار أو امتحان. وهو على غير عادة الأرقام، لا نلفظ اسمه عند قراءته كما في حالة العدد 309، فالثلاثة والتسعة تُلفظان أما هو فلا بالرغم من أهميته. ولكنه هو الذي يعطي للثلاثة دلالتها، ومن غيره في مثالنا فستصبح بعِشر قيمتها. وعند وضعه إلى يسار عدد فلا يُغيّر فيه شيئاً، وعند وضعه إلى يمين العدد فيضاعفه بعشر مرات.

والصفر في الواقع هو أنواع، ربما ثلاثة أنواع، تشترك في الرمز نفسه وتتباين في المعنى والدلالة. وهو لم يستخدم الاستخدام نفسه منذ أول مرة ظهر فيها هذا. وهو بحسب أستاذ الرياضيات الأمريكي توبياس دانتسيغ[1] (1884-1956)، كما يقول في كتابه ّالعدد: لغة العلم": "إن اكتشاف الصفر في تاريخ الثقافات يتميز دائماً بأنه إحدى أعظم إنجازات الجنس البشري". وهو كلام محق جداً، فلولاه لعانينا من صعوبات كبيرة في مسيرة التقدم.

وبالرغم من أن العدّ بدأ منذ العصر الحجري الوسيط كما تشير إلى ذلك بعض العِظام التي عُثر عليها هنا وهناك، إلا أن العدّ كما نعرفه لم يظهر إلا مع حضارات ما بين النهرين والحضارة الفرعونية ثم الصينية، كما ظهر في حضارات أمريكا اللاتينية. ولكن الصفر لم يستعمل على نحو مؤكد، فيما نعرف حتى الآن، إلا مع نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. أما ظهوره فيعود على الأغلب على القرن السابع قبل الميلاد لدى البابليين. وصفر البابليين هو غير الصفر الذي نتحدث عنه باعتباره قيمة، وإنما كان للإشارة إلى الخانة الفارغة كما في مثالنا السابق 309. وهو لم يكتب بهذا الشكل، ولا الأرقام الأخرى.

ولكن لماذا لم يظهر لدى المصريين الفراعنة أو الصينيين أيضاً أو غيرهم؟ الأمر يعود في الحقيقة إلى تباين أنظمة العدّ، فنظام العدّ البابلي يختلف عن نظام العدّ المصري وعن الصيني. سنتعرّف بعجالة على نظامي العدّ البابلي والمصري دون أنظمة العدّ الأخرى لمشابهتها الواحد أو الآخر بطريقة ما.

نظاما العدّ المصري والبابلي

نظام العدّ المصري


يلخص الشكل (1) فحوى نظام العد المصري الأول، كما أظهرته بعض أوراق البردي، وهي ليست كثيرة[2]، التي استقيت منها معرفتنا بنظام العدّ المصري القديم.

نرى في هذا الشكل الرقم واحد مشاراً إليه بخط شاقولي صغير، ولا يوجد اثنان أو ثلاثة، وإنما رصف هذه الخطوط بجنب بعضها يسمح بتشكيل الأرقام حتى التسعة. أما العشرة فلها شكل القنطرة، وكتابة العدد 11 تكون بخط شاقولي وقنطرة، ويمكن كتابة أي عدد حتى 99 باستخدام هذه الرمزين، فالعدد 95 مثلا يكتب برصف تسع قناطر وخمسة خطوط. ليس للترتيب هنا أية قيمة، وإنما من المستحسن جعل القناطر مع بعضها والخطوط كذلك كي يسهل التعرف إلى العدد المطلوب. بعد ذلك يكون رمز المائة الذي يشبه حرف الواو في العربية، ثم الألف والعشرة آلاف والمائة ألف ثم المليون.  


في الشكل (2) نرى في يساره الرمز الخاص بمائة ألف مكرر أربع مرات، وهذا يعني أننا أمام العدد 400000، والمعدود هو الثيران، وفي الرسم الأوسط من هذا الشكل نرى رمز المليون ورمز المائة ألف مكرر أربع مرات ورمز العشرة آلاف مكرر مرتان ورمز الألف مكرر مرة واحدة، والمحصلة إذاً هي 1422000، والمعدود هو الماعز. أما في الرسم اليميني فنرى رمز المائة ألف غير مكرر في حين أن رمز العشرة آلاف مكرر مرتان، أي أن المحصلة هي 120000، والمعدود هو رجل مكتوف اليدين، أي سجين. وهذا الشكل مأخوذ في الواقع من لوحة تعود للفرعون مينا لعام 3150 قبل الميلاد، تُظهر نتائج معركة فاز بها وسجل ما ظفر به.

ولكن كتابتهم للأرقام والأعداد تطورت مع الزمن. فبعد أن عرفوا الكتابة باستخدام الحبر وأوراق البردي جعلوا لكل رقم من واحد إلى تسعة رمزاً خاصاً به، وكذلك للعشرات، من عشرة إلى تسعين، ثم المئات، من مائة إلى تسع مائة، ثم الألف والألفان إلى تسعة آلاف. وكان في هذا تبسيط كبير للكتابة الأعداد. ولكن هذا كان يتطلب معرفة برموز الأرقام والأعداد، معرفة كتابتها وقراءتها.

وكما نلاحظ هنا فليس لهذا النظام حاجة إلى صفر الخانة، فهو ليس بنظام خانات وإنما هو نظام عدّ جمعي، وعلى قارئ العدد أن يجمع رموزه ذهنيا ليعرف مقداره. فالعدد 309 سيكتب برمز الواحد مكرراً تسع مرات مع رمز المائة مكرراً ثلاث مرات، وبذلك فلا داع للصفر.

 

نظام العدّ البابلي والصفر الأول


استخدم البابليون، رمزين في العدّ، الأول شبيه بالمسمار (ومنه جاءت تسمية كتابتهم بالكتابة المسمارية) للإشارة إلى الواحد. ويشار إلى الاثنين بمسمارين، والثلاثة بثلاثة مسامير، وهكذا. الرمز الثاني هو الذي يشير إلى العشرة، وهو على شكل زاوية حادة رأسها إلى اليسار. فكتابة أحد عشرة كانت برسم الواحد وإلى يساره العشرة، والعدد 34 مثلاً كان برسم أربعة مسامير وثلاثة زوايا إلى يسارها. يُظهر الشكل (3) كيفية كتابة الأعداد من الواحد إلى 59.


قبل أن نمضي قدماً، لنتذكر أننا في نظامنا العشري (القائم على العشرة، أو الذي أساسه عشرة) نكتب الأعداد على أساس أن أولها في اليمين هو الآحاد، وإلى يساره تكون العشرات وإلى يسارها تكون المئات ثم الآلاف وهكذا. سنستعمل هذه التسميات فيما يلي ولكن على أن نعرف أن "الآحاد" في النظام البابلي ستكون من 1 إلى 59، ثم "العشرات" فتكون من 60 إلى 3599، ثم "المئات" فتبدأ من 3600 إلى... لنعود الآن إلى نظام العد البابلي بمعالجة أمثلة أخرى. لنأخذ العدد 117 مثلاً، فهو 60 مضافاً إليها 57، لذا برسم واحد (مسمار) في اليسار ثم خمس عشرات إلى يمينه ثم سبعة مسامير إلى يمينها ليكون الإجمالي 117 كما يظهر في الشكل (4).
لنأخذ كمثال آخر العدد 221، وهو عبارة عن  180 (ثلاثة أضعاف الستين) و 41. وهذا يعني رسم ثلاثة مسامير في اليسار ثم أربع عشرات إلى يمينها ثم مسمار واحد ليتشكّل العدد المطلوب.  العدد 41 يقابل الآحاد في نظامنا العشري الذي نستخدمه حالياً، أما الثلاثة مسامير التي تشير إلى العدد 180 فتقابل العشرات في نظامنا العشري، وهو هنا جداء ثلاثة في ستين. وما يقابل المئات فهو يقابل الستون مضروبة بنفسها، على شاكلة مرتبة المئات في نظامنا التي هي جداء العشرة بنفسها. لذا فإن كتابة عدد مثل 3645 تكون على ما يبينه الشكل (5). ذلك أن العدد 3645 هو 60
x
60 و 45، أي علينا أن نضع مسماراً في عمود "المئات"، ولا شيء في عمود "العشرات"، وأن نضع 45 في عمود "الآحاد". وهنا تظهر مشكلة عمود "العشرات" الخاوي من حيث المبدأ، فكيف سيُرمز إلى ذلك؟ لجأ البابليون لفترة إلى ترك فراغ في هذا العمود. ولكن مثل الفراغ كان له أن يثير التباسات أحياناً، خاصة أن تحديد مقدار اتساع هذا الفراغ كان متروكاً لمزاج الكاتب، فإن كان صغيراً ظن القارئ أن لا فراغ، وكان لهذا أن يخلق مشكلة كبيرة. ولمعالجة الأمر اخترع البابليون رمزاً خاصاً على شكل مسمارين متوازيين مائلين إلى اليسار يوضعان في العمود غير الموجود كما يُظهر الشكل (5) ذلك بخصوص تمثيل العدد 3645، الذي يجب أن يُقرأ على أنه:
 60x60+0x60+45=3645.

وكان ذلك أول رمز يشير إلى الصفر. يجب الانتباه هنا إلى أنّ هذا الصفر هو ليس صفر قيمة، أي أنه ليس رقماً أو عدداً وإنما هو فقط للإشارة إلى خلو العمود من القيمة. لنذكر أن البابليين كان يستخدمون "صفرهم" هذا في الأعمدة الداخلية للعدّ، ولكن إن كان الصفر في أقصى اليمين فلا يشيرون إليه وإنما على القارئ أن يعرف إن كان هناك صفر أو لا وذلك من خلال السياق. فوضع مسمار واحد عند الحديث عن مجموعة من الجنود يعني أن المقصود هو 60، والحديث عن جيش برسم مسمار واحد لا يعني أن الجيش مؤلف من جندي واحد وإنما هو 3600 جندي، أي أن مرتبة الآحاد خاوية وكذلك مرتبة العشرات. طبعاً قد يكون الأمر أكثر من ذلك، أي أن تكون مرتبة المئات أيضاً خاوية، وإنما المقصود هو مرتبة الآلاف، أي أن الجيش مؤلف من 60 مضروبة بنفسها ثلاث مرات لنحصل على العدد 216000 وهذا غير معقول في تلك الأيام، إلا إذا كان المقصود حرباً هائلة شاركت فيها جيوش عدة.

إذن، احتاج نظام العدّ البابلي الصفر ولذلك اخترعه، أما نظام العد المصري فلم يكن بحاجة له. ومع هذا فكان المصريون يشيرون إلى المستوى الصفري عند البنا، بناء الأهرامات مثلاً، للإشارة إلى الخط الفاصل بين ما فوق الأرض وما تحتها ولكن دون أن يأخذ ذلك معنى رياضياً وإنما كلمة اصطلاح.

يبقى سؤال المهم: لماذا لم تكتشف الحضارة الإغريقية صفر الخانة أو الصفر الحسابي بالرغم من تقدمها الكبير في الرياضيات؟ فكتاب


إقليدس في الرياضيات "العناصر" لا يزال حتى اليوم العماد الرئيس في تعليم الرياضيات في المرحلة الثانوية. الجواب في شقين. الأول لأن نظام عدّهم اعتمد على الحروف الأبجدية، بعد أن أضافوا لها ثلاثة رموز خاصة، ذلك أن أبجديتهم تتألف من 24 حرفاً، الشكل (6). وكان لكل حرف قيمة ومرتبة على طريقة نظام العدّ المصري، وكانوا يشكلون الأعداد برصف الحروف بجنب بعضها مع وضع شحطة فوقها للدلالة على أن المقصود هو عدد وليس كلمة. وبالتالي فلا حاجة لهم بصفر الخانة. الثاني أنهم اهتموا بالهندسة أكثر من الجبر، وحتى الحسابات كانوا ينجزوها هندسياً. فإقليدس هو من برهن المتطابقات الشهيرة، وكان برهانه هندسياً.

 

الصفر الحسابي، الصفر الثاني

ظهر الصفر الحسابي في الهند. وأول نص يشير إليه يعود إلى عام 628 ميلادية في قصيدة في كتاب يمكن ترجمة عنوانه بـ"فتح الكون" وضعه الفلكي وعالم الرياضيات الهندي براهماغوبتا، وأعطى الصفر كلمة "سونيا" التي تعني الخلاء. ووضعه في قصيدة إنما كان لتسهيل تداوله عن ظهر قلب، وهو ما كانت عليه الكثير من الحضارات التي تتناقل معارفها شفهياً. فالكتابة كانت للمدرسين أو للتوثيق. تشير بعض الوثائق إلى أن هذا الصفر كان معروفاً منذ القرن الرابع في الهند ولكن دون الإشارة إلى تعريفه أو مصدره أو خصائصه.

ذكر براهماغوبتا في قصيدته خصائص صفره، وعرّفه بأنه باقي قسمة عدد بآخر بدون باق، وأنه في حالة الشكل الرباعي الأضلاع يقابل اختفاء أحد هذه الأضلاع ليتحول الشكل الرباعي إلى مثلث. أو ما يكافئ بطرح عدد من نفسه ومن ثم فلن يكون من باق. وفي كل هذه الحالات يكون هذا هو السونيا. ويمكن وصفه بأنه ما يبقى في الجيب بعد إنفاق ما فيها. أما الشراء بأكثر مما في الجيب فيعني الاستدانة أو العدد السالب. وتحدث براهماغوبتا عنه وعن إشارة قسمته بعدد موجب أو عدد سالب. وعدد خصائص الصفر. وقال إن من خصائصه أنه عند جمعه مع نفسه يبقى الناتج هو الصفر نفسه على غير الأعداد الأخرى، وأن إضافته إلى أي عدد لن تكون نتيجة الإضافة سوى العدد نفسه، وتابع القول بأن جداء الصفر بأي عدد سيكون الصفر نفسه على خلاف جداء أي عدد بعدد آخر. وقال أيضاً بأن قسمة الصفر على أي عدد هي الصفر، وأن قسمة أي عدد على الصفر هي الصفر نفسه، وهذه الأخيرة خطأ لا يغتفر في الرياضيات. فكل ما قاله براهماغوبتا كان صحيحاً إلا الجملة الأخيرة. وفي كل الأحول فقد أعطي لهذا الكائن الجديد اسماً وأصبح مرادفاً لقيمة معدومة.

ومن المرجح أن براهماغوبتا لم يكن الأول باستعمال هذا الكائن، ولكنه الأول من كتب عنه وعدد خصائصه. فقد استعمل الهنود الصفر للخانة قبل براهماغوبتا، وعالجوا مسائل حسابية كثيرة كانت بحاجة للصفر، ولكن ليس لدينا وثائق كافية للتأريخ للصفر القيمة قبل كتاب "فتح الكون".

ومن بين ما وضعه الهنود هو الأرقام المعروفة اليوم. التي تعطي رمزاً خاصاً، وليس حروفاً أبجدية، والأعداد تكتب بحسب النظام العشري الذي نعرفه، ولم يتغير من أول معرفتنا بها. وقد ذكرها أول مرة في بلاد الرافدين المطران النسطوري ساويرا سابوخت (575-667) عقب عودته من الهند عام 662 مشيداً بنظامهم في العد والمؤلف من تسعة أرقام (وليس عشرة أرقام بما يعني أن الصفر لم يكن قد استخدم في كتابة الأعداد وقتها). تُسمى، عالمياً، هذه الأرقام خطأ بالأرقام العربية، وهي في الواقع أرقام هندية نقلها العرب إلى العالم الذي عرفها عن طريقهم فسُميّت باسمهم.

استعمله العرب في الحساب والجبر وكان في نظام عدهم. فقد ظهر في كتاب السجستاني عام 969 مع مجموعة الأرقام الأخرى، أي أصبحت الأرقام عشرة أرقام. ربما ظهر قبل ذلك، ذلك أن الأعداد غالباً ما كانت تذكر كتابة وليس برموزها الخاصة. ولكن هذا الصفر هو صفر المرتبة وليس الصفر الحسابي.

يقول القفطي في كتابه تاريخ العلماء بأم الأرقام الهندية وصلت إلى الدولة العباسية أيام الخليفة المنصور حملها إليه هندي في كتاب، يعتقد أنه كتاب براهماغوبتا، يتحدث فيه عن كيفية حساب زوايا النجوم، فأمر الخليفة بترجمة الكتاب للاستفادة منه. وهناك روايات أخرى تقول بوصولها على نحو طبيعي نتيجة الاحتكاك مع الهند التي كانت قريبة من الإمبراطورية العباسية وبسبب التجارة أيضاً. وأيا ما كان، فقد وضع الخوارزمي كتابه "الجمع والتفريق في حساب الهند" عام 825 تقديراً، وهو كتاب مفقود في العربية، تُرجم إلى اللاتينية في عام 1123 بعنوان [3] Algoritmi de numero Indorum، وتوجد نسخة منه في مكتبة فينّا. يشرح فيه الخوارزمي كيفية إجراء الحساب باستخدام نظام العد العشري.

 

انتشار الصفر

والواقع أن الصفر لم ينتشر بمفرده كمفهوم عام بالمعنى الذي ذكره براهماغوبتا وإنما انتشر أولاً بمعنى خلوّ الخانة، أي مع الأرقام العربية التي وصلت أوروبا مرتين، المرة الأولى كانت عن طريق إسبانيا، والثانية عن طريق الجزائر. وفي الثانية انتقل الصفر بالمفهومين، صفر الخانة والصفر الحسابي. وفي المرة الأولى كان الأمر مجرد تعرف بقي في نطاق ضيق، وكان وراء ذلك الراهب جيربير دو أورياك الذي أصبح بابا روما باسم سيلفستر الثاني بين عامي 999 و 1003، وكان راهباً عالماً، تعرّف إلى جداول حساب مواقع النجوم على يد علماء عرب عند إقامته في الأندلس، وتعرف إلى نظام العدّ العربي (الهندي) وتعامل معه، لكن مهامه الدينية حالت دون نشره فعلياً لنظام العد العربي واندثرت تلك المحاولة معه.

أما المرة الثانية فكانت على يد الإيطالي ليوناردو بيزانو المعروف باسم الشهرة ليوناردو فيبوناتشي، الذي كان يرافق أباه التاجر إلى ميناء ومدينة بجاية الجزائرية، وهناك تعلم نظام العدّ العربي والعمليات الحسابية. ومن المرجّح أنه زار العديد من المناطق على سواحل المتوسط العربية، وتعرّف أكثر إلى ما كُتب في العربية عن الحساب والجبر. وعند عودته إلى إيطاليا وضع كتاب الحساب (Libre abaci) عام 1202، قدّم فيه نظام العد العربي والصفر ودوره في نظام العد ومعناه الحسابي.

كان الأوربيون حتى ذلك الوقت يستخدمون نظام العد الروماني، وهو نظام عدّ يستخدم بعض الحروف اللاتينية ليلحق بها أرقاماً أو أعداداً، مثل الحرف I للإشارة إلى الواحد، والحرف V للإشارة إلى الخمسة، والحرف X للإشارة إلى العشرة، وهكذا ليشكل منها مختلف الأعداد، وهو نظام لا يزال قائماً ويستخدم في الإشارة إلى ترقيم الفصول في الكتب الغربية أو في ترقيم صفحات تقديم كتاب، وإلى الساعة في ساعات الطرق والمحطات. ولكن هذا النظام لم يكن عملياً في إجراء الحسابات.

رحّب التجار بكتاب فيبوناتشي وبنظام العدّ العربي والحساب فيه، ولكن الأمر لم يكن كذلك في كل مكان، فقد رفضته الكنيسة وحاربته، وقالت بأن أرقام هذا النظام يمكن التلاعب بها وهي ليست بثبات الحروف اللاتينية، التي هي لغة الكنيسة الرومانية. كما أن فكرة الصفر واجهت صعوبة في قبولها لدى الكثيرين، وأصبحت هذه الكلمة مرادفة لمعنى صعوبة الفهم. ومن كلمة صفر العربية وضعت كلمة  chiffre الفرنسية وكلمة cypher الإنكليزية، وهما كلمتان لا تزالا قيد الاستخدام. فكلمة déchiffrer الفرنسية تشير إلى معنى فك الغموض أو إيجاد المعنى، وهو المعنى نفسه لكلمة deciphring الإنكليزية. ولم يدخل الصفر العالم الغربي وقبوله تماماً وفعلياً إلا مع نهاية القرن الخامس عشر.

أما عن شكل الصفر، فهل هو النقطة أو الدائرة المستطالة عمودياً؟ في الواقع هناك دلائل كثيرة اختلطت فيها النقطة بالدائرة، فمرات نرى النقطة ثم الدائرة ثم النقطة إلى أن استقر الأمر على الدائرة، إلا في الأرقام العربية الشرق أوسطية إذ يُكتب نقطة، وكذلك في الأبجديات المماثلة للعربية.

هناك من يقول بأن أول من كتب الصفر على شكل دائرة كان بطليموس في كتابه المجسطي الذي حدد فيه مواقع بعض النجوم ومتى وكيف رصدها، واستعمل الحرف الإغريقي أوميكرون ο

للإشارة إلى أن بعض مكونات الزاوية عند رصده النجوم، من درجات أو دقائق أو ثوان، كانت بلا قيمة. ولكن كتاب المجسطي اختفت نسخه ولم يعد موجوداً إلا في قلة قليلة من الكنائس البيزنطية، وعاد للحياة مع ترجمته إلى العربية في القرن التاسع الميلادي، ولم يعمل به أحد بين سقوط الإمبراطورية البطلسية وقيام الدولة العربية.

عُثر على حجر منحوت في أحد المعابد الكمبودية كتب عليه الرقم 605 مع استعمال نقطة  كبيرة للإشارة إلى الصفر، ويعود هذا
الحجر للعام 683 ميلادية. كما عثر على كتابة منحوتة على الحجر تعود لعام 876 دوّن عليها الرقم 270 بالشكل المكتوب هذا، أي ان الصفر له الشكل المتداول حالياً أو قريب منه. كما جاء في أحد مقاطع كتاب للسجزي يعود لعام 969 وآخر للبيروني يعود لعام 1082 كتبا فيهما الصفر على شكل دائرة.

الصفر الثالث

الصفر الثالث هو مزيج من الصفرين الآخرين، وهو الصفر المستخدم في الحاسوب. فالحواسيب تستخدم نظام عدّ يقوم على الخانات، ولكن برقمين فقط، هما الصفر والواحد، ونسميه "نظام العدّ الاثناني". فالعدد 10 في هذا النظام يقابل العدد 2 في النظام العشري، والعدد 11 في نظام العد الاثناني يقابل العدد 3 في نظام العد العشري، والعدد 10000 في نظام العد الاثناني يقابل العدد 16 في نظام العدّ العشري، وهكذا. وسبب اعتماد نظام العد الاثناني في الحواسيب هو إمكانية تمثيلهما فيزيائياً. فمرور التيار الكهربائي يقابله 1 وانقطاعه أو عدم وجوده يقابله 0. وفي هذا النظام يمكن إجراء كل العمليات الحسابية والمنطقية بالاعتماد فقط على الصفر والواحد دون الحاجة لأي شيء آخر.

وفي الخلاصة، فلولا الصفر الأول لواجهنا صعوبات جمّة في العدّ، ولولا الصفر الحسابي لما عرفنا كل التقدم الذي وصلنا إليه في الرياضيات، ولولا الصفر الثالث لما كانت هناك الحواسيب والهواتف الذكيّة التي نعرفها. كل هذا لا يعني أننا لم نكن لنتطور كما نحن عليه الآن، ربما كان لنا أن نتطور بأكثر أو بأقل، لا أحد يعرف، فالعبقرية الإنسانية كانت حاضرة دائماً لتتفتق بالحلول الجديدة للمسائل الشائكة.

 



[1] TOBIAS DANZIG (1884-1956),  Number: The Language of Science

 

[2] سبب عدم العثور على الكثير من أوراق البردي يعود بالدرجة الأولى إلى أن هذه الأوراق يصيبها التلف بفعل العوامل الجوية، إضافة إلى أن أعمال التنقيب كانت موجهة بالدرجة الأولى إلى القبور والمباني دون الاهتمام كثيراً بالحياة اليومية.

[3]  ومن هذا العنوان جاءت تسمية "الخوارزمية" المستخدمة في المعلوميات، والتي تعني خطوات متتالية منتهية لحل مسألة.