المراهق ذو الذقن البيضاء
تبدأ حكايات الطفولة دائماً بفاتحة "كان يا ما كان"، التي تفتح
لنا أبواباً واسعة للخيال. لا أجد صيغة أفضل من ذلك للحديث عن فرانسيسكو كولوان.
يحملنا سحر الأدب إلى كوخ من الخشب حيث تشتعل نار في الموقد، يفتح الأفق على
المغامرة.
كان يا ما كان ... عملاق، بطول مترين تقريباً، ولد عام 1910. بشعره الطويل
الآخذ في الابيضاض وبذقن بحار كثة؛ كان يقدم ذلك النهج المتمايل للبحارة الذين يطأون
الأرض، تقوده قدماه إلى بيت الأدب. كان ذلك عام 1941.
كان معظم الكتاب الشيليين والأمريكان اللاتينيين في ذلك الزمان يتأرجحون
بين نزعتين: كتابة "روايات كبيرة"، تؤكد جذورهم الثقافية الأوروبية بما
لا يمكن نكرانه، أو إعادة إنتاج أكثر التراجيديات شهرة في الأدب السلافي، ولكن
باستعارة مواضيع بلغة هجين. كان الجو في ذلك البيت، بلا شك، جو سُبات، متكبر
ومضجر.
كان من العادة الاستئذان قبل الدخول والصعود حافياً؛ ولكن الرجل بهيئة
البحار دفع الباب بضربة كتف قوية، يقف في منتصف الصالة ويقول: "اسمي فرانسيسكو
كولوان وأنا من طرف العالم!" معه يلج بيت الأدب شيء جديد: ينتزع همهمة البحر
والأصوات، التي يُعبّر عنها بكل لغات الأرض في سهول الباتاغوني وفي العزلة الفظيعة
لأرض النار.
كان لكولوان واحد وثلاثون عاماً عندما وضع كتابين على الطاولة: رواية،
الزبد الأخير الباكودانو، وهي حكاية مؤثرة عن نبل وإخلاص الرجال العاشقين لطبيعة
مهددة، يصف عالم أناس البحر بطريقة جافة، ولكن غنية، عالم لم نكن نعرفه إلا عن
طريق أعمال كونراد أو دو ميلفيل. أما الكتاب الثاني فكان مجموعة قصصية عنوانها
"رأس القرن" Cabo de Hornos، التي يرسم
فيها شخصيات، ومناظر ومشاعر تبرز فيها السمة التراجيدية الملحمية. يترك إذاً هذين
الكتابين ويغادر دون أن يقول كلمة واحدة، لأنه فيما يتعلق برجال هذا الطرف من
العالم، فإن الصمت الجنوبي هو أكبر دليل على الفصاحة.
إن للأدب مديرين غرباء في كل البلاد –والشيلي ليست استثناءً-، بوابون
بشعون، يشغلون وظيفة مراقبي المطبوعات، خبراء التفتيش الذين يقررون، وفقاً لمعايير
اعتباطية توافق تفاهتهم، ما هو من الأدب وما هو من غير الأدب. سأل هؤلاء الأشخاص
البغيضون: من هو هذا الشخص الذي يجرؤ على الدخول دون استئذان ويفرض علينا كتابين
فيهما حرية غير عادية وأخلاقية تدعو إلى الشك، مشبعين بالرذاذ ويقطنهما الكفار، يُقلق
هدوءنا ويجعل ثريات الكريستال تهتز؟
استقبل النقد الأدبي بصمت متعال الأعمال الأولى لكولوان. كان مؤلفاً لا
يمكن تصنيفه، لا يتبع أياً من الأساليب التي كانت سائدة، لا يهتم كثيراً فوق ذلك
بكتابة "روايات طويلة". أخيراً، وكيلا يكون في الأمر مبالغة، فإن القليل
الذي كنا نعرفه عنه يشي برجل أصله قرصان أكثر منه كاتب.
هو ابنٌ لربان سفينة صيد حيتان، تعلم إبقاء قدميه راسختين بقوة على الأرض،
وهي الطريقة الوحيدة لمقاومة الريح العاصفة لكيوتشي، الميناء الخشبي لجزيرة شيلوي،
حيث أمضى سنوات شبابه. يؤرجح الموج الهائج طفولته، أتته كلماته الأولى من لغة أهل
البحر الخشنة والدقيقة، الصيادون، وصيادو الحيتان، وصيادو الفقمة، والغواصون،
والباحثون عن الكنوز – يشعر هؤلاء الأخيرون مسبقاً بأنهم لن يكتشفوا أبداً صرر
المال المخبأة في المنطقة، في قوارب القرصنة الهولندية، لكنهم لا ينفكون مع هذا عن
البحث، يتحركون بنوع من الطوباوية التي، كما كل الطوباويات، لا قيمة لها إلا بقدر
الحماس التي تحرك في قلوب الرجال.
عرف كولوان كيف يجمع حرارة الحكاية المروية حول النار من قبل هنود
التيهولتشي والياغوان والأونا والألاكالوف، الذين يدافع عنهم ويستمر في ذلك، ليس
بسبب بعض من أخلاق "الالتزام"، ولكن لأنه يعتبرهم أقرانه، رفاقه
المتحدرين بعيداً في التاريخ، أعضاء الأخوة الجنوبية.
يصبح صياد حيتان فيما بعد، فقد أقنعته تجربة بضرورة وضع خاتمة لسفك
الحيتان. ثم يصبح على التوالي رئيس عمال في مزرعة كبيرة لتربية الخراف، وبحاراً،
ومسؤولاً عن الأشرعة على السفينة الحربية القديمة باكودانو، وهي سفينة مدرسة تابعة
للبحرية الشيلية، ومكتشفاً في الأدرياتيكي؛ قاد حملات اكتشاف بترول وجاب أقنية
البحار الجنوبية، رسم خرائط بحرية، وشارك في إنقاذ العديد من الزوارق الهالكة...
" يحتل البحر في حياتي وفي كتبي مكانة حيوية، وكذلك الرجال، فأنا أدين
بالكثير لمشهد الجنوب الكبير وحيواناته"، أَسرَّ بذلك يوماً. تجاهله النقاد
ولكن سرعان ما جعل الشباب منه كاتبهم المفضل. أدرك الشباب فوراً أن كتب كولوان،
وللمرة الأولى في تاريخ الأدب، تقدم عناصر ثمينة في التعريف بالهوية الثقافية
اللاتينية الأمريكية. كان التهجين بين الثقافات حاضراً في عمله بعد طول انتظار،
بدون روح الانتقام ولا العار الكاذب. تتمايل في كتاباته لغة أصيلة، تتخلص من أي
نوع من الأكاديمية ومن الترهات أو التزيين البياني. يكتب كولوان عما يعرف، يختار
خيالاته بمهنية وهاجس الصدقية التي للبايادور[1]،
هؤلاء القصاصين المتنقلين المرحب بهم دائماً في العزلة الجنوبية.
يمكن أن نقول إن عمله مسكون "بعناصر الكارثة" باستعادة كلمات
ألفارو موتيس –وهو قارئ لكولوان أيضاً. "في قصصي ورواياتي، حاولت أن أعبر عن
روح الرجل الشيلي، خاصة ذلك الشيلوي أو الماجلاني، الذي يجد نفسه في مواجهة البحار
والخلجان وسلاسل الجبال (كورديليير) الممزقة، التي حفرها جليد الجنوب الذي يزيد
عمره عن آلاف السنين، والمتآكلة من المحيط الأكثر هيجاناً على كوكبنا. على هذا
المسرح الهائل عاش رجلٌ صغيرٌ أحياناً كنسمة من نسمات الشمال، وأحياناً قويٌ مثل
ريح الغرب ..."
نشر كولوان عام 1956 مجموعة قصصية اسمها "تيرا ديل فويغو"[2].
كان وقتها الكاتب الأشهر في الشيلي، كانت كتبه كلها تنتظر بشوق حقيقي في كل أمريكا
اللاتينية. هو بلا شك رائد حكاية المغامرات في قارتنا. يضاف إلى هذا موهبته
الجامحة كرحالة في جولة حول العالم قادته مراراً (للبحث عن ميناء اسمه كولهوناي
الذي كان موجوداً ليس ببعيد عن ماكو...) وقاد آلاف القراء لأن يجدوا فيه الكاتب
الرائع الذي يفتح أبواب عالم مجهول. يدعوهم كولوان للقطيعة مع لعنة الجزيرة التي
تثقل على الشيليين، يدعوهم للخروج وتأمل العالم حولهم.
حصل في عام 1964 على الجائزة القومية للآداب. قلة من كتّاب أمريكا
اللاتينية عرفوا مثل هذه العدد من النسخ التي كانت تطبع فيه كتب كولوان، مثل: رأس
القرن، الزبد الأخير لباكودانو، أوتي الشليوتي، تيرا ديل فويغو، تجاوز كل منها نصف
المليون نسخة لأمريكا اللاتينية فقط. ومنذ ظهور كولوان، بصوته الجهوري الجنوبي، في
البانوراما الأدبية، تبعته أجيال عدة، لكن الشباب يمثلون قراءه الأكثر دائماً.
بدا لي عندما رأيته آخر مرة في شهر آذار عام 1993، كمراهق كبير بشعر طويل
ولحية أبيضين. كان يصلح شراع قاربه قبل أن يغادر إلى قنوات الشواطئ الباتاغونية.
شربناً نبيذاً فواحاً جنوبياً وحدثني عن مغامرته الأدبية الجديدة: كان يكتب عن سجل
الغرق الذي حدث في مضيق ماجلان.
كان يا ما كان ... كلا! كان رجلاً كبيراً صدوقاً، هناك، عند طرف العالم.
لويس سيبولفيدا
هيولفا، إسبانيا، تشرين الثاني 1993.
ترجمة: نور الدين شيخ عبيد
يمكن قراءة إحدى قصصه بعنوان "بنّاء المنارة" من مجموعته القصصية "أرض النار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق