بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 نوفمبر 2024

أرض النسيان / فرانسيسكو كولوان




 فرانسيسكو كولوان
أصبح المشهد كئيباً مع توغلنا في الداخل ومثيراً للقلق على نحو متزايد. الجانب الموحش لبعض الممرات الجبلية يجمّد القلب؛ حتى الأحصنة ترفع آذانها، خوفاً من شيء غير مرئي ولكنه قوي بقوة الصخرة العارية.

كان الممر الذي كنا نسير عليه حافة الهاوية أحياناً وعندما كان ينكشف أمام نظرنا مرأى سيل جارف، يتلوى في قعر سحيق، كنا نتوقف لثانية مستندين إلى الجدار الصخري الذي كان يبدو راغباً في دفعنا في الفراغ. لم نكن شيئاً يذكر، منتصبين بالكاد على ركاب أحصنتنا، نتمسك بشدة باللجام، وتأخذ الأحصنة بخطوة واثقة طريقها على الأرض المليئة بالأحجار والحصى.

رأينا البحر للمرة الأخيرة عند وصوولنا إلى منحنى اتسع عنده سفح الجبل. كان هذا وكأننا كنا نتخلى عن شيء ثمين لن نستعيده أبداً.

فهمنا وقتها ذلك القلق الرتيب الذي سيطر علينا في تلك المنطقة المقفرة. البحر المستحوذ والعنيف عندما نبحر في مائه، كان يبدو لنا من البعيد كرفيق لا يعوّض، اتساع هائل هادئ يجلب مرآه الاطمئنان ويوقظ شعوراً مبهماً بالأمل.

هناك مشاهد ومناظر تبقى محفورة إلى الأبد في الذاكرة تفرض نفسها علينا بقوة عارمة كلحظات من وجودنا. هذه النظرة الأخيرة التي ألقيناها على البحر كانت واحدة من تلك اللحظات، وهناك أدرنا رؤوسنا مرة أخيرة لكي نغرف قليلاً من ذلك الأمل قبل أن نتابع الرحلة وندخل تلك الأرض بالكامل.

انقطع الطريق الموازي لنهر ريو بيكر فجأة بسبب هوة شديدة الانحدار، وهو موقع يمتد من عنده واد هائل تحت ناظرنا المشدوه، الذي فرقت الريح أعشابه بما يشبه جلد القضاعة الناعم عندما تمر عليه نفخة تاجر الفراء. كان ذلك فجوة حفرها جرف ثلجي قديم جداً في قلب الجبل، اختفى اليوم وأحاله الطين الغريني أرضاً خصبة.

كان علينا أن نغير الاتجاه والتحرك نحو الجنوب بحثاً عن ممر يمكن أن يسمح لنا بالنزول. ولم يكن ذلك إلا بعد عدة ساعات من السير حتى بدأت سلسلة الجبال الشديدة الانحدار بالانخفاض، واستطعنا رؤية قعر الوادي الذي اختفى في البعيد خلف الجبل. سماء بلا ضوء كانت تسمح لنا بالكاد أن نميز بين شيئين كانا يثيران فضولي: كان طرف الوادي يخلق سوراً من الجليد المستند إلى الجبل ويبدو أنه يسنده مثل إسفين؛ وفي الأسفل، عند أقدامنا، بقرب دغل من السنديان القزم، في قمة الرعن الأول الذي ينحدر إلى الوادي، لاحظنا كوخاً أكله الصدأ، صغير وقاتم، شاذ، كما لو أنه قُذف به إلى هنا، في ذلك الشق المنسي من الأرض.

بعد نزول طويل كان بإمكاننا أن نطأ ذلك السهل الذي كان عشبه الطويل يلامس ركاب خيولنا. كانت تعّم ذلك المكان عزلة كئيبة، الذي كنت أتخيله عندما كنت في القمة واحة هانئة لأعيننا. كان العشب ينمو بوفرة، يانعاً كما في أرض مزروعة؛ لكن لا طير ولا حشرة ولا حيوان يكسر الصمت الذي تطرده من وقت لآخر نسمة ريح.

أذكر واد مماثل،حفره قديماً جليد هائل في خليج ينديغيا الكائن في قناة بيغل؛ ولكن الإنسان هناك أدخل همس الحياة واثني عشر ألف خاروف يرتعون في السهول التي اخضرّت هي بدورها على بقايا الجليد القديم جداً.

توجهنا نحو الكوخ. أصبح الصمت أكثر فأكثر عداءً، مضطربين بين الفينة والأخرى بنعيب الريح التي تتماوج بين الغابات الباسقة؛ ثم استقر صمت مطبق من جديد.

فجأة يتجمد الدم في عروقي بسبب صراخ شاكٍ، توقفت الأحصنة مرتعبة على وشك أن تلقي بنا أرضاً. سيطرنا عليها بضربات سياط ومهماز. ومن بين كل الحيوانات فإن الأحصنة هي الأكثر التي تخاف من المجهول، كانت خياطمها ترتجف، لمع الخوف في عيونها واختلجت قوائمها من الرعب الأمر الذي لم يحدث معها إطلاقاً عندما كانت تسير على شفا الهاوية.

اطمأنت في النهاية لكثرة ما ربتنا على كتفها؛ لكن لم تمض إلا دقيقة حتى صدرت صرخة جديدة، أقل شدة من الأولى، تشبه عواء ذئب مريض أو جريح. في هذه المرة كانت بعض ضربات اللجام كافية لجعل الأحصنة تبقى ساكنة في مكانها.

توقفنا ننتظر. أصبح الصمت ثقيلاً لا يطاق.

لكن في اللحظة التي كنا سنعاود فيها السير برز حيوان غريب: كلب أجعد يذكّر بكلب الصيد السلوقي السريع، ولكنه كان كلباً بأنف أفطس وبعيني ذئب، قائمتاه الأماميتان عاليتان لدرجة أنهما كانتا تبدوان وكأنهما تجران الجسم كله، ووَبرٌ كث، متصلب وطويل مثل وبر الفقمة. كان خليطاً غريباً ومنفراً يذكّر بالضبع. ظهر بقربي، كنت أخشى أن يقفز على حصاني، هيأت بندقيتي وصوبتها نحوه. لكن صديقي في الرحلة كليفتون أمسك في الحال بماسورة البندقية وحرفها. ظهر في تلك اللحظة رجل بين العشب الطويل، أمسك بكلبه – لنسميه هكذا - من إحدى أذنيه، وتسمر بقربه.

اقترب منه كلفتون وقال له شيئاً لم أتمكن من سماعه. أجاب الرجل بصوت أبحٍ غير مفهوم، وأشار بذراعه إلى قعر الوادي كما لو أنه يدلنا على الطريق.

تقدمنا في الاتجاه الذي أشاره ذلك الشخص الغريب يتبعنا ممسكاً بكلبه من أذنه، حتى وصلنا الهضبة حيث الكوخ؛ لكنه لم يتركنا نستمر إلى الأمام. قطع علينا الطريق، متمتماً بصوته الأبح كلاماً غامضاً، ومهدداً باستعمال كلبه، ماداً من جديد بذراعه نحو الجبل في قلب الوادي.

غادرنا بالاتجاه الذي أشار علينا به، ولكنه كان يتابعنا بنظراته معتلياً أكمته. وجدنا أنفسنا بعيداً في الوادي عندما سمعنا عواء الكلب المرعب بقربنا؛ كان الحيوان على وشك الانضمام إلينا عندما انطلق صوت أبح من حنجرة الرجل. وقف الحيوان على قائمتيه، دار حول الأحصنة دوراناً مهدداً، رفع خطمه ليعوي وتراجع راكضاً باتجاه صاحبه.

بعد قليل، وحينما بدأنا بالصعود، سمعنا صرخة جديدة أقل حدة ولكن أكثر عمقاً، أصابتني بالذعر أيضاً؛ لكن الرجل والحيوان كانا بعيدين الآن وليس إلا الريح التي تعوي في الوادي المظلم.

أخذت العتمة بالحلول، ورويداً رويداً أصبح كل شيء معتماً ومنكمشاً كقلب وحيد؛ مثل قلب متحجر لهذه الطبيعة التي طحنت في نسيانها المديد آخر الآثار البشرية.

لم يكن كليفتون، الذي يملك مزرعة كنا نسير باتجاهها، شخصاً فصيحاً يستعجل تقديم التفسيرات. كان يترك الأشياء تتحدث عن نفسها، وإلا كان يتدخل ليقول ما يعرفه عن بحيرة أو عن حيوان أو جبل تركناها خلفنا. لا أعرف إذا كان ذلك صفة حكمة أو مزاج شخصي؛ ومهما يكن من أمر فهو لا يتحدث أبداً عبثاً ولا ننسى مباشرة ما يقوله.

عندما عبرنا الهضاب وبلغنا سفح الجبل حيث تبدأ غابة من البلوط، كانت الليلة حالكة لدرجة أننا قررنا التوقف.

أوقد كلفتون، الذي كان جبلياً خبيراً، ناراً عامرة التففنا حولها لتذوق اللحم المجفف الذي كنا نحمله في أكياسنا.

في اللحظة التي كنا نحضر فيها الأقداح المعدنية للقهوة، سألني بلا مقدمات:

- كيف تفسر حالة ذلك الرجل الذي قابلناه في الوادي؟

كان كلفتون يذهب مباشرة نحو القصد، كما لو أن حديثاً تمهيدياً قد جرى للتو ولم يبق إلا استخلاص النتائج.

- تفككٌ سببه الطبيعة، أجبته محاولاً أن أكون دقيقاً.

لكني أدركت في الحال أنني لم أكن إلا متحذلقاً، أضفت كما لو أني أعتذر:

- ذات مرة، أمضيت ثلاثة أيام على صخرة في البحر وعندما جاؤوا لإخراجي من هناك كنت أتحرك كسلطعون!

- لقد حدث لي ما تسميه "تفكك"، تابع كلفتون ماضغاً الكلمة وكأن في فمه حصى. تبدأ الطبيعة دائماً "بتفكيك" شخص قبل أن "تدمجه" كعنصر من عناصرها. ففي مرحلة أولى، يبدو أنه محكوم عليه بالاختفاء، وفي الواقع فإن البعض يموت؛ وفي الثانية، يولد من جديد تحركه قوة جديدة. ربما أن الطبيعة تنتقي هكذا هؤلاء الذين يناسبونها بالتخلص من الآخرين. وما أتحدث عنه جرى في أيام شبابي، كنت راعياً لمدة ثلاث سنوات في أرض النار، بالقرب من بحيرة فاغنانو. هناك بدأت بفقدان عادة القراءة؛ فما كنت أجده في الكتب كان يبدو لي تافهاً، لا مغزى له، وكنت أفضل صوت أوراق الشجر على أفكار أفلاطون الأكثر عمقاً. بعدها توقفت عن التفكير والتساؤل. لم أعد شيئاً وكان ذلك يؤلمني. ومن ثم أدركت أن التفكير الذي هجر عقلي حلت محله أشياء أخرى وكان ذلك نوعاً من إعادة الولادة: أصبحت رجلاً آخر. فأصبح للنبات في عيوني قيمة سحرية؛ ولكن لم أعد أرى الطحلب مجرد عشب مخضّر ينمو على القشرة الأرضية، ولكن كعنصر أكثر أهمية وأكثر غرابة يرافق وجودي، مثل كلبي أو حصاني. من القلق الساكن الذي بدأت ظلال الليل توقظه فيّ حتى غناء طيور البريق الأول للشفق، كل شيء هناك في الطبيعة وقبله كنت أفتقر إلى العيون والحواس والعقل للنظر والاستماع والتأمل.

"غادرت هذه الأماكن وقمت بجهد هائل لفتح كتاب وإشعال ذلك الضوء الضعيف فيّ الذي لا يسطع إلا بين أربعة جدران. كيف يمكن إدخال الحضارة في الطبيعة والطبيعة في الحضارة! آه! ... لا تعرف ما معنى أن تجد نفسك أمام موقد دافئ بين أربعة جدران في وسط تلك الوحدة!

عرفت كلفتون منذ الطفولة في بيونتا أريناس، عملنا معاً في مزرعة في شرقي أرض النار. كان كلامه على صورة حياته: كان يسير فجأة في الطريق الأقل توقعاً، بدون أن يعرف هو نفسه إلى أين سيصل، كانت له تلك الخصوصية، من بين أشياء أخرى، بالتوجه إلى محدثيه مقدراً أن ما يعرفه يجب أن يعرفه الآخرون أيضاً. لذا كنت أقاطع كلامه ببعض الفظاظة، وذلك لإعادته للحديث الأصلي الذ كان يبدو أنه قد تاه عنه.

- ماذا عن هذا الرجل في الوادي مع كلبه الغريب؟

- آه! ... الذي عاناه العجوز فيدال يتخطى "التفكك"، قال مؤكداً من جديد بسخرية من الكلمة. لا أستطيع شرح أمر الكلب كثيراً. يمكن أن نرى في متحف الساليزيان في بيونتا أريناس، حصاناً أعيد تركيبه له جلد مشابه في كل شيء لجلد الغوناق؛ إنه "حصان-غوناق" حقيقي. التهجين بين فقمة وكلب يبدو لي أمراً مستحيلاً ... لكن هذا ما يمكننا تخيله مع هذا المخلوق ... وبعد كل شيء إذا كانت السنوات التي عشتها بالقرب من بحيرة فلغنانو غيرت فيّ حتى طريقة التفكير، ومع أن الرب نفسه قد تحول فلما الطبيعة لم تحوّل هي نفسها أجيالاً من الكلاب إلى أن وصلت إلى تلك "السلالة" الغريبة؟ أذكر أني رأيت على جزيرة قناة موراليدا قطيعاً من الجرذان التي كانت تقذف بنفسها في الماء لصيد أسماك ومحار، كانت تتسلق الأشجار لاففة ذيولها حول جذوع الأشجار لاصطياد العصافير. تطورت ذيولها على نحو غير عادي وأقدامها أصبحت تشبه الزعانف. كيف وصلت تلك الجرذان إلى الجزيرة؟ لا أحد يعرف. ولا نعرف أكثر عن كيفية وصول هنود اليغهان إلى قناة بيغل! وإذا وصلوا بالقوارب الخشبية الصغيرة كما نفترض من المحيط حتى رأس القرن (كاب هورن)، فإن للجرذان أيضاً إمكانية الوصول إلى هذه الجزيرة الموحشة من قناة موراليدا، في صندوق مطلي بالشمع عقب غرق سفينة في قعر خليج كوركوفادو. علاوة على ذلك فإن رجال العلم يؤكدون أن الذئب والفيل والنمر والعجل البحري هم أقارب أقرانهم الذين يعيشون على اليابسة، الذين "تفككوا"، كما تقول، والذين "عادوا إلى الإندماج" في البحر. فلا يجب استغراب رؤية أحصنة بحرية تعدو في هذا الوادي المنسي، الذي يؤكد عديد من البحارة رؤيتهم في زبد الأمواج. لا تنس أنه يمكن أن يكون هناك أي شيء على هذه الأرض فقد عبرت حملات استكشافية ألمانية كثيرة قناة الباكر بحثاً عن العظاءة الكبيرة التي يعتقد أنها عاشت هنا.

أدركت أن كلفتون نسي تماماً بداية المحادثة وأن مواقع عديدة برزت في نفسه كان يستغرق فيها بيسر ويتفرع منها بلا نهاية. وعندما رأيته على وشك الضياع، أعدته بقسوة نوعاً ما إلى نقطة البداية.

- كل هذا عام جداً، ولكنك لم تشرح لي ما الذي حدث لرجل الوادي هذا؟

- آه! ... العجوز فيدال ... عمل لسنوات عديدة في الباتاغوني، بأمل أن يصبح يوماً مستقلاً وأن تكون له أرضه. ولكن كما تعرف، لم يبق في الطرف الجنوبي الأقصى من التشيلي قطعة أرض جيدة واحدة لا تمتلكها شركات تربية المواشي الكبيرة.

"سمع فيدال عن واد اكتشفه قاطعو أشجار السرو في أراضي قناة الباكر. وبعد أن استكشف المكان، قرر استثمار مدخراته، التي راكمها عبر السنين، على شكل خراف وأشكال مادية. وهكذا أصبح على رأس مزرعة صغيرة تضم بين ثمانية وعشرة آلاف رأس من القطيع.

"كان عليه القبول بالكثير من التنازلات الكبيرة لكي يحضر القطيع الأول. كان العشب وفيراً. وكل شيء يسير على ما يرام. أحضر زوجته وأولاده الأربعة، مع ستة أو سبعة عمال ورعاة، شكّل مستعمرة صغيرة كانت بيوتها بأسقفها الحمراء تبدو من بعيد كعلب أعواد الثقاب مبعثرة في الوادي.

"سمى هذه الأرض بالأرض الموعودة. كان يحمل الصوف على ظهر البغال إلى قناة الباكر ومن هناك كان يذهب إلى أيسن أو إلى كومودورو ريفادافيا. كان أحد مشاريعه استعمال السرو للجانب الشمالي للنهر لبناء طوافات لنقل منتجاته نحو قناة ميسيير، حيث تمر المراكب التي تذهب من مضيق ماجلان إلى خليج بيناس.

"لكنه لم يتمكن من بناء طوافاته. ولو أنه تمكن من ذلك، لما بقي على الأغلب هنا، كما رأيناه.

"في سنة ما، كانت الشمس قوية جداً، وكان هذا أمر نادر في تلك المنطقة، فذاب الجليد حتى طبقات الجليد القديمة جداً.

"بينما كان فيدال عائداً من النهر، حيث كان قد ترك بعضاً من محصوله من الصوف. وعندما وصل إلى طرف الوادي، كان المشهد أمام ناظريه مريعاً ... كل شيء كان قد دُمّر! سُويّ العشب بالأرض، وعلى التراب ألقيت جثث زوجته وأولاده وعماله التي بدأت في التفسخ، وقد التهمت النسور التي عشعشت في الوادي جزءاً منها. البيوت التي انتزعت من أساساتها تهشمت كعلب الكبريت. اختفى الجزء الأكبر من الخراف، ومن بقي من كلاب وأحصنة كان ممدداً على الأرض. كانت الكارثة هائلة.

أضرم كليفتون النار بالاستعانة بجمرة متوقدة وتأمل بصمت اللهب، الذي كان يتقلص مع تضخم قلب خشب البلوط برقصته من الظلال والأضواء.

- تابع كليفتون قائلاً إن هؤلاء الذين رافقوا فيدال قالوا إنه فقد القدرة على الكلام مباشرة. ولكن بعد فترة تمكنت من الحديث معه بالرغم من تلعثمه وفهمت ما رواه لي. حالياً، لديّ شعور أنه فقد اللغة تماماً، وكما رأيته أنت، فقد فَقَدَ الذاكرة، ذلك أنه لم يعرفني حتى. ربما أصبح مجنوناً أو لا، ولكن من الثابت أنه لا يمكن جعله يغادر الوادي. وبما تبقى من صفيح بنى تلك الخيمة الصدأة التي رأيناها من الأعلى وهو يعيش، لا يعلم إلا الله كيف، مثل شبح يسكن هذه المناطق، يرافقه كلبه الغريب.

"هذا الرجل، ارتبط بهذا المكان بسبب الألم، هل ينتظر أيامه الأخيرة؟ هل هي ذكرى زوجته وذكرى أطفاله، ومزرعته الوافرة ما يربطه بهذا الوادي إلى الأبد؟ لا أحد يعرف ما الذي يدور بخلد هذا الإنسان الذي صعقه القدر! ولكن لماذا الدهشة من سلوك فيدال، في حين أني رأيت صياداً يقذف بوجبته كل مساء في الأمواج في المكان نفسه الذي غرقت زوجته فيه! كان هذا الرجل ينتظر للحظة قبل أن يقذف بغذائه في الماء، كما لو كان يأمل عودة زوجته! ومن ثم يلقي بالخبز، قطعة بعد قطعة، وبمحتويات صحنه ملعقة بعد ملعقة، كما لو أنه لم يكن لديه أي شك بأنه يضع الطعام بفم زوجته التي أحبها كثيراً! ...

صمت كليفتون وأضرم النار من جديد. انعكاس اللهب يتراقص في عينيه الخضراوين اللتان يغشاهما مرور بعض الظل. احترمت صمته ولكن ذلك طال لدرجة أني خشيت أنه لن يتابع حكايته. هل يتصور، بحسب عادته، أني أعرف سبب تهديم مزرعة فيدال؟ وبلا اكتراث قاطعت تأمله.

- ما الذي حدث في الوادي إذاً؟

- آه! ...

شاعراً بأنه لم يكن عازماً على الكلام، أضفت:

- هل كان هو المد؟

- لا، البحر بعيد من هنا.

- لا تنس أنه في ألتيما إسبيرنزا يحدث أن يخترق البحر سلسلة الجبال حتى أطراف سهوب البامبا في الباتاغوني.

- نعم، ولكن مضيق ألتيما إسبيرنزا مختلف تماماً، يمكن أن يكون من الأصل نفسه الذي سبب كسر مضيق ماجلان. هذه حوادث هائلة؛ وبالمقابل فإن حادث قناة أو نهر باكر هو حادث صغير.

"سبب هذه التراجيديا هو طوفان، الذي من وقت لآخر وبطريقة لا يمكن توقعها، يغمر الوادي. من الممكن أن تمضي سنوات عديدة دون أن يحدث أي شيء، لكن في اليوم الذي لا نتوقع فيه أي شيء، ترتفع موجة هائلة وتغمر كل شيء. وما لم تستطع تدميره في تقدمها تأخذه معها في انحسارها بسرعة هائلة نحو مدخل الوادي، قبل أن تنخفض إلى مستوى مياه النهر.

"لقد فهمت الظاهرة بمراقبتي روافد الجانب الشمالي لباكر. عندما يكون الشتاء قاسياً والصيف معتدلاً، تحمل المياه كتلاً من الطمي ترفعه الأشجار الكبيرة العديدة المقتلعة، التي تنتهي محصورة عند الثغر مشكلة سدوداً. وفي يوم ما تتحطم هذه السدود، وتنفجر المياه هادرة رافعة مستوى الأنهار. مثل الباكر الذي يجري هو الآخر في وسط المضائق، وهذه المياه تفيض وتتقدم باتجاه الوديان والفجوات الموجودة على مستوى أدنى.

"وهذا ما حدث في مجرى ذلك الجليد القديم. تشكل سد على أحد أفرع الباكر وبذوبان غير معهود فاضت المياه على الوادي محطمة كل شيء على طريقها.

سألته: لم يرغب أحدٌ من يومها بالاستقرار هنا؟

- لا أحد! أجاب كليفتون. من مضيق ماجلان حتى خليج بيناس، نجد بين الممرات البحرية والأقنية عدداً من الوديان الجميلة مثل هذه، ولكن لا أحد يعرف لماذا هي مهجورة. إنها أراضي النسيان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق